“التطبيع السينمائي”.. خط أحمر يستفز الثوابت العربية

يثور بركان الغضب العربي ضد “التطبيع الثقافي” مع الكيان الصهيوني، فلا يهدأ قبل أن يحاصر هذا الكاتب أو المخرج أو الممثل العربي وعددا من المهرجانات الثقافية، يخرج النقاش إلى العلن ضد هذه المعضلة مع رفضٍ تام جملة وتفصيلا لكل أشكال التطبيع، وكل واحد يقدم حجته لبحث الحلول من أجل الوصول إلى ما يدعم القضية الفلسطينية دون التسبب في عزلة للمثقفين والسينمائيين العرب عن العالم.

السينما العربية.. هل هي ضحية التطبيع؟

تقع المهرجانات السينمائية العربية عادة ضحية “التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني”، وقد تعرضت الدورة الـ40 لمهرجان القاهرة السينمائي إلى موجة من الانتقادات بسبب قرار تكريم المخرج الفرنسي كلود لولوش ومنحه جائزة “فاتن حمامة”، فقد بدا هذا الاختيار لرئيس المهرجان محمد حفظي نوعا من الانفتاح نحو العالمية، لكنه في لحظة تحوّل لقنبلة كادت أن تنفجر في وجه الجميع بسبب تورط المخرج الفرنسي مع الكيان الصهويني، وزيارته وتصريحاته المغازلة لإسرائيل، ليتم التوافق بعد أسبوع من الجدل في مصر بإلغاء التكريم نهائيا.

الأمر نفسه بالنسبة لدول المغرب العربي، فالسينما الجزائرية والتونسية والمغربية عادة ما تواجه المشكلة ذاتها، وتصل إلى حد “تخوين” أي مخرج يوافق على أن يعرض فيلمه في مهرجان تشارك فيه إسرائيل، وحدث ذلك عدة مرات، ففي الدورة الـ68 لمهرجان لوكارنو السينمائي عام 2015 انفجرت موجة من الانتقادات في وجه المخرجين العرب الذين قبلوا المشاركة في المسابقة الرسمية، في الوقت الذي كانت فيه “السينما الإسرائيلية” هي المُكرّمة في الدورة.

وقد قامت الدنيا في الجزائر كذلك، ولم يهضم أحد مشاركة المخرج الجزائري إلياس سالم في مهرجان حيفا السينمائي، وخلفت الأزمة جراحا على جسد مخرج فيلم “الوهراني” الذي لم يتوقع أن الأمر قد يتحول إلى حرب شعواء ضده، خاصة وأن المخرج محسوب على التيار الفرنكوفوني، وقد وجد إلياس نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإما المضي قدما وهذا يعني الحكم بالإعدام على جميع نشاطاته في الجزائر، أو الانحناء للموجة والقبول بمطالبها المتمثلة في سحب المشاركة.

وتحت ظروف هذا الضغط قرر المخرج سحب مشاركته، ونشر اعتذارا مستحقا على صفحته الخاصة مؤكدا فيه أن القضية الفلسطينية تبقى خطا أحمر، وأنه في المستقبل لن يكون شريكا بأي مهرجان يحمل شُبهة “التطبيع”.

الأمر نفسه بالنسبة للمخرج مرزاق علواش الذي شُنّت عليه حملة في الجزائر عندما أعلنت إدارة مهرجان حيفا خبر مشاركة فيلمه “مدام كوراج”، واتُهم علواش حينها بـ”الخيانة”. وتحركت وزارة الثقافة بقوة ضد الفكرة لدرجة أنها أصدرت قرارا يفرض شروطا صارمة على كل المخرجين الذين يرغبون بالمشاركة في المهرجات السينمائية خارج الجزائر. واضطر علواش في النهاية لإعلان سحب مشاركة الفيلم من المهرجان، وقال عن هذه التجربة “هناك شعرة تفصل بين السياسي والسينمائي”، ووجه رسالة إلى المسؤولين عن قطاع الثقافة في الجزائر قائلا “أنا سينمائي ولست رجل سياسة، أنا مع السلام في الشرق الأوسط ومع إقامة دولة فلسطين”.

التطبيع والسينما العربية.. أيهما يحاصر الآخر؟

وفي هذا الشأن يقول الناقد البروفيسور أحمد بجاوي لـ”الجزيرة الوثائقية” “أن موضوع التطبيع الذي يحاصر السينما العربية بين الحين والآخر يعكس حالة التخبط العام الذي يعيشه الوطن العربي”، وأضاف بجاوي الذي عايش كل مراحل السينما الجزائرية أن أول نقاش دار في الجزائر بشأن مفهوم التطبيع الثقافي كان سنة 1976، وذلك عندما عرض التلفزيون الجزائري فيلم “الذاكرة الخصبة” للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفة.

في العالم العربي لا يزال المثقف يقف سدا منيعا ضد التطبيع ويرفض كل أشكاله

وأوضح بجاوي “لقد كان هناك خلط كبير في الجزائر حول مفهوم التطبيع، وكانت بعض الأصوات تطالب بسحب الفيلم (الذاكرة الخصبة) خاصة وأن مخرجه ينتمي إلى فلسطينيي 48″، ويضيف “لقد كانت الضجة كبيرة في الجزائر، وقد ظهر للعيان أن الجزائر من أشد الدول رفضا لكل أشكال التطبيع حتى ولو تعلق الأمر بفلسطينيي 48”.

وحسب بجاوي فإن هناك سحابة كبيرة تخيم على مفهوم التطبيع الثقافي، لأن العرب في سبعينيات القرن العشرين كانوا مندفعين جدا بالعواطف، إلى أن جاء لقاء للرئيس الراحل ياسر عرفات مع رئيس الحكومة الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1993 وعقد اتفاقية السلام، ويشير بجاوي إلى أن “تلك المصافحة التاريخية غيرت مجرى تاريخ التطبيع، وبدأ الجميع يتحدث عن السلام”.

الناقد البروفيسور أحمد بجاوي

وفي هذا الإطار يوضح أن العرب لم يحققوا ما يكفي من نتائج تسمح لهم بناء جسور ثقافية مع الكيان الصهويني، وقال “منذ ثلاثين عاما لم نتقدم، تأخرنا كثيرا في مسألة السلام”، وهو ما يعني أن هناك ضرورة كبيرة اليوم لرفض كل أشكال التطبيع، كما قال “لا يجب أن نتحدث عن أي شكل من أشكال التطبيع ما دام هناك نكران من قبل إسرائيل للدولة الفلسطينية، لا تطبيع ما دام الاحتلال الإسرائيلي يتوسع، ولا تطبيع ثقافي إلا بعد الاعتراف بحق العودة”. ويقول الناقد البروفيسور أحمد بجاوي “أن موضوع التطبيع الذي يحاصر السينما العربية بين الحين والآخر يعكس حالة التخبط العام الذي يعيشه الوطن العربي”

التطبيع الثقافي.. احذر الشعوب

من عالم السينما إلى عالم الكتّاب والثقافة حيث يدفع عدد كبير من الأدباء العرب الثمن غاليا جراء قيامهم بزيارة تل أبيب، ومن بين هؤلاء الكاتب الجزائري بوعلام صنصال الذي تعرض لحملة كبيرة ومحاصَرة من الدول العربية وفي مقدمتها بلده الأصلي الجزائر، وذلك بسبب مواقفه الداعمة للكيان الصهيوني.

زيارة بوعلام صنصال إلى تل أبيب فتحت له أبواب النجومية في أوروبا، وساهمت في الترويج له ككاتب مناصر للسلام في فرنسا وزادت من نجوميته أيضا، لكن في المقابل أصبح منبوذاً في الجزائر، ولا يزال ممنوعا من المشاركة في كافة المحافل الثقافية العربية، حيث يُنظر إليه اليوم على أنه أحد رموز الخذلان في الجزائر، خصوصا وأن هناك عشرات الأصوات لمخرجين وفنانين عالميين يرفضون دعوة تل أبيب رغم كل الإغراءات.

المخرج مرزاق علواش الذي شارك في مهرجان حيفا بفيلمه “مدام كوراج”

في عام 2016 وجّه كل من النجم كيسي أفليك وإيما ستون ولينارديو دي كابريو وجينفير لورنس صفعة للحكومة الإسرائيلية بإعلان رفضهم زيارة إسرائيل، وهكذا ترتسم على جبين الكيان الصهيوني بين الفينة والأخرى وصمة العار بسبب البيانات التي يصدرها بعض الفنانين العالميين الذين يرفضون زيارة إسرائيل، ومؤخرا أطلق مئة فنان عالمي بيانا أعلنوا فيه مقاطعة مهرجان الأغنية الأوروبية في إسرائيل، وذلك كنوع من الاحتجاج على جرائم الدولة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني. وقد شُنّت على المخرج مرزاق علواش حملة في الجزائر عندما أعلنت إدارة مهرجان حيفا خبر مشاركة فيلمه “مدام كوراج”، واتُهم علواش حينها بـ”الخيانة”

المثقف العربي.. مع التطبيع أم ضده؟

في العالم العربي لا يزال المثقف يقف سدا منيعا ضد التطبيع ويرفض كل أشكاله، وفي هذا الصدد يرى الناشر اللبناني علي بحسون صاحب دار الفارابي أن التعاون الثقافي في إطار التطبيع لا بد أن يبقى مرفوضا بجانبيه السياسي والثقافي، وذلك لأنه اعتراف بكيان مغتصب على أرض عربية، ويقول بحسون لـ”الجزيرة الوثائقية” من المفترض عدم أخذ هذا الموضوع بخفة، لأنه تاريخي ويهم مستقبل الأجيال القادمة”، وأضاف “يجب أن يكون الصراع صراع وجود وصراعا طويلا، وأن يبقى الرفض قائما حتى لا تعيش الأجيال القادمة ما يعيشه جيل اليوم”، مشيرا  إلى أن كل خطوة نحو التطبيع “تعكس انهزام العقل العربي التنويري الذي حلّ محله الفكر الطائفي المذهبي”.

وأكد الناشر اللبناني أن لبنان ترفض الأمر جملة ومضمونا، مشيرا إلى أن هناك عددا من الأمثلة التي تعكس رفض الدولة اللبنانية لكل أشكال التطبيع، حيث تم منع عدد من المغنين من أصول لبنانية من العودة إلى لبنان بسبب زيارتهم الكيان المغتصب، كما يذكر الحادثة التي تعرضت لها ملكة جمال لبنان بعد أن وافقت على أن تلتقط صورة إلى جانب ملكة جمال إسرائيل، وتسببت الصورة في سحب اللقب منها. كما واجه المخرج اللبناني زياد الدويري أزمة كبيرة حين عودته متوجا بجائزة مهرجان فينيسيا، وقررت السلطات اللبنانية سحب جواز سفره بسبب شبهة تعاونه مع الكيان الصهيوني لتصوير أفلامه.

ويقف المثقف العربي محاصرا بالسياسية والاقتصاد، وقرار بعض الدول التعاون مع الكيان الصهيوني إلى مستوى إبرام معاهدات سلام وتبادل البعثات الدبلوماسية، ورغم ذلك لا تزال مسألة التطبيع الثقافي تشكل خطا أحمر لدى عدد كبير من المثقفين.

ويؤكد الناشر التونسي عماد الغزالي صاحب دار المتوسطية للنشر بأن موضوع التطبيع الثقافي لا بدّ أن يُدرس على نار هادئة من خلال طرح سؤال “ماذا سنربح منه وماذا سنخسر على مستوى العلاقات الإستراتيجية؟”. ويقول لـ”الجزيرة الوثائقية” “نحن اليوم في دور الضعيف وليس القوي، لهذا فإن نتائج التطبيع ستُفرض علينا لأننا في موقع انهزام منقطع النظير في تاريخ العالم العربي”، ويُضيف “يجب تحرير الأرض أولا، ما دامت الأرض مغتصبة ومحتلة يجب أن يتوقف كل شيء، لأننا بذلك نجعل من عملية الاغتصاب أمرا واقعا يمكن التعامل معها”.

“التطبيع” مرفوض.. ولكن ما الحل؟

يشكل موضوع التطبيع الثقافي مع الكيان الإسرائيلي محور إجماع لدى المثقف العربي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل المقاطعة تحل المشكلة؟ وإن لم تكن قادرة على ذلك، فما هو الطريق الذي يجب أن نسلكه؟

يجيب الباحث والمترجم والروائي الجزائري محمد ساري لـ”الجزيرة الوثائقية” “يجب أن ندرك بأن مسألة فلسطين مسألة مبدأ، وقضية تحريرها من الاحتلال مسألة لا نقاش فيها”، مشيرا إلى أن فرص دعم القضية الفلسطينية تكمن من خلال التعامل فقط مع الأصوات التي تؤمن بالدولة الفلسطينية، ومنها أصوات اليهود والمجتمع المدني والمثقفين الإسرائيليين المدافعين عن القضية، فبحسبه “هناك بعض الإسرائيليين يوافقون على إقامة الدولة الفلسطينية ويطالبون بذلك”، وأضاف “إذا كانت هناك ثمة جسور سياسية قد بنيت فلا داع للعلاقات الثقافية، يجب أن نضع سدا للمطالبة بالحق الفلسطيني أولا، ويجب أن نعمل على تحديد الهدف الأساسي وهو قيام دولة فلسطين، فالحوار قد يكون ممكنا في ظل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وليس قبله”.

ويعقد ساري مقاربة بين القضية الفلسطينية ومسارها والثورة الجزائرية “في ثلاثينيات القرن الماضي عندما كان بعض الجزائريين يراهنون على الاندماج مع فرنسا، لكن مجازر 8 مايو/أيار 1945 غيرت مجرى هذا التفكير”، وأضاف “بعد سبع سنوات من الثورة اقتنعت فرنسا بأنه لا حل للقضية الجزائرية إلا بالسياسة”، وهكذا تبقى فكرة التنازل عن القضية أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا.

وهو الأمر الذي يتفق معه الدكتور محمد بغداد وهو مدير الإعلام بالمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر، فبالنسبة له يجب أن “لا نغطي شمس الحقيقة بغربال العناوين العاطفية” من خلال طرح النخب العربية للأسئلة الخاطئة، والقضايا التي يصفها محمد بغداد بـ”القضايا التي باتت خارج الزمن”.

ويضيف “عندما نتحدث عن هذه العناوين تخفى مسائل أخرى لها علاقة بـالاقتصاد والفكر وحتى التكنولوجيا العسكرية”، لهذا يوضح أن الحل يجب أن يكون من خلال عقد مؤتمر عربي شامل يحدد الجدوى من التعاون الثقافي بما يخدم المصلحة العربية، كي لا نعيش خارج الإطار العالمي.

ويرى أنه “لم يعد هناك احتفاء بمفهوم الأمن القومي العربي، ولم يعد هناك احتفاء بصناعة الفكر في الوطن العربي، ولم يعد هناك معنى لهذه المنطقة الجغرافية”، ويضيف أنه “لا توجد ثمة مساهمات حقيقية لهذه المنطقة في المسيرة الإنسانية اليوم، ولا يجب أن تتوقف مسألة التطبيع عند حدود المزايدة والشعارات دون تقديم حلول حقيقية للقضية الفلسطينية”.


إعلان