نظام الفصل العنصري.. قرون من غطرسة المستعمر الأبيض في جنوب أفريقيا
التاريخ سلسلة من الأحداث المذهلة، يستطيع كل منا أن يؤثر في مجراه؛ فمن ظهور إمبراطورية عمرها ألف عام إلى انهيار حضارة مزدهرة، ومن العبقرية لحفنة من الرواد إلى ثورة ثقافية عالمية، ومن المقاومة البطولية لشعب كامل إلى التصميم الحديدي لأقلية معينة، إن أبسط القرارات التي نتخذها قد تؤثر على مستقبل البشرية، وبمعرفة الماضي نستشرف المستقبل.
وضمن سلسلة “سيناريوهات تاريخية” التي تعرضها قناة الجزيرة الوثائقية، تتناول هذه الحلقة بعنوان “نظام الفصل العنصري” تاريخ دولة جنوب أفريقيا منذ استوطنها الأوروبيون الأوائل، مرورا بالاحتلال البريطاني وإقامة نظام الفصل العنصري، وحتى ثورة السود بزعامة “نيلسون مانديلا”، وتحرير البلاد من هذا النظام البغيض.
اقرأ أيضا
list of 4 items“شهيد الأبارتيد”.. الإمام الأسمر الذي قتله نظام البيض العنصري
“مالكوم إكس”.. زعيم مسلم أسود حارب العنصرية في نفسه وفي الناس
الاسلوب الملحمي في سرد مسيرة مانديلا الطويلة
إلغاء العبودية.. مضايقة المستعمرين الجدد للأقدمين
في ديسمبر/كانون أول 1838، وعندما كان شباب الزولو يتساقطون برصاص الرجال البيض على الطرف الجنوبي لأفريقيا، كانت مياه النهر تصطبغ بدمائهم، وهنا عادت بهم الذكريات إلى قرون خلت، عندما جاء الهولنديون لتأسيس مستعمرة في الطرف الجنوبي من القارة الأفريقية. كان عام 1652 بداية قصة معقدة بقدر ما هي عنيفة.
وخلال السنوات التالية تطورت المستعمرة مع وصول المستوطنين الفرنسيين والألمان والإسكندنافيين، من الذين وحدتهم العقيدة البروتستانتية، لكن سرعان ما افتقرت المستعمرة إلى القوة البشرية والمساحات، وقد حلت القضية الأولى من خلال التدفق الهائل للعبيد، أما المسألة الثانية فحُلّت بغزو المناطق الحدودية التي كانت تسكنها شعوب الكولكوي والبوشمن.
في عام 1795 تغير ميزان القوى بشكل كبير، فقد استولت الإمبراطورية البريطانية على المستعمرة وفرضت سلطتها على “البوير”، وهو اللقب الذي كان يطلق على المستوطنين البيض، ومعناه الفلاحين. كان البريطانيون أقلية في البداية، لكن عددهم ارتفع مع وصول أعداد كبيرة من المهاجرين، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة السائدة.
وفي 1828 ظهرت الأنجليكانية كدين للدولة، وحل القانون البريطاني محل الهولندي، فخاف البوير أن تكون هويتهم معرضة لخطر الاختفاء، وفي 1833 ألغى البريطانيون العبودية، وهنا شعر البوير أن نظامهم الاقتصادي برمته أصبح موضع شك، وخلال السنوات التالية نزح أكثر من 15 ألفا من البوير إلى الداخل لمواصلة أسلوب حياتهم، والبحث عن الأراضي البكر، فيما سمّي بالرحلة الكبرى.
معركة نهر الدم.. شعب الله المختار يكافح للبقاء
في عام 1838 دخل البوير أرض إمبراطورية الزولو المتوسعة، عندها كان لا مفر من الحرب، فقد حاصر 15 ألفا من الزولو بضع مئات من المستوطنين المتحصنين في دائرة من العربات، لكن على عكس البوير لم تكن لدى الزولو أسلحة، فقتل منهم ثلاثة آلاف شاب رميا بالرصاص، وحمل النهر الذي كان ساحة المعركة وامتلأ بدماء الزولو؛ اسم نهر الدم.
كان البوير يعتقدون أنهم مختارون من الرب، وأنه أناط بهم مهمة إلهية، وبدأوا تدريجيا يؤمنون بهذا المصير ويقارنونه بقصة خروج اليهود في العهد القديم، وأصبحت الرحلة الكبرى حجر الأساس في تكوين مجتمع البوير، وكانوا مقتنعين بتدخل إلهي في انتصارهم الخارق في معركة نهر الدم.
يمكن مقارنة هذه الفكرة بعقيدة طائفة المورمون أثناء غزوهم الغرب الأمريكي، وتقوم على أن مهمة إلهية أنيطت بهم وهاجروا إلى أرض واسعة للحفاظ على معتقداتهم. والآن أصبح شعب البوير مجتمعا باطنيا ويحمل إيمانه الراسخ وطوّر مفهومه الخاص: “نحن مضطهدون، وليس لدينا حل آخر غير البقاء على قيد الحياة، مهما كان الثمن”.
بعد الرحلة الكبرى أسس البوير جمهوريات كثيرة، مثل جمهورية ناتاليا التي ضمها البريطانيون على الفور، ثم دولتي ترانس فال وأورانج الحرة، وقد سمح بهما التاج البريطاني رسميا، لكن تغير كل شيء عندما اكتشف الماس والذهب في أرضهما عام 1866، ولم يكن من الوارد للبرييطانيين فقدان هذه الهبة المالية.
حرب الأفريكان.. صراع ثقافي تحت ظل التاج البريطاني
أصبحت الأراضي التي اكتشف فيها الماس مسرحا لحربين مروعتين بين المستوطنين البيض، كان الجيش البريطاني سابقا لعصره في سياسة الأرض المحروقة والبيوت المحصنة والدروع البشرية، عشرات الآلاف من المدنيين البوير معظمهم من النساء والأطفال، محتجزون في 50 معسكر اعتقال، مات منهم 28 ألفا. لقد اختفى ربع سكان البوير، وسيظل الناجون يعانون من الصدمة لعقود.
هؤلاء المزارعون البيض يشعرون بالاستياء والكراهية، ويخشون رؤية أمتهم تحتضر في منطقة شاسعة يسكنها السود، ويديرها أنجلوساكسون أقوياء، ليس أمامهم خيار سوى أن يتكيفوا أو يختفوا، سيخضعون على مضض للتاج البريطاني، فقد أنشئ اتحاد جنوب أفريقيا عام 1910، وانضم على الفور إلى رابطة الشعوب البريطانية الكومنويلث.
وكلمة بوير تعني في اللغة الإنجليزية فلاح، ونطقها مشابه لكلمة بوير التي تعني الريفي الساذج. وفي مواجهة خطر الاندماج مع البريطانيين، تمسك البوير بهويتهم، وبدأوا يطلقون على أنفسهم كلمة الأفريكان، ويشير هذا المصطلح إلى أي شخص يتحدث الأفريقية، وهي لغة مشتقة من اللغة الهولندية مع مزيج من اللغتين الفرنسية والبرتغالية وبعض اللغات المحلية.
وكلمة أفريكان التي تعني إفريقي تسمح لهم بتأكيد بعض الشرعية في هذه القارة الجديدة، وإدارة ظهورهم لجذورهم الأوروبية البعيدة، ثم بدأ يطلق على البريطانيين اسم الغرباء أو الأجانب، والمصطلح الهولندي “لاغر” أو المعسكر، في إشارة إلى العربات المحصنة التي كان المستوطنون ينصبونها مساء لحماية أنفسهم.
نظام الفصل العنصري.. سياسة الأفريكان في مواجهة الخطر الأسود
منذ وصول البريطانيين تقلص دور السود إلى مجرد قوة عاملة رخيصة، وفُصلت المناطق بذريعة مكافحة الجريمة، ولكن في الواقع كان ذلك لأهداف اقتصادية، فبينما كان البيض يعيشون في المدينة ويمتلكون أراضي جيدة، كان السود يرثون أراضي غير خصبة ومناطق صناعية.
وبعد الحرب العالمية الأولى، وأثناء حصول جنوب أفريقيا على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية، كان القوميون الأفريكان يقاتلون لاستعادة السلطة المطلقة وطرد الطبقة الوسطى الناطقة بالإنجليزية، لكن بالنسبة للعمال البيض، كان هناك خطر جديد هو قوة العمل السوداء الرخيصة التي تهدد وظائفهم، وتزايد عدد السكان السود باستمرار، وهو ما يعبرون عنه بالخطر الأسود.
في مايو/أيار 1948 فاز الحزب الوطني المؤيد للأفريكان بالانتخابات، فوضع على الفور سياسة التنمية المنفصلة من قبل الحكومة، وولد نظام الفصل العنصري، وكان هوس الأفريكان بالحفاظ على أسلوب حياتهم يدفعهم إلى سن قوانين غير عادلة وامتلاك ترسانة قضائية، وصُنف سكان جنوب أفريقيا في أربع مجموعات عرقية بناء على اللون، وهم البيض والسود والهنود والملونين.
حدد قانون المناطق حدودا للمناطق السكنية المرخصة لكل مجموعة، يحتشد السكان السود في بلدات مكتظة بالسكان من الدرجة الثانية، وحظر تعديل قانونيْ العلاقاتِ الجنسية بين الأعراق المختلفة، وأصبح إلزاميا امتلاك تصريح مرور لكل رجل أسود يزيد عمره عن 16 عاما.
استخدام القوة.. أساليب الأقلية المستبدة في التشبث بالسلطة
في 1951 خصصت عشرة أقاليم للسود، ولم يكن أمامهم خيار سوى الانتقال من منازلهم ليصبحوا مواطنين في هذه الأوطان القبلية، وفقد عشرة ملايين منهم جنسيتهم في جنوب أفريقيا، وفي 1953 أصبح الفصل العنصري قانونيا، فحقوق كل شخص حسب لونه.
وبالتعمق في هذا القانون التسلطي، نرى نظام الفصل العنصري يفرض حالة الطوارئ، ويلجأ على نطاق واسع إلى الجيش والشرطة لقمع الحركات الاحتجاجية وسجن المعارضين السياسيين، وكل ذلك بغطاء قانوني، فتقمع المظاهرات المناهضة للفصل العنصري، وتراق الدماء، وتنزلق البلاد في دوامة من العنف.
عند تأسيس نظام الفصل العنصري كان الأفريكان يشكلون 20% فقط من السكان، وخوفا على بقائهم أصبح النظام أكثر راديكالية، وقام بحماية نفسه بقوانين الفصل العنصري، فكان القادة البيض يجدون أن القمع هو الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالسلطة، وأصبح السود المحرومون من جميع حقوقهم المدنية مواطنين من الدرجة الثانية.
وفي الكيان الصهيوني يواجه الفلسطينيون سجنا جماعيا ومناطق سكانية منفصلة، ويرزحون تحت وطأة العمل بالتصاريح واستخدامهم كقوى عاملة رخيصة، ورغم اختلاف الأسباب فإن النتائج متشابهة؛ مجتمعات منطوية على نفسها، وانفجارات عنيفة، واستياء شديد أصبح مع مرور الوقت من غير الممكن التغلب عليه.
“نيلسون مانديلا”.. الثائر الذي أرسى قواعد السلام
في أغسطس/آب 1962 اعتقل المحامي الأسود “نيلسون مانديلا” بتهمة العمل السري وتشكيل جناح مسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وحكم عليه بالسجن المؤبد، ونقل إلى سجن جزيرة روبن قبالة كيب تاون، وهناك لقي أهوالا من التعذيب والإذلال، وبينما يواصل رفاقه النضال، كان “مانديلا” يتحول داخل السجن إلى فلسفة احترام الحياة البشرية ومبادئ السلام والتصالح وعدم الرغبة في الانتقام.
وفي 1986 فرضت حالة الطوارئ إلى أجل غير مسمى في جميع أنحاء البلاد، إثر اندلاع أعمال عنف ذهب ضحيتها المئات من السود، وأعلنت الأحكام العرفية، فالحكومة في حالة حرب مع 54 بلدا، ومن أجل التعامل مع هذا الوضع الطارئ ألغي عدد من قوانين الفصل العنصري، ولكن ظلت البلاد على وشك الانهيار، إلى أن جاء العام 1989 حين وصل البراغماتي “دي كليرك” إلى السلطة، وحان الوقت لتقديم التنازلات.
ففي 11 فبراير/شباط 1990، وبعد أكثر من ربع قرن في السجن، أطلق سراح “نيلسون مانديلا” وأصبح حرا، وخرج من السجن يراقب الحشود ثم يرفع قبضته كعلامة انتصار، وكان ضابط الشرطة الأبيض المذعور من انتقام السود لسنوات الفصل العنصري المظلمة يشاهد خروج “مانديلا”.
وفي 1990 عندما أثار إطلاق سراح مانديلا اهتماما عالميا، اجتاحت البلاد حالة من الأمل، لكن السبب الحقيقي لانفتاح السياسيين كان براغماتيا، فالبلد قد أصيب بالشلل التام بسبب العقوبات الاقتصادية والحظر الدولي، فقد غادر البلاد ما يقرب من نصف الشركات متعددة الجنسيات، لذا رفع الحظر التجاري بفضل إطلاق سراح “مانديلا” من السجن وإلغاء ما بقي من قوانين الفصل العنصري.
خذلان الشعب.. فصل عنصري في ثوب جديد
إنها نهاية الفصل العنصري، لقد أنقذ “دي كليرك” جنوب أفريقيا من الإفلاس. وفي 1993 حصل “مانديلا” و”دي كليرك” على جائزة نوبل للسلام، وفي أبريل/نيسان 1994 أصبح “مانديلا” أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، وبمجرد انتخابه عمل من أجل المصالحة بين المجتمعات المختلفة، وكانت هذه مهمة شاقة بالنظر إلى الاستياء العميق بين كلا الجانبين.
شكّل “مانديلا” لجنة الحقيقة والمصالحة، وأعطاها سلطة منح العفو عن المسؤولين عن جرائم الفصل العنصري، وتجنبت البلاد حمام دم بفضل حكمة “مانديلا” وتسامحه، وفوق ذلك قرر عدم الترشح لإعادة انتخابه مرة أخرى، وستستمر إعادة الإعمار من دونه، ورغم أن جنوب أفريقيا تنتج خمس الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية، فإن أكثر من نصف سكانها لا يزالون يحتشدون في أكواخ الصفيح.
حاليا لا تزال جنوب أفريقيا بلد عدم المساواة، إذ إن 72% من الأراضي لا تزال مملوكة للبيض، وتقترب نسبة البطالة في مجتمع السود من 40%، حتى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ضعفت مكانته بسبب الاتهامات بالرشوة. وتعيش اليوم أقلية من الفقراء البيض الذين كان نظام الفصل العنصري يحميهم في وضع محفوف بالخطر، ويضطرون للانتقال إلى مدن الصفيح.
ما كان فصلا عنصريا أصبح فصلا بين الطبقات الاجتماعية، حتى بدأ البعض يشعر بالحنين إلى فترة الفصل العنصري، وبدأ البعض الآخر يلوم “مانديلا” بأنه خان شعبه، ولا تزال جنوب أفريقيا دولة معقدة غارقة في واحد من أسوأ أنظمة الحكم.
أما اليوم، فأمة قوس قزح (جنوب أفريقيا) مبتلاة بالتحديات، وهي تدرك أنها يجب أن تكافح مجددا من أجل المساواة.