“كومندوس الجمهورية”.. معارك الأيام الأخيرة لآخر ملوك تونس
يُعتبر بايات تونس الحسينيون آخر حبات العقود الملكية في تونس، وقد رُسِمت نقطة النهاية لحكمهم ووجودهم في البلاد على يد الأمين باي، أما تاريخهم الذي فاق القرنين من الزمن، فقد انطلق مع الحسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية.
فما هي قصة الأمين باي؟ وكيف انقلب عليه بورقيبة؟ ومن هم “الكوموندوس”، وما قصتهم؟ وكيف أسدل الستار على حقبة ملوك تونس، وسطعت شمس الجمهورية؟ هذا ما يخبرنا به الفيلم الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها تحت عنوان “كوموندوس الجمهورية”.
سقوط الجزائر.. بداية ضعف العرش الحسيني في تونس
يقول مؤرخ وسليل العائلة الحسينية عبد الستار عمامو: في 1705 بويع الحسين بن علي ليكون حسين باي الأول، وهو ابن أم تونسية، وقد تأسس بذلك العرش الحسيني الأول، ثم تواصلت الملكية الحسينية على عرش تونس مدة 252 عاما، فكان في فترات ازدهار وأخرى ضعيفة.
أما سعيد باي حفيد المنصف باي، فيقول: “كان المُلْك يتسلسل من الأب للولد، وكانت تحدث خلافات بين الأولاد على العرش تصل حد الاقتتال، ثم حصل توافق في العائلة المالكة على تولية الكبير فالكبير”. وقد بنى البايات جيشا مستقلا وصناعات مستقلة، وبواخر وعلاقات دولية ندّية، وهذا العَلَم الذي تزهو به تونس اليوم هو من تصميم الدولة الحسينية.
بدأت فترة الضعف في 1830، يوم سقطت الجزائر في قبضة المحتل الفرنسي، وفرضت الحماية الفرنسية على البلاد التونسية في 1881، وتأسست الحركة الوطنية لتبدأ حركة نضال ضد المحتل، وتوثّقت صلاتها بالقصر، وتدعّمت هذه العلاقة مع اعتلاء المنصف باي عرش المملكة في 1942.
لم تتمتع تونس بشخصية وطنية مثل المنصف باي، فقد فاق الوطنيين أنفسهم، وحين فطن لذلك الفرنسيون نفوه إلى الجزائر، ثم نُصّب الأمين باي على العرش خلفا له، ولم يكن الشعب راضيا عن الأمين، واعتبروه صنيعة الاحتلال حتى وفاة المنصف باي في 1948، حينها رضي التونسيون بالأمر الواقع.
نال الأمين القبول عندما تقرّب من الحركة الوطنية، وأصبح حاضنة للحركة الوطنية وقرّب رجالاتها، وعلى رأسهم بورقيبة، وعرض عليهم الوزارات مرارا، وكان يمدهم بالسلاح وينظم لهم العلاقات مع الدول الأخرى، وهو الأمر الذي لم يعترف به الدستوريون، وتنكروا له بعد ذلك.
عودة بورقيبة من المنفى منتصرا.. معركة ضد الملك
ترسخت شخصية بورقيبة القيادية مع اندلاع أعمال الكفاح المسلح ضد الفرنسيين بداية الخمسينيات، وبرزت زعامته مقابل باي تونس، لتأخذ العلاقة بينهما شكلا جديدا، وعندما نُفي بورقيبة إلى جزيرة “جالتيه” الفرنسية، أرسل من هناك خطابا قاسيا للأمين، وأعاد معه النيشان الذي كان قد قلّده به الباي، في صفعة مهينة للأمين واتهامٍ له بالتواطؤ ضد الوطنيين.
وتحت ضغط المقاومة المسلحة قبلت فرنسا استقلال تونس، وعاد بورقيبة من منفاه منتصرا، وبدأت مرحلة جديدة ذات توزيع مختلف للأدوار، فهناك قوة فعلية لبورقيبة وسلطة رمزية اقتنع بها الأمين، وعلاقة ظاهرها التوافق والانسجام، بينما باطنها يغلي بانقسامات واختلافات عميقة.
حظيت عودة بورقيبة من المنفى باستقبال أسطوري، لكنه كان في كثير من جوانبه “مفبركا” على حد تعبير المؤرخ عبد الستار عمامو، فلم يكن بورقيبة قد ركب الخيل سابقا، فاختار أن يركبها في موكب مهيب مثل القادة المنتصرين، وكانت هنالك ترتيبات استثنائية من القصر لاستقباله.
كان بورقيبة الطامح للحكم يعتبر أن السلطة الملكية لا ترقى إلى آمال التونسيين بالنهوض والتقدم لبلادهم في مرحلة ما بعد الاستقلال، فقلب ظهر المجنّ للعائلة المالكة، وبدرت منه تصرفات توحي بعدم احترامه لمؤسسة القصر، فطلب من الملك أن يجلس على كرسي بمستوى مقعده ومقاعد الوزراء، وكان يطلب من زوجة الملك أن تنهض للسلام عليه، على غير ما هو معهود في البروتوكول.
كان بورقيبة يتمادى يوما بعد يوم في توتير علاقته بالأمين باي، فتارة كان يهمل الاجتماع الأسبوعي للحكومة مع الملك، ومرة يرسل مندوبا عنه، وأخرى كان يخرق فيها البروتوكول الملكي في المناسبات الدينية والوطنية، وكان يترقب ردة فعل الملك، أما الملك فقد قابل كل ذلك بنوع من التسليم لقدره المحتوم.
تضييق الخناق على العرش.. درس قاسٍ يتلقاه الملك
مع توقيع وثائق الاستقلال التام بدأت تتشكل ملامح تونس الجديدة بقيادة بورقيبة رئيس الحكومة، بثقله النضالي والوطني، وأصبح طيف الأمين باي والملكية الحسينية يتوارى شيئا فشيئا خلف أستار كثيفة من الواقع الجديد الذي رسمه بورقيبة ورجال الجمهورية القادمة “الكوموندوس”.
شهدت الحملة الانتخابية لتشكيل المجلس القومي التأسيسي ولادة الجبهة القومية التي تكونت من الحزب الدستوري واتحاد الشغل واتحاد المزارعين “اليوسفيين”، وقد استولت هذه الجبهة على جميع مقاعد المجلس التأسيسي الـ99، وأراد بورقيبة بذلك أن يهيمن على مفاصل الدولة كلها، مع شكلٍ من التوافق مع العائلة الحسينية، للحفاظ على المنظر العام للدولة.
كان التوجه بداية أن تصبح تونس مَلكية دستورية، وكان الباي راضيا بهذا، فالبلاد لم يكن لها دستور يحدد صلاحيات أطراف الحكم، والعلاقات مع فرنسا كانت بيد الباي، لكن نفوذ بورقيبة كان يتزايد، خصوصا بعد انتخاب المجلس التأسيسي، وهو الأمر الذي أزعج الباي، فتراجع عن التصديق على نتائج الانتخابات، مما أغضب بورقيبة وهدّد بفضح النظام الملكي إذا لم يصدّق على النتائج.
بعد أن أخذ المجلس التأسيسي موقعه التشريعي بدأ بالتضييق على العائلة الحسينية وتقليص امتيازاتها المالية والسلطوية، وفقد الباي تحكّمه بالقيادات الجهوية في الدولة، وتحركت الجهات القضائية في الدولة بتوجيه التهم المختلفة لأمراء العائلة الحسينية، مثل ترويج المخدرات وتعاطيها، وتلفيق تهم أخرى مفتعلة.
كان رئيس اتحاد الشغل أحمد بن صالح يميل إلى الملكية الدستورية، وهو ما رآه بورقيبة تحديا وتهديدا لأفكاره الجمهورية، خصوصا أن العائلة الحسينية فهمت الدرس، بعدما رأت موجة الانقلابات التي اجتاحت كثيرا من الدول مثل إيران وتركيا وسوريا والعراق، لذا فقد قبلت بفكرة الملكية الدستورية.
عزل الباي.. خطة انقلابية تطبخ على نار ملتهبة
بعد توقيع الاستقلال بدأت تحركات الجهات التنفيذية من أجل فرض الإقامة الجبرية على الباي، والمراقبة الحثيثة على الداخلين عليه والخارجين من عنده، ولم يكن اجتماع المكتب السياسي للحزب الدستوري قبيل إعلان الجمهورية اجتماعا عاديا، بل كان لتوزيع المهام على “الكوموندوس” في تونس بعد الحقبة الحسينية.
قبل يومين من إعلان الجمهورية توجه محافظ شرطة تونس إلى مقر الباي، وطلب منه ومن الأمراء عدم مغادرة أماكنهم، وانتظار ما سيقرره المجلس التأسيسي في 25 يوليو 1957، وكانت جماعة الكوموندوس تشكّلت على النحو التالي:
إدريس قيقة، مدير الأمن الوطني، ومهمته تنفيذ قرار وزير الداخلية نقل الباي لمقر إقامته الجبرية. محمد بن شعبان، محافظ شرطة تونس، ومهمته تأمين عملية عزل الباي، ونقله إلى الإقامة الجبرية. الرشيد إدريس، عضو مجلس تأسيسي، ومهمته النطق بمطلب الجمهورية في جلسة المجلس التأسيسي يوم 25 يوليو/تموز. أحمد المستيري، وزير العدل في حكومة بورقيبة، ومهمته الإشراف على تنفيذ قرار المجلس القومي التأسيسي. عزوز الرباعي، عضو المجلس التأسيسي، ومهمته التهجم على العائلة الحسينية، وجرد انتهاكاتهم وأخطائهم. أحمد بن صالح، رئيس لجنة صياغة الدستور، ومهمته طرح مسألة شكل الدولة في الدستور القادم. محمود اللافي، ديوان وزير الداخلية، ومهمته تأمين موكب الرئيس بورقيبة من مقر المجلس التأسيسي إلى مكتبه بقصر قرطاج يوم 25 يوليو 1957. الطيب المهيري، وزير الداخلية، ومهمته الإشراف على نقل العائلة المالكة لإقامتها الجبرية. علي البلهوان، رئيس بلدية تونس، ومهمته قراءة قرار المجلس القومي التأسيسي على مسامع الباي. الحبيب بورقيبة، رئيس الحكومة، ومهمته تنسيق وتنظيم إجراءات عزل الباي.
“نلغي النظام الملكي إلغاء تاما”.. ميلاد الجمهورية التونسية
افتتح جلولي فارس الجلسة، ثم أعطى الكلمة لأحمد بن صالح، فتحدث عن مستقبل تونس ودستورها الجديد، دون الإشارة صراحة إلى كلمة “جمهورية”، وهنا ثار عليه الرشيد إدريس وطلب الكلمة، وأعلنها صراحة “نريد الجمهورية”، ولاقت كلمته تصفيقا حادا من بقية أعضاء المجلس.
انتهت الجلسة، وطلب رئيس المجلس تبليغ الأمين باي بالقرارات، بواسطة عضوين من الكوموندوس، بينما توجه إدريس قيقة إلى قصر قرطاج لمراقبة الوضع وترتيب الأمور، وأعلنت الإذاعة نص القرار: “نتخذ باسم الشعب القرار التالي، نافذ المفعول حالا:
أولا: نلغي النظام الملكي إلغاء تاما.
ثانيا: نعلن أن تونس دولة جمهورية.
ثالثا: نكلف رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام رئيس الدولة على حالها الحاضر، ريثما يدخل الدستور حيز التطبيق، ونطلق عليه لقب رئيس الجمهورية التونسية.
رابعا: نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار، وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري.
قصر قرطاج.. موكب مهيب ينهي عصر الملكية
جاء إدريس قيقة إلى مجلس الأمين باي، ووجد عنده أولاده الثلاثة وحاشيته، وأبلغه أن علي البلهوان سيأتي ليلقي على مسامعه قرار المجلس القومي التأسيسي، فأجاب الأمين: “الله يبارك”، ثم دخل البلهوان وقرأ القرار بصوتٍ عالٍ، والأمين صامت لا يبدي حراكا، إلا حين مَنَع مصورا من أن يلتقط له صورة.
خرج الأمين وابنته صفية وزوجته جنينة من قصر قرطاج، وركبوا السيارات التي أحضرتها وزارة الداخلية، وتوجهوا بمرافقة قوات الأمن والكوموندوس المكلفين، إلى حيث مقر الإقامة الجبرية في أحد القصور العتيقة في منطقة “منّوبة”.
ثم توجه الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية الجديدة إلى قصر قرطاج، في موكب مهيب يحيط به عشرات الآلاف من المواطنين، مصطفّين للمباركة وإلقاء التحية على الرئيس الجديد، وولّى من ساعتها عصر المملكة الحسينية وزمن البايات كأنْ لم يكن.
جمهورية بورقيبة.. مباركة فرنسية وتذبذب عربي
لم تكن كل هذه الترتيبات لتجري دون علم وإرادة وتوجيه فرنسا، فقد كانت داعمة قوية لبورقيبة ضد النظام الملكي، وترى فيه الرجلَ المخلّص لتونس، واعترفت بالنظام الجديد فور صدور القرار.
أثناء انعقاد جلسة 25 يوليو/تموز انسحب السفير الليبي احتجاجا على القرار، ولكن الحكومة الليبية عاتبته على هذا التصرف، واعترفت بالجمهورية التونسية بعد أسبوع فقط من صدور القرار.
أما النظام المغربي فلم يكن راضيا بهذا التحول، ووقعت مشادّة كلامية بين وزير الخارجية المغربي والسفير التونسي في المغرب، لكن مجلس الوزراء المغربي عاد ووافق على نظام الجمهورية التونسية بعد أسبوعين من قرار 25 يوليو/تموز. ثم واصل بورقيبة جهوده واتصالاته لإقناع دول المغرب الأقصى بإلغاء النظام الملكي.
شد الخناق على العائلة الحاكمة.. كأس سيشرب منها بورقيبة
سُجن جميع أفراد العائلة الملكية، ثم أُفرج عنهم بالتدريج، بعد تحقيقات طويلة ومراجعات لممتلكاتهم وأموالهم، وتعهدات بعدم المطالبة بالحكم مستقبلا، وأجريت تحقيقات مع الأميرة جنينة بتهمة تهريب مصوغاتها إلى الخارج، ثم توفيت بعد الإفراج عنها بقليل. أما الباي فبقي في مقر إقامته الجبرية حتى مات.
ويتهم بعض الباحثين والمؤرخين النظام الجمهوري بالاستيلاء على المقتنيات الشخصية والمصوغات لأفراد العائلة المالكة، وتشير أصابع الاتهام إلى وسيلة زوجة بورقيبة بأنها استولت على هذه المصوغات، وقال بعضهم إن بورقيبة وزعها على أنصاره ومحبيه.
وإذا نسي البشر أو تناسوا، فإن الأيام لا تنسى، فلقد دارت دورتها، وأمسى الذين انقلبوا على حكم الباي ضحية لمن جاء ينقلب عليهم، فقد كان زين العابدين بن علي أقرب المقربين إلى بورقيبة، وكان صاحب شرطته ووزير أمنه، فانقلب عليه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى مات، وغيّبه عن الأحداث ووسائل الإعلام، وغيَّب عنه أنصاره والشعب، تماما مثلما فعل هو بالأمين باي.