“القضية العظمى الجديدة”.. محاكمة فتاة قاصر تخطط لقلب النظام في روسيا

كلما تحدث والدا الروسية “آنيا” عن ابنتهما الشابة المحبوسة في السجن الروسي، تمتلئ أعينهما بالدموع، ويتعثران بالحديث، وتتساقط الكلمات منهما دون ترتيب، إذ أن الصدمة ما زالت تشلهما، وما زالا غير قادرين على استيعاب حقيقة أن ابنتهما التي تبلغ 17 عاما متهمة بالتآمر على قلب نظام الحكم في روسيا.

عرض الفيلم الوثائقي “القضية العظمى الجديدة” (The New Greatness Case) في الدورة الماضية لمهرجان إدفا في العاصمة الهولندية أمستردام، ويتابع قضية “آنيا”، فقد اتهمت مع عشرة شباب آخرين في عام 2018 بالتحضير لمؤامرة لإسقاط حكومة واحدة من أكبر دول العالم، والتحضير لمحاكمة رؤوس كبيرة من الدولة الروسية، هذا رغم أن الاتهام الرسمي لم يبين كيف يمكن أن يطيح شباب في العشرينيات من عمرهم بواحدة من أكثر الدول هوسا بنظامها الأمني، خاصة أن هؤلاء الشباب -وحسب الاتهام الرسمي- لم يتعاملوا أو يتلقوا مساعدة من جهة خارجية.

يوم الاعتقال.. طفلة هادئة مُتهمة بقلب نظام الحكم

يبدأ الفيلم بمشاهد صُوّرت بالهاتف لـ”آنيا”، وتظهر في بعضها وهي تلعب لعب الأطفال، وهذا الأمر -أي التأكيد على عمر فتاة الفيلم الغض- هو تفصيل مهم تركز عليه مخرجة الفيلم الروسية “آنيا شيشوفا” عبر زمن عملها، ذلك أن الفتاة عند القبض عليها لم تكن قد خرجت تماما من فترة الطفولة، وعلاقتها مع مجموعة الشباب والبنات المتهمين كانت تجربتها الأولى في التواصل مع العالم الخارجي حولها.

تزعم “آنيا” أنها تعرفت على مجموعة الشباب في واحدة من غرف الإنترنت، وأنهم شكلوا جمعية فكرية اجتماعية، ولم يكونوا يتحدثون بالسياسة إلا لماما، أما الاتهام بقلب نظام الحكم في روسيا فهو محض كذب وتلفيق.

يتنقل الفيلم بين مشاهد لأولى جلسات المحكمة التي حظيت حينها بتغطيات إعلامية واسعة، وتسجل كاميرا المخرجة النظرات المتبادلة بين “آنيا” وأمها التي لم تكن تتوقف عن البكاء، أما الأب فيروي هو أيضا بتأثر كبير كيف جاء رجال الأمن إلى شقة العائلة، واعتقلوا ابنته الهادئة وسط ذهول الجميع، وبعدها وُجّه الاتهام لها بالانتماء لتنظيم سري.

لم تكن حياة “آنيا” تختلف عن أقرانها، فقد كانت تخطط لدراسة العلوم الطبيعية بالجامعة، كما دفعها حبها للحيوانات للعمل في عيادة لعلاج الحيوانات الأليفة، وكانت -مثل أبناء جيلها- تقضي أوقاتا طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة عليها.

“أُمّهات ضد القمع السياسي”.. منظمة تواجه مناخ القمع

يوثق الفيلم يوميات فترة السجن الأولية التي قضتها “آنيا” قبل المحاكمة، كما تحاول المخرجة أن توسع عدسة الفيلم، لتمر على مناخات قمع الحريات في روسيا اليوم، ويصور الفيلم في هذا الاتجاه اجتماعا لمنظمة روسية نسوية تدعى “أُمّهات ضد القمع السياسي”.

لقد كانت قاعة الاجتماع ممتلئة بأمهات جزعات ثلثهن من الروسيات المسلمات المحجبات، وذلك في إشارة لمعاملة مشددة يتعرض لها الروس المسلمون، خاصة الآتين من الشيشان.

والدة آنيا قلقة على مصير ابنتها

تروي أمهات في الاجتماع ظروف السجن لأبنائهن وبناتهن، والمعاملة القاسية والتعذيب أحيانا الذين يتعرضون له في السجن. لقد خيّم الوجوم على اجتماع الأمهات الذي صوّره الفيلم، وكان بعض النساء يكففن دموعهن وهن يستمعن لنساء يتشاركن التجارب والعذاب ذاته.

رجل الأمن الروسي والكاميرات السرية.. توريط الشباب

تحقق المخرجة في القضية التي يسجن من أجلها “آنيا” ورفاقها، وتعتمد على الفيديوهات التي صورت بكاميرات سرية وضعت في المنزل التي كانت تلتقي فيه المخرجة رفاقا لها. لم يكن من المعروف قبل المحاكمة هوية الشخص الذي صوّر الفيديوهات السرية، وإن كان اليقين السائد بين محامي المتهمين وأهلهم هو أن الأمن الروسي هو من يقف وراء تصوير الفيديوهات التي ستكون الدليل الأقوى في المحاكمة القادمة.

يظهر في الفيديوهات المذكورة رجل في منتصف الأربعينيات، ويستدعي وجوده تساؤلات محامي المتهمين، وتتجه إليه التهم أيضا بأنه ربما يكون رجل الأمن الروسي السري.

يهيج هذا السيناريو غضب عوائل المتهمين ومنظمات المجتمع المدني، إذ ربما يكون رجل الأمن نفسه هو من أغرى مجموعة الشباب لمقاربة القضايا السياسية، وهم الذين لم يكونوا مشغولين بالسياسة أصلا، ليجري اتهامهم بعدها.

ينقل الفيلم مشهدا طويلا لاجتماع لجنة حقوق الإنسان للحكومة الروسية، يرأسه الرئيس “فلاديمير بوتين” نفسه. يطرح أحد الناشطين بلهجة حادة سؤالا عن قضية التنظيم السري الشبابي، ويتساءل كيف يمكن أن تحاكم المحاكم الروسية شبابا إذا كانت هي نفسها وعبر أجهزتها الأمنية عملت على توريط الشباب ودفعهم إلى وجهات لم يكونوا قد فكروا بها قبل؟

كآبة السجن.. محاولات إنقاذ قاصر من الزنزانة

ترفض إدارة السجن التي تمكث فيه “آنيا” قبل محاكمتها تسلم نصف الأكل والأغراض الخاصة التي حملتها أمها لها، فتعيد الأم الحزينة بعجز كبير الأغراض إلى الأكياس التي كانت تحملها.

روس يعددون أسماء شخصيات تم إعدامها لأسباب سياسية منذ مئة سنة وحتى اليوم

يقلق الوضع الصحي للفتاة أهلها وبعض المنظمات الإنسانية التي واصلت مطالبتها بإطلاق سراحها، لكونها لم تبلغ عامها الثامن عشر من العمر. كما تطوع أحد الناشطين الروس الشباب المعروفين بالدفاع عن الشابة الروسية، وكان خير سند لعائلة الفتاة، إذ نراه في عدة مشاهد مع الأم التي لم تتوقف أبدا عن محاولات جذب الانتباه لمظلومية ابنتها.

لم تكن السلطات الروسية الأمنية العقبة الوحيدة أمام عائلة “آنيا”، فقد نجح الإعلام في تجييش روس ليعكروا الأجواء التي كانت تضغط لإطلاق سراح الفتاة، فنرى مثلا في مشهد طويل رجلا روسيا ينتقد بشراسة أم “آنيا”، ويتهم ابنتها بأنها تحمل خططا خطيرة هدامة.

شرطي الباب.. إطلاق سراح مشروط ورقابة مشددة

في النهاية، ترضخ السلطات للضغط الشعبي، وتطلق سراح “آنيا” بشرط الإقامة الجبرية، وعدم استخدام الهاتف أو الإنترنت، بينما تنتظر محاكمتها، لكن لن يكون إطلاق سراحها فرصة للفيلم لإجراء حوارات طويلة معها أو تصويرها، ذلك أن التصوير في شقتها لم يكن مسموحا، كما كانت الزيارات إلى بيتها محددة إلى حد كبير، ويصور أحد الذين كانوا موجودين في شقة “آنيا” شرطيا كان يقف أمام الباب ويراقب كل ما يجري حوله.

اعتمد الفيلم في هذه المرحلة على الفيديوهات التي صورتها “آنيا” بنفسها، أو صور أهلها أثناء الإقامة الجبرية في بيتها، وقد حملت حميمية خاصة، ولم تكن تجربة السجن هينة أبدا على الفتاة الصغيرة التي عانت نفسيا كثيرا، فيصورها الفيلم وهي تأخذ أدوية كثيرة بعضها لمعالجة آثار الكآبة.

آنيا التي لم تبلغ الرشد بعد في أكثر سجون روسيا حراسة

“آنيا” عرفت الحب أيضا، إذ كشف الفيلم أنها على علاقة بالناشط الروسي الشاب الذي ساعد أهلها كثيرا أثناء سجنها، بيد أن قصة الحب تتعرض إلى هزة كبيرة بعد سجن الشاب، ولاتهامات بدت مبهمة.

جلسات المحاكمة.. شاهد يُحاول الانتحار وأحكام متقاربة

يصل الفيلم الوثائقي إلى ذروة الإثارة فيه، مع جلسات المحكمة التي كان ينتظرها المتهمون والإعلام الذي كان حاضرا بكثافة، بيد أن المحاكمة لم تقدم أجوبة كافية على الإطلاق، فالشاهد الرئيسي الذي صور الفيديوهات السرية للمجموعة كان يدافع عن نفسه وعن فعله بتصوير الشباب وخيانته لثقتهم، بأنه كان حريصا على أمن بلده، لكنه رفض أسئلة محامي المتهمين، خاصة تلك التي تتعلق بعلاقته بالاستخبارات الروسية.

يحاول الشاهد الرئيسي قتل نفسه في قاعة المحكمة عن طريق سكين أدخله سرا إلى القاعة المحروسة جيدا. لم يكن واضحا أبدا الأسباب التي ربما تقف وراء فعل مفاجئ، أو كيف يُمكن قراءة هذا الفعل ضمن السردية التي تبناها الفيلم بتورط الأمن الروسي في توريط الشباب عن طريق الشاهد الذي صوّر.

الناشط الروسي الذي سيتزوج آنيا

تحصل “آنيا” على عقوبة أربع سنوات من الإقامة الجبرية في بيتها، أما المتهمون الآخرون فقد بلغ معدل الأحكام التي حصلوا عليها خمس سنوات يقضونها في سجون رسمية.

“آنيا” بالثوب الأبيض.. فرحة الزواج تتحدى سريالية السجن

تكشف المخرجة في تعليق صوتي بأن ما أثر بها في قصة “آنيا” هو قربها من قصة جدة لها سجنت في عهد الرئيس الشيوعي “ستالين”. لا تخفي المخرجة ارتباطها العاطفي بالقضية المطروحة، وقلقها العميق من مناخ القمع وغياب الحريات السائد منذ سنوات في روسيا.

تتعامل المخرجة بذكاء وحساسية مع ندرة المادة المتوفرة عن قضية الفيلم، وتنفتح على قضايا الحريات العامة في البلد في المطلق، فترافق احتجاجات شعبية بعضها قُمع أمام أعين الكاميرات الإعلامية. كما تسجل مناسبة حميمية ومؤثرة كثيرا لنشاط يقام سنويا، وفيه تُقرأ أسماء روس من مدينة موسكو أعدموا لأسباب سياسية في القرن الماضي. يقرأ روس متنوعون ومنهم أطفال ومراهقين أسماء ناس بعضهم لهم علاقة قربى بالذين يقرؤون أسماءهم، بينما بدا القلق على بعضهم.

ورغم من المناخ المعتم للفيلم، فإنه يقدم ويرفع نماذج شجاعة للغاية، قادرة رغم الظروف الصعبة على الوقوف بوجه السلطة ومساعدة المظلومين، كما يمر الفيلم على قصة زواج “آنيا” من الناشط الروسي الشاب، فقد تزوجا أثناء وجوده في السجن، ولبست “آنيا” ثوب الزفاف الأبيض، ومرت بمشاهد سريالية عبر أبنية السجن المعتمة في تحدٍّ للظرف العام القاسي.