“بزوغ الإمبراطورية العثمانية”.. حملة السلطان الفاتح للقضاء على تمرد حاكم الأفلاق

بعد مرور ثماني سنوات على فتح السلطان محمد الثاني للقسطنطينية، وتوجهه نحو توسيع رقعة الإمبراطورية العثمانية غربا نحو أوروبا، ظهرت أمامه عقبة جدية هددت بإفشال مشروعه الطموح، وتمثلت بخروج “فلاد دراكولا” حاكم إقليم الأفلاق (رومانيا اليوم) عن طاعته وإعلان الحرب ضده، مما دفع السلطان لشن حملة عسكرية للقضاء عليه.

الموسم الثاني من مسلسل “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” يتابع تطورات الأحداث التي شكلت منعطفا تاريخيا حادا، وقد أعاد انتصار العثمانيين فيها هيبة إمبراطوريتهم، وجعلت محمدا الفاتح واحدا من أعظم قادتها، وله الفضل الكبير في توسيع رقعتها.

“فلاد دراكولا”.. تمرد يقلق السلطان ويهدد الإمبراطورية

على غرار الموسم الأول من الوثائقي، تجمع هذه الحلقات الست التمثيل بالتحليل التاريخي، ويقوم به عدد من المؤرخين والباحثين، بينما يضفي التجسيد الدرامي للأحداث حيوية تزيد من قيمة المنجز وأهميته التاريخية.

في المشهد الافتتاحي الذي يرجع بالأحداث إلى عام 1461، يظهر السلطان محمد الفاتح قلقا من سماعه أخبار التمرد الذي يقوده “فلاد دراكولا” الملقب بـ”المُخوزِق”، لأنه كان يلجأ إلى أسلوب همجي يتمثل بخوزقة خصومه بعصي غليظة يعلقهم بها في العراء حتى الموت.

كان سبب قلق السلطان متأتيا من معرفته بخصمه الذي نشأ معه في نفس القصر، ويعرف طريقة تفكيره وأساليبه في القتال، إلى جانب ما يشكله التمرد من خطر حقيقي يهدد مشروع الإمبراطورية العثمانية للتوسع في أوروبا بالفشل، ويجعل من موقع إقليم الأفلاق حاجزا جغرافيا منيعا يحمي دولها، وبشكل خاص الإمبراطورية المجرية التي يتحالف معها “فلاد” (الممثل دانيل نوتا) ضد السلطان العثماني، ويشجعه البابا على تشكيل تحالف مسيحي قادر على لجم طموح السلطان المُسلم، ومنعه من الوصول إلى روما وفتح أسوارها كما فتح أسوار القسطنطينية من قبل.

أبناء المتمرد.. نشأة خاصة في البلاط السلطاني

يتوقف وثائقي نتفليكس عند نشأة “فلاد” وأخيه “رادو” الأصغر (الممثل علي كزوسيرين) في القصر السلطاني في عهد السلطان مراد، وقد جاء على إثر فشل تمرد والدهما الأمير “فلاد دراكولا الثاني” ضده، وكعقاب له ولضمان عدم تكرار فعلته ثانية قَبِل السلطان بالمقترح الذي قدمه الأمير إليه، وبموجبه وضع ولديه الصغيرين رهينة عنده في القصر، مقابل العفو عنه، والالتزام الكامل بالخضوع لإمبراطوريته.

في ذلك الوقت كان محمد الفاتح صغيرا بنفس عمر “فلاد” تقريبا، لهذا كانا يقضيان الكثير من الوقت معا، ويتدربان سوية على فنون القتال، لهذا فإنهما يعرفان بعضهما جيدا، ومنذ دخوله إلى القصر عامله محمد كأخ له، لكن “فلاد” ظل يخفي حقدا ضده وضده عائلته، ازداد أكثر بسبب حنث والده بعهده، وإعلان تمرده ثانية على السلطان.

يُثَبت المؤرخون تغيرا لاحقا في وضع الأخوين في أعقاب موقف والدهما الذي دفع السلطان لاعتبار ولديه أسرى لديه، لكنه لم يأمر بقتلهما.

قاتل الرسل.. مواقف عدائية تتنكر لأفضال الفاتح

يُحيل المحللون العُقد النفسية المتراكمة لـ”فلاد” إلى شعوره الدائم بالذل من موقف والده، ولبقائه أسيرا في القصر. ومن جانب آخر يسلطون الضوء على حكمة السلطان مراد للاستفادة من وجودهما لاحقا، واتخاذهما ورقة بديلة عن والدهما، ومن يأتي من بعده لحكم الإمارة التابعة.

تاريخيا جرى ذلك بالفعل عندما هيأ السلطان مراد الشاب “فلاد” ليكون الحاكم المقبل للإقليم، فهو حاكم يرتبط بعلاقة جيدة بالإمبراطورية العثمانية، ويدفع لخزينتها سنويا الجزية المقررة، لكن “فلاد” بعد وصوله لدفة الحكم بمساعدة العثمانيين أعلن تمرده عليهم، ورفض دفع الجزية لهم، وتنكر لأفضالهم الكثيرة عليه، مما أثار غضب محمد الفاتح الذي طلب منه أول الأمر باللين أن يتراجع عن موقفه، لكنه رفض وتمادى أكثر حين أمر جنوده بقتل رُسله إليه وتعليق جثثهم بالخوازيق.

وقد ازداد الأمر سوءا عندما أقدم على قتل قائده العسكري حمزة بيك والد زوجته غولبهار خانم أثناء تكليفه بمهمة إقناعه بالتراجع عن موقفه، وأيضا للتعرف الميداني على خططه العسكرية من أجل إفشالها. كل تلك المواقف العدائية الرافضة للتفاهم والموغلة في حقدها، اعتبرها السلطان محمد بمثابة إعلان حرب ضده، لهذا قرر خوضها بنفسه.

مناورات القصر.. حرب الجواسيس التي تسبق المعركة

يكرس المخرج أمرة شاهين الكثير من جهده لتجسيد المعركة التي خاضها الفاتح ضد “دراكولا”، وتعكس جهدا فنيا كبيرا مبذولا لتقريب أجوائها التاريخية للمُشاهد (أثاث وأزياء وممثلين)، وتوفير الميزانية الإنتاجية الكبيرة اللازمة لها.

للوصول إلى قصر “فلاد” في تارغوفيتشه كان على الجيش العثماني عبور نهر الدانوب، ثم النزول إلى اليابسة بكامل عدته وقواته لمواجهة الخصم الذي ينتظرهم هناك، مخفيا الكثير من جنوده عن الأعين في الغابات الكثيفة.

كان السلطان محمد يعرف الصعوبات التي تواجه جيشه، ويعرف أيضا شدة بأس خصمه ودهائه، من أجل هذا أحضر معه أفضل نخب جيشه من وحدات الإنكشاريين الخاصة، إلى جانب نقل مدافعه الثقيلة على متن القوارب التي كانت تحمل معها أيضا أعدادا كبيرة من الجنود.

يحدد المؤرخون تاريخ 4 يونيو/ حزيران من عام 1462 بوصفه أول يوم من الحملة العسكرية التي قادها السلطان ضد  تمرد “فلاد”، وفي تلك الأثناء لجأ صانع المسلسل إلى تمرير موضوعات جانبية لها صلة تاريخية بالحدث، حتى لا يتحول المسلسل إلى مجرد نقل بحت لمشاهد المعارك، مثل موقف الأخ الأصغر “رادو” من كل ما يجري، إلى جانب العرض الوافي لدور نساء القصر في دعم المعركة، يقابله بالضد الدور الذي لعبه جواسيس العدو داخل القصر السلطاني، وحاولوا من خلاله نقل المعلومات المهمة لقادتهم، أو القيام بأفعال لها تأثير  نفسي سلبي على القادة العثمانيين.

“مارا خاتون”.. سيدة البلاط تهدد الممالك وتقلب الأحداث

تظهر الأحداث جليا موقف الأم “مارا خاتون” (الممثلة توبا بويوكستون) الداعم للسلطان محمد، فقد عاملته معاملة أم حقيقية له في صغره، لا مجرد زوجة لوالده.

ينقل الوثائقي دورها الحيوي في إقناع ملك المجر بعدم التورط في الحرب، أو الوقوف مع خصمهم فيها، فقد أوصلت للملك تهديدات مبطنة عن العواقب الخطيرة التي تنتظره في حال وقوفه إلى جانب “فلاد”، مما جعله يتردد في المشاركة المباشرة في المعركة حسب رأي المحللين، هذا إلى جانب مساهمتها في تقوية معنويات زوجة السلطان غولبهار من أجل إفشال محاولة قتل ولده بايزيد داخل القصر، ومن بعد كشفها لشبكة الجواسيس التي كانت تتحرك داخله.

وبالنسبة لـ”رادو” الذي لازم القصر في طفولته، ولم ينتقل مع أخيه الأكبر إلى الأفلاق، فقد ظلت تحوم حوله الشبهات، وبشكل خاص من بعض قادة الجيش الذين كانوا يخشون وقوفه مع أخيه في اللحظة الحاسمة، ما يشكل خطرا على السلطان نفسه لأنه كان من بين القادة المقربين له.

الممثلة توبا بويوكستون بدور الأم مارا خاتون الداعمة للسلطان محمد

يكشف موقف السلطان منه وعدم التخلي عنه في أشد الأوقات عن بُعد نظر يتمتع به، إلى جانب امتلاكه عقلا إستراتيجيا متقدا. أراد من خلال إبقائه إلى جانبه خلق حالة من التنافر بينه وبين أخيه، عبر التلميح له بإمكانية توليه الحكم بعد القضاء على أخيه، وهذا ما حصل بالفعل بعد هروب “فلاد” من قصره.

“حرب العصابات”.. أساليب قذرة للفتك بالجيش العثماني

على المستوى العسكري تكشف الخطط التي استخدمها السلطان قدراته العسكرية وقيادته للمعارك في أشد لحظاتها صعوبة، فمواجهته لرجل مثل “فلاد” يتمتع بقدرات عسكرية وشراسة قتالية؛ كانت بمثابة الاختبار الثاني الصعب للسلطان بعد اختبار فتح قلاع القسطنطينية.

يتوقف الوثائقي عند تفاصيل كثيرة رافقت الهجوم، وأكثرها مدعاة للانتباه الأساليب الهمجية التي استخدمها “فلاد” لمنع وصول الجيوش العثمانية لعاصمته، ومن بينها استخدامه لما يسمى اليوم “حرب العصابات”، إلى جانب تسريبه جنودا مصابين بالطاعون بين حشود الجيش العثماني، لغرض نقل عدوى المرض إليهم، وتخفيه مع جنوده بملابس تشبه ملابس الجيش، ليسهل عليه دخول معسكراتهم ومباغتتهم، وحرقه للمزارع وكسر السدود حتى لا يحصل الجنود على الطعام والماء أثناء زحفهم.

بالمقابل تظهر عبقرية الفاتح العسكرية من خلال استغلال معرفته بنقاط ضعف خصمه أثناء المعركة، والاحتفاظ بوحدات الإنكشاريين الخاصة للحظات الحاسمة، وفي الوقت نفسه كان يدعم قواته بترسانة أسلحة متطورة في حينها، مثل المدافع الثقيلة وبنادق البارود المحمولة، إلى جانب اعتماده على الكشافة، وتحري مواقع العدو وتحديدها بدقة قبل أي تحرك لقواته.

تارغوفيتشه.. دخول الفاتح وهروب الزعيم المتمرد

يحدد المسلسل مسار المعركة وزمنها بالأيام التي استغرقتها، وكلما اقتربت من نهاياتها كان المشاركون فيه من محللين وخبراء عسكريين يتعمقون في تفسيرهم لتفاصيلها التي تجلي تطورا عسكريا حاصلا في تلك الفترة عند الجيش العثماني، وإلى نضج في خطط قادته، مع تمتعهم بالحكمة والشجاعة اللازمتين لحسم المعارك لصالحهم.

فلاد دراكولا، حيث أساليب الترويع الهمجية والتنكر لأفضال السلطان

هذا كله كان متوفرا عند السلطان محمد وقادته، وهو الذي ساعد على دخولهم العاصمة تارغوفيتشه، وهرب زعيمها “فلاد” إثرها خوفا من مواجهة مصيره المحتوم، وفور دخوله المدينة أصدر السلطان أمرا بتنصيب “رادو” حاكما عليها كما تعهد له من قبل، مقابل ضمان ولائه للإمبراطورية العثمانية التي أخذت بعد تلك المعركة بالتوسع داخل أوروبا.

في خضم الانتصارات كان هناك أمر ينغص على الفاتح فرحته بها، ويتمثل في عدم عثوره على أثر يدل على المكان الذي يختفي فيه خصمه الهارب، الأمر الذي ظل يثير قلقه ويزعجه، ومع مرور السنين ونتيجة لنصيحة “مارا خاتون” له بنسيانه والتركيز بدلا من ذلك على نشر مبادئ الإمبراطورية ودينها الإسلامي في أنحاء المعمورة؛ هدأ من روعه، لكنه لم يطمئن تماما إلا بعد سماعه في عام 1477 خبر العثور على رأس “فلاد” معلقا في خازوق عند أسوار القسطنطينية التي فتحها من قبل، والآن وبعد إخماده الكامل لتمرد الأفلاق، راح يوسع حدودها ويرسخ وجودها التاريخي الذي امتد من بعده لما يقارب أربعة قرون متواصلة.


إعلان