“القوة العظمى”.. وثائقي أمريكي ينطق بلسان أوكرانيا في الحرب

لا شك أن الحرب في أوكرانيا توفر مادة جيدة لعمل فيلم وثائقي متميز، ففي أوكرانيا الآن كل عناصر السينما الوثائقية؛ الغزو، والاشتباكات العنيفة، والمأساة الإنسانية المثيرة للأسى، والتطورات السياسية على الصعيد العالمي يوما بعد يوم، وتأثير الأزمة على العالم، وغير ذلك.

قد يكون فيلم “القوة العظمى” (Superpower) هو الفيلم الوثائقي الطويل الأول المكتمل عن هذا النزاع المسلح، وقد توفرت له إمكانيات إنتاجية كبيرة، وجاء أساسا بمبادرة من النجم السينمائي الأمريكي “شون بن” المعروف باهتماماته السياسية.

وكان الدافع الأساسي لإنتاج الفيلم وتصويره في أوكرانيا الإحاطة بشخصية الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، باعتباره ممثلا كوميديا شابا استطاع الوصول إلى رئاسة الدولة في ظروف تاريخية معقدة، ليس أقلها قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في 2014.

كان “شون بن” يعتزم تصوير الفيلم الذي اشترك في إخراجه مع “آرون كوفمان” قبل وقوع الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وكان يرغب في إجراء مقابلة طويلة مع الرئيس “زيلينسكي” في خريف 2021، وقد وصل فريق التصوير إلى كييف، وأجرى المقابلة الأولى مع “زيلينسكي” قبل يوم واحد من دخول القوات الروسية. وبعد وقوع الحرب، تطور المشروع إلى فيلم أكثر طموحا يغطي جوانب متعددة من الأزمة.

عُرض فيلم “القوة العظمى” (Superpower) في الدورة الأحدث لمهرجان برلين السينمائي التي انتهت يوم 26 فبراير/ شباط، أي بعد مرور عام كامل على الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية. فكيف جاء الفيلم، وما هي أبرز عناصر هذا العمل الذي يتجاوز زمن عرضه الساعتين؟

“شون بن”.. بطل الفيلم المروّج للدعاية الأوكرانية

هناك بعض الفروق المعروفة بين الفيلم الوثائقي والتقرير التلفزيوني، أهمها أسلوب السرد والعرض، فبينما يميل الفيلم الوثائقي إلى تحليل موضوعه من مختلف جوانبه، مع الاستعانة بصور ومواد تدعم رؤية صانع الفيلم، فإن التقرير التلفزيوني يميل إلى تصوير حدث واحد والتركيز عليه، غالبا من وجهة نظر موضوعية أو محايدة، يتوفر لها قدر من التوازن في العرض.

والملاحظة الأولى على فيلم “القوة العظمى” أنه يمزج بين النوعين، ويطغى عليه بوضوح لا يمكن إنكاره الجانب الشخصي، فبطله -إن جاز أن نستخدم هذه الكلمة- نجم هوليود “شون بن” نفسه يظهر في غالبية مشاهد الفيلم، يقدم ويشرح ويحقق ويسأل ويستقصي ويعلق، بل كثيرا أيضا ما يلعب دور “المروج” المتحمس الذي يتبنى منذ البداية وجهة نظر أحادية هي أقرب ما تكون إلى الدعائية المباشرة مع الجانب الأوكراني، لدرجة أنه يناشد قرب نهاية الفيلم بشكل مباشر الولايات المتحدة والغرب عموما لتزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة دفاعا عن الحرية والديمقراطية.

يمزج الفيلم بين المواد الكثيرة المصورة (من الأرشيف) لتفاصيل من ساحة الحرب وآثارها على المدن، وبين اللقاءات المباشرة التي يجريها “شون بن” مع كثير من الشخصيات، بداية من “زيلينسكي” نفسه (يقابله مرتين) إلى عمدة كييف، ثم عدد من الجنود والنشطاء والمسؤولين السياسيين (وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس البرلمان، وغيرهم) وبعض الطيارين والصحفيين، وعدد من السكان الذين تعرضت منازلهم للقصف.

لكن “شون بن” حاضر باستمرار في الصورة، سواء ونحن نراه جالسا في مؤخرة السيارة الرباعية الدفع التي ينتقل بها من مكان إلى آخر، أو أثناء حضوره المؤتمرات الصحفية، أو في لقاءاته المتعددة.

لقاء الرئيس.. ترحيب حار يخدم الحملة الدعائية

يمكن القول إن الفيلم ليس عن أوكرانيا أو رئيسها فقط، بل عن أوكرانيا كما يراها “شون بن” وهو يتحدث لنا عن بداية فكرة الفيلم، وعن وصوله إلى كييف، ثم عن صعوبة لقائه بالرئيس “زيلينسكي” في اليوم السابق مباشرة لاندلاع الحرب، وكيف حافظ الرئيس رغم ذلك على وعده وقابله في القصر الجمهوري، ثم يظل “شون بن” يأخذنا معه في مونتاج ملتوٍ متقلب يشي بالتوتر، يتحدث ويشرح ويمزح أيضا أحيانا، وينتقل من فكرة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر.

يرحب “زيلينسكي” بالمخرج “شون بن” ترحيبا حارا، ويبدو كما لو كان يتشبث بالمقابلة المصورة التي يجريها معه رغم ضعف لغته الإنجليزية، فهو يدرك أن هذه المقابلة يمكنها أن تفيده في حملة الضغط التي يمارسها على حكومات الغرب طلبا لمزيد من الأسلحة والمساعدات منذ أن بدأت الأزمة في التداعي.

هنا يضيع الفارق كثيرا بين دور السينما كوسيط يسعى لتقريب وجهات النظر بين الشعوب، والدعوة إلى السلام، وبين كونها أداة دعائية أحادية تستخدم للشحن والتعبئة، وهذه السمة تتضح كثيرا في الفيلم.

في اللقاء الأول يستبعد “شون بن” أن تغزو روسيا الأراضي الأوكرانية، كما يستبعد ذلك أيضا كثير من الصحفيين والمسؤولين الأوكرانيين، لكن هذا تحديدا هو ما يقع في اليوم التالي مباشرة.

“أؤمن بكل قلبي أن هذا رجل حب”

من الفكرة الأساسية للفيلم، أي الكشف عن الجوانب المتعددة لشخصية “زيلينسكي” الممثل الذي أصبح رئيسا، يصبح الفيلم تلخيصا للحرب الأوكرانية وآثارها المدمرة على البنية الأساسية والمدنيين، كيف يعيشون داخل محطات قطارات الأنفاق، وكيف يتعايشون ويدبرون أمور حياتهم اليومية، وما هي مشاعر الجنود الذين يتصدون للغزو، وكيف ينظر الناس إلى قيادة “زيلينسكي” للصراع؟

ينتقل “شون بن” بشجاعة من مكان إلى آخر، يحاور ويصور ويتوقف أمام كثير من التفاصيل الحياتية والإنسانية، ولا شك في شجاعته وقوة شكيمته، لكنه لا يكلف نفسه خلال تجواله عبر مناطق الصراع باستطلاع وجهة النظر الأخرى، آراء سكان الدونباس مثلا.

كما أنه لا يحاول تصوير التصريحات الموازية الأخرى من الجانب الروسي لتحقيق التوازن في العرض لفيلمه من الناحية السياسية، لكنه يندمج تماما في الشحن والتعبئة والدعاية، لدرجة أنه يقول بشكل مباشر في أحد المشاهد واصفا “زيلينسكي”: إنني أؤمن بكل قلبي أن هذا رجل حب، رجل يتمتع بالذكاء والشجاعةـ وما زلت أرى أن القيادة مع الحب تثبت أنها أقوى سلاح على وجه الأرض.

ولعل هذا التركيز الكبير على حضور الذات (أي شخص “شون بن” نفسه) في قلب الفيلم وقلب الأحداث، هو ما دفع أحد النقاد الأمريكيين إلى القول إنه بدا كما لو كان لاعبا أساسيا في الحرب، أو الطرف الثالث في النزاع إلى جانب “بوتين” و”زيلينسكي”.

“شون بن”.. مخرج مفتون بتجربة الرئيس الممثل

هناك صور عدة تلخص مسار النزاع، ومشاهد يستخدم فيها صانعا الفيلم الغرافيكس والخرائط والشرح المقتضب لتقريب الموضوع من المشاهدين في العالم، وهناك كثير من المقابلات التي تبدأ وتنقطع، ثم يعود إليها مجددا فيما بعد، وهو ما يجعل الفيلم يعاني من الثقل والترهل والتكرار في لحظات عدة، ويجعل المشاهد يتساءل عن جدوى بعض الأحاديث التي لا تضيف جديدا.

يبدو “شون بن” مفتونا بشخصية “زيلينسكي” الممثل الكوميدي الذي قاده مصيره إلى أن يقود بلاده ضد قوة عظمى في حرب ضارية، وحين يقدم الفيلم بعض اللمحات عن تاريخ “زيلينسكي” قبل أن يصبح رئيسا، من خلال مقاطع من الأفلام أو البرامج التلفزيونية التي ظهر فيها، فإن “شون بن” يكتفي بهذه اللمحات، دون التعمق في تلك العلاقة الخاصة بين عالم التمثيل وعالم السياسة.

النجم السينمائي الأمريكي شون بن في مواجة الكاميرا

لكنه ينقل لنا وجهة نظر جندي أوكراني شاب يبدي شكوكه في إمكانية أن ينجح “زيلينسكي” في التصدي لشخصية سياسية من وزن الرئيس الروسي “بوتين”، لكن هذا التشكك كان عند اندلاع الأزمة، أما بعد أن تطور الوضع، نشاهد الجندي نفسه وهو يبدي إعجابه بشجاعة الرئيس، متراجعا عن رأيه السابق فيه.

“زيلينسكي”.. كوميدي يذهل الرأي العام خلال الحرب

يخصص الفيلم جزءا كبيرا للعودة إلى الأحداث التي شهدتها أوكرانيا قبل وصول “زيلينسكي” إلى السلطة، عن الفساد الذي انتشر في أوساط الطبقة السياسية، والغضب الذي اشتعل في الميدان، أو الثورة التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق “فيكتور يانوكوفيتش” في (2013-2014)، ثم كيف بدأت صورة “زيلينسكي” في الظهور كبديل سياسي أذهل الكثيرين.

“زيلينسكي” ممثل كوميدي شاب يهودي، يتحدث الروسية، صنع شهرته أساسا في روسيا، حيث عمل كثيرا ونال شعبية بين الجمهور الروسي، وشارك في برامج تلفزيون الواقع، ثم كيف أصبح أكبر مناوئ للنفوذ الروسي، وكيف تحول الرأي العام في أوكرانيا تجاهه من التشكك في قدراته إلى التأييد الكبير الذي يلقاه خصوصا بعد الغزو، أي بعد أن رفض نصيحة الرئيس “جو بايدن” بمغادرة أوكرانيا.

اللقاء الشهير بين شون بن وزيلنسكي

في أحد المشاهد التي يستعين بها الفيلم من أحد المسلسلات التلفزيونية التي قام ببطولتها “زيلينسكي”، نشاهده مع طفل يمثل دور ابنه يرقد معه في فراش واحد، يعرب الطفل له عن قلقه وخوفه من المجهول، فيطمئنه الأب (أي زيلينسكي)، ويقول إنه لا يجب أن يخشى شيئا، وأنه سيتصدى لأي خطر يمكن أن يأتي، وعندما يسأله الابن عن مصدر قوته يجيبه: أنت مصدر قوتي، “القوة العظمى”. ومن هنا جاء عنوان الفيلم.

“لا أستطيع الطيران بجناح واحد”

يضمّن “شون بن” فيلمه كثيرا من اللقطات التي سجلها لاتصالاته عبر برنامج “زوم” مع “زيلينسكي” في 2021، قبل أن يقرر القيام بزيارة أوكرانيا التي تكررت ثلاث مرات، وعندما اشتدت الأمور وازدادت حدة النزاع المسلح وقصف كييف، اضطر -كما نرى في الفيلم- إلى الخروج مع فريق التصوير عبر الحدود إلى بولندا، لكن سيارتهم تتعطل في صف طويل لا يكاد يتحرك، فيغادرون السيارة ويقررون السير على أقدامهم وعبور الحدود.

يعود “شون بن” مجددا للقائه الثاني مع “زيلينسكي” في حديقة بمكان لا يكشف عنه الفيلم، ويكرر “زيلينسكي” مناشدة الإدارة الأمريكية تزويد بلاده بمزيد من الأسلحة، وخصوصا الأسلحة الهجومية، ويقول ملخص موقفه قائلا: تحتاج إلى جناحين لكي تطير، لا تعطني جناحا واحدا، ثم تسألني متى ستطير؟ أنا لا أستطيع الطيران بجناح واحد.