“سبعة شتاءات في طهران”.. دفاع عن الشرف يقود إلى مقصلة الإعدام
ريحانة؛ شابة إيرانية طعنت طبيبا جرّاحا كان على وشك اغتصابها، فحُكم عليها بالإعدام لعدم ثبات روايتها للأحداث. أثارت القضية اهتمام الإعلام الغربي وحظيت بتغطية واسعة، إلى أن عرفت مخرجة ألمانية بقصة ريحانة من الصحف عند تنفيذ الحكم عام 2014، وحين التقت فيما بعد بأفراد من أسرة المحكومة في تركيا، بدأ يتبلور في ذهنها مشروع فيلم وثائقي يسرد خلفيات وتفاصيل الحدث.
فيلم “سبعة شتاءات في طهران” (Seven Winters in Tehran) للألمانية “ستيفي نيدِرزول” (2023) يتابع القضية من بداياتها عام 2007 في طهران، لكن من الخارج، فالمخرجة لم تصوّر في إيران، نظرا لاستحالة الحصول على موافقة السلطات هناك بالتصوير وإثارة هذه القضية الحساسة من جديد، لا سيما أن تطبيق حكم الإعدام في إيران يثير باستمرار استنكار الهيئات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان ومطالباتها بإلغائه.
“ستيفي نيدِرزول”.. مخرجة روائية تتبنى تحقيق قصة منسية
لا شك أن عدم التصوير في طهران قد أثّر على الفيلم وعلى مصداقية بعض أحداثه وأسلوب سرده، فبدا أقرب إلى التحقيق التلفزيوني من الفيلم المتكامل، لكن هذا لم يمنع أهميته، من حيث إلقاء الضوء على موضوع نبيل وقضية إنسانية ذات أبعاد تتجاوز الخاص.
لم يكن في نية المخرجة “ستيفي نيدِرزول” عمل فيلم وثائقي حول ريحانة، فهي من جهة مخرجة روائية، ومن أخرى رأت في تناول القضية مسؤولية عظيمة، وقد كان لقاؤها مع أفراد من العائلة بالصدفة في تركيا، حيث أروها بضعة شرائط فيديو احتفظوا بها ربما لإثارة الأمر يوما أو للذكرى.
لقد تجنبت إعطاءهم الوعود، لكنها أخذت معها المواد المصوّرة إلى ألمانيا للتفكير بالأمر، وهناك التقت مع “شولي” والدة ريحانة، وكانت قد هرّبت سرا من إيران بعضا من رسائل ابنتها، وصورا إضافية وفيديوهات بصوتها مصوّرة بالهاتف المحمول.
كان لصور ريحانة وهي طفلة أكبر الأثر في قرار المخرجة تحقيق الفيلم، لا سيما أحد التسجيلات ظهرت فيه لحظات مليئة بالأمل والألم لأم تنتظر في سيارة أمام السجن قرار الحكم النهائي بخصوص ابنتها، فهل ستحظى بالعفو، أو سيكون الشنق مصيرها؟
“قتل جرّاح من قبل مصممة ديكور”.. قضية رأي عام
يبدأ الفيلم مع لقطة لرسالة بخطّ اليد من ريحانة لأمها، ثم لقطات لعناوين صحف إيرانية عن “قتل جرّاح من قبل مصممة ديكور”، ثم كاميرا تتجول في أحياء طهران ليلا لتتوقف عند مقر للشرطة من الخارج.
تسرد الحادثة بصوت مسجّل للفتاة، شابة مرحة في مقتبل العمر (19 عاما حينها) بدأت تدريبها مصممة ديكور داخلي، استدعاها الطبيب لتصميم عيادته، فوجدت نفسها في بيت خال، حاول اغتصابها فطعنته في ظهره. لم تخبر أسرتها بل عرفت من الصحف، لتبدأ تساؤلاتهم حول ابنتهم، ونوع علاقتها مع الرجل.
إضافة إلى الأشرطة المسجلة لريحانة، اعتمد الفيلم على شهادات أسرتها ومحاميها ورفيقة لها في السجن، وقد صُوّرت جميع الشهادات في الداخل، حيث يجلس الشاهد بمفرده أمام العدسة، وفي مكان لا يتغير تقريبا وتُسجّل أقواله.
كانت مشاهد الأب في نفس المكان ونفس الجلسة خلافا للأم، لنعرف فيما بعد عند نهاية الفيلم أنهم كانوا موزعين بين طهران وألمانيا، حيث لجأت الأم، وهو ما فسّر أسلوب سردها الصريح الذي لم يعبأ بأي رقابة.
وقد بدت الأم وهي تستعيد ما جرى أكثر تماسكا من الأب، وأكثر اهتماما بسرد تفاصيل القضية، وجعلها في ذلك الوقت وحتى الآن قضية رأي عام داخل إيران وخارجها، وقد أعطت الشهادات -وهي تُروى بأسلوب بدا محايدا- انطباعا عن نهاية مختلفة ومُتَأمَّلة لريحانة، بحيث تثير فضولا وتشويقا لمن لا يعرف القصة حول تنفيذ الحكم فعليا بها.
إثارة التعاطف.. تسجيلات تغوص في حياة ريحانة الإنسانة
رغم أن موضوع الفيلم يثير بطبيعته اهتماما، فإن كثرة الشهادات أحيانا وتكرار بعض التفاصيل بما لا يضيف شيئا، أثار إحساسا بالتطويل (الفيلم ساعة وأربعين دقيقة)، كما تميز الأسلوب الإخراجي بالدرامية، ولا سيما في لجوئه إلى موسيقى تثير أجواء مأساوية.
لكن المخرجة استطاعت تقديم بطلتها على نحو يظهرها كإنسانة، وليست قضية مجردة أو رمزا كما باتت عليه، وهذا عبر معالجة أعطت فكرة وافية عن شخصية ريحانة وعن علاقتها الممتازة بعائلتها المنفتحة ومحيطها.
وقد ساهمت الأشرطة المصورة لها وهي طفلة ومراهقة وتسجيلاتها الصوتية وكتاباتها لأمها من السجن في إثارة التعاطف، وفي التقريب من الشخصية، وإعطاء صورة عن وضعها ومشاعرها. هذا على الرغم من سوء التصوير واهتزاز الصورة في هذه التسجيلات عامة، لكنها مشاهد سمحت بتشارك لحظات قوية، ومنها اللحظة التي كانت ريحانة تهاتف فيها أمها لتخبرها أنهم جاؤوا لأخذها لتنفيذ الحكم. وكان ذلك بعد سبعة أعوام من صدوره.
“زهرا أمير إبراهيمي”.. ممثلة إيرانية تنطق بأوجاع الضحية
لجعل التأثير بالقضية أكبر والإقناع بالظلم الواقع على ريحانة، استعان الفيلم بالممثلة الإيرانية المقيمة في فرنسا “زهرا أمير إبراهيمي” لتلقي بصوتها رسائل وملاحظات كانت ريحانة قد دوّنتها.
وفي توليف لم يلغِ الاحساس بفقدان عنصر رئيس في الفيلم وهو مكان الحدث، كانت “زهرا” تُمرّر بين الشهادات والقراءات مشاهد صُوّرتْ سرا من طهران في محاولة لتلافي النقص، ودائما من خارج السجن أو مكان الاعتداء أو الطرقات.
تحوّلت الفتاة في نظر نفسها ونظر الآخرين إلى رمز، وكانت مستعدة للموت في سبيل الدفاع عن النساء في مثل حالتها كما قالت في الشريط. ومما عقّد القضية أكثر اتخاذها أبعادا سياسية، فقد أُشير من خلال الشهادات إلى الطبيب وصديق له حضر لقاءه الأول مع ريحانة بوصفهما شخصيتين غامضتين شديدتي التدين والمحافظة وتنتميان إلى السلطة، وهو ما دفع القضاء برأي الشهود إلى الإصرار على أن القتل جاء عمدا لسبب لا يتعلق بمحاولة اغتصاب.
ابن الطبيب.. رفض العفو عن من تسيء لأبيه بالأكاذيب
لو كان الفيلم روائيا من النوع البوليسي لأثار لدى المشاهد تساؤلات عدة حول مضمونه، فكيف تطعن الفتاة الرجل من الخلف؟ ولمَ اكتفت المخرجة بتسجيل موجز لحوار مسجل حينها بين صحفية إيرانية وابن الضحية الشاب تسأله فيه عن أمر العفو عن ريحانة ليسقط عنها حكم الإعدام.
ومعلوم أن القانون في إيران يجيز هذا لأهل الضحية، فالشاب المتأثر أكد أن ريحانة تكذب، وأن 13 قاضيا تعاقبوا على القضية أقروا بذلك، وأن العفو هو لهؤلاء الذين لا يكذبون، وهي باتهام أبيه بالاغتصاب تسيء لسمعته، فهذا ليس من شيمه، وللعفو عنها يجب أن تقول الحقيقة.
كانت هذه الفقرة من الفيلم تشير إلى ما ورد في المداولات القضائية من أن المتهمة غيّرت أقوالها عدة مرات، وأن هناك شكا بوجود علاقة سابقة مع الطبيب، وأن محاولة الاغتصاب لم تثبت، وكان هذا التسجيل هو العنصر الوحيد الذي قدمه الفيلم من شهادات الطرف الآخر.
من المتوقع لفيلم وثائقي عادي أن يتوجه بأسئلته لهذا الشاب ليفسر مكامن الكذب في أقوال الفتاة، أو يعطي معلومات أكثر بهذا الخصوص، فهي فرصة لتبرئة سمعة والده، لكن ذلك لم يحصل، ولعلّه كان صعبا بسبب استحالة مشاركة الشاب في فيلم غير مصرح له في طهران.
“كانت جميلة جدا، وعلى وجهها يبدو الارتياح”
أبرز الفيلم مواقف مختلفة من القضية بين الأم والأختين من جهة، والأب من جهة أخرى، وقد يكون تفسير ذلك متأتيا من خلاف حقيقي في وجهات النظر في تعاملهم مع القضية، فالأب -خلافا للأم- لم يكن راضيا عن تحويل القضية إلى الإعلام العالمي ونشرها على وسائل التواصل، وتدخل السياسيين فيها من الطرفين، لأنه يعرف أن السلطات لن يعجبها ذلك، وأن ذلك سينعكس سلبا على ريحانة.
ويمكن التساؤل عندها لو لم تشتهر ريحانة وتصبح قضيتها دولية، وتعتز بدورها كرمز لحقوق المرأة في بلدها ونيلها تضامن العالم معها، فهل كان بمقدورها بعد ذلك أن تغير أقوالها؟ هل كان موقفها ليبقى على حاله؟
من الصعوبة التنبؤ بكل هذا، لهذا لم يكن الأب يرغب لابنته بالشهرة، ورغب ببقائها على قيد الحياة، لكنه قال لها باستسلام وحنان وبُعد رؤية: افعلي ما ترينه صوابا يا ابنتي. وكان هو الأكثر تأثرا في المشهد الأخير، وهو يبكي بألم بعد تنفيذ الحكم، ويقول: رأيتها، كانت جميلة جدا، وعلى وجهها يبدو الارتياح.