“ملاذكرد 1071”.. يوم كسر سلطان السلاجقة سطوة التاج البيزنطي على الأناضول

تكتسب معركة ملاذكرد التي خاضها القائد السلجوقي “ألب أرسلان” عام 1071 ضد الروم البيزنطيين معاني كبيرة في تاريخ تركيا الإسلامي، لأنها وقبل كل شيء مكنت السلاجقة من إقامة دولتهم الإسلامية في أراضي الأناضول، وفي الوقت ذاته وعلى المستوى البعيد مهدت لإضعاف حكم الإمبراطورية البيزنطية.

من هنا تأتي أهمية الفيلم التركي “ملاذكرد 1071” (Malazgirt 1071) على المستوى التاريخي وعلى المستوى الفني أيضا، لأن مُخرجيه “أوزغور بكار” و”بلال كاليونجو” كانا قد أعدا له كل أسباب النجاح، لإدراكهما أهمية أن تأتي معانيه التاريخية الملهمة متوافقة مع المنجز السينمائي المجسد لها.

لفهم الحدث التاريخي بكل أبعاده، ومعرفة الدور الذي لعبه فيه السلطان السلجوقي “ألب أرسلان” (الممثل جنكيز جوشكون)؛ يركز صُناع الفيلم على نقل تفاصيل دقيقة عن شخصيته التي ألهمت الجيش والقادة المقربين منه، حيث الشجاعة والإيمان بعدالة القضية التي يحاربون من أجلها، والتي حفزتهم على خوض المعارك بمعنويات عالية وإيمان بالنصر الأكيد، رغم قلة أعدادهم مقارنة بالجيوش التي واجهتهم في معارك حاسمة.

“سينتهي بحث الأتراك عن وطن في ظل حكمي”

من مفتتح الفيلم يتضح تأثير والد “أرسلان” على تكوين شخصيته، من خلال تقديم مشهد متخيل يظهر فيه والده وهو يتحدث إليه في طفولته، ويوصيه بضرورة تحليه بالصبر والجلادة، لأن أعداءه كثيرون ومعركته معهم صعبة، لهذا السبب لا بد أن يكون معصمه قويا وسيفه حادا، وأن يكون يقظا لأن خصومه لا يعلنون صراحة ما يُبيّتون.

في المشهد الذي يليه نرى “أرسلان” وقد أضحى قائدا كبيرا، ويتجسد التزامه بنصائح والده وهو يواجه “كوتالميش” أحد القادة السلاجقة الذين خرج بجيشه للمطالبة من غير وجه حق بالحكم بدلا منه، رغم محاولاته إقناع المتحدي له بالانسحاب سلميا، فقد أصر المهاجم على منازلته، لكن لم تطل المنازلة طويلا، إذ أرداه “ألب أرسلان” قتيلا.

مطالبة غريمه بأخذ مكانه والسيطرة على مساحة الأرض التي يقيم فوقها شعبه جعلته يعجل لتحقيق حلم سلطانهم الأول “أرطغرل بك”، بإيجاد أرض للسلاجقة تتسع حدودها لأحلامهم الكبيرة في إقامة إمبراطورية تركية عظيمة. فقد أعلن جهارا أمام شعبه “سينتهي بحث الأتراك عن وطن في ظل حكمي”.

زواج الملكة بهدف إيقاف الهجوم السلجوقي

للبدء بتحقيق ما وعد به اتخذ من الأناضول هدفا له رغم قلة عدد جنوده، منطلقا من قناعة أن الفئة الصغيرة المؤمنة، قادرة على دحر أكبر الفئات والجيوش التي تقف في طريقها، وقد أدرك أن هجومه سيكتب له النجاح، ما دام الروم في تلك اللحظة يعانون من الانقسامات والصراعات فيما بينهم، فأراد استغلالها في الوقت المناسب من أجل هزيمتهم في عقر دارهم، ورفع راية الإسلام فوق ممالكهم.

اقتحام الكنيسة.. فارس يكشف أسرار الكراهية أمام الملكة

فيلم “ملاذكرد 1071” هو من الأفلام التركية التاريخية التي تخصص مساحة كبيرة من زمنها لعرض جبهة الخصوم من الداخل بكل تفاصيلها، من أجل إعطاء المُشاهد فكرة جيدة عن مجريات الأحداث وتطورها.

في داخل حصن الإمبراطورية البيزنطية، وفي اللحظة التي كان يجري فيها قداس تعزية إمبراطورها الراحل داخل الكنيسة، يقتحم المكان عدد من الفرسان المسلحين بقيادة “رومانوس ديوجينيس” (الممثل جانر قورتاران)، لكن ينتهي الاقتحام المفاجئ بإلقاء القبض عليه وتوجيه تهمة التآمر على الإمبراطورية، وبموجب قوانينها يُحكم عليه بالإعدام حتى الموت، ويُنقل إلى السجن في انتظار موعد تنفيذ الحكم بحقه بعد مرور 45 يوما على الواقعة.

قبل نقله للسجن يعلن المهاجم أمام الملكة (الممثلة فيلدان أتاسفير) أسباب هجومه على القصر، ويحيلها إلى معرفته بما يجري خارجه من اضطهاد للناس الذين ينبغي على جيوش الإمبراطورية حمايتهم لا الإساءة إليهم، وبالتالي تُزرع الكراهية للإمبراطورية الرومانية في دواخلهم.

وقد ذكر أمامها نقاط ضعف الجيش الذي يواجه تحديات تتمثل في مهاجمة الوحدات العسكرية التركية لمواقعهم، وعجزهم التام عن مواجهتها، مما يشكل خطرا حقيقيا على الإمبراطورية البيزنطية ويهدد بانهيارها. في تلك الأثناء كان السلطان “ألب أرسلان” يجهز

حملات عسكرية متفرقة تهاجم أراضي الروم في الأناضول، وخلالها يبسط قادته العسكريون المخلصون سيطرتهم على مساحات متفرقة منها.

الممثلة فيلدان أتاسفير بدور الملكة

ينقل الفيلم جانبا من خصال السلطان وقدرته على جمع المزيد من الجنود والقادة السلاجقة حوله، وأيضا من بقية سكان مناطق الأناضول الذين كان يحثهم بخطب حماسية، يدعوهم من خلالها للتضحية بكل ما يملكون، من أجل رفع راية الإسلام فوق أراضيهم.

“رومانوس الرابع”.. تحرك تدعمه الكنيسة لمواجهة السلاجقة

تثير أخبار مهاجمة الجيوش السلجوقية لأراضيها مخاوف الإمبراطورة، وتدفعها للتراجع عن قرار إعدام القائد “رومانوس”، وذلك من خلال إطلاق سراحه وإعلان زواجها منه، وبهذا الإجراء تمهد لتوليه الحكم من بعد زوجها، لكن قرارها يثير حفيظة رجال الكنيسة وبقية القادة الذي كانوا طامعين بالزواج منها من أجل الاستيلاء على السلطة بمباركة الكنيسة الرومانية الشرقية.

من أجل وضع حد للصراعات التي ظهرت إثر اتخاذها قرار الزواج، ترتب الملكة مؤامرة تقضي فيها على كل من وقف في وجهها، لتخلي المجال كاملا بعد ذلك لزوجها الإمبراطور الجديد “رومانوس ديوجينيس الرابع” لقيادة الجيش، فراح يجدد فيه ويقوي صفوفه لاستعادة بعض المناطق التي سيطر عليها الأتراك.

على إثر تحرك الإمبراطور العسكري الكبير المدعوم من قبل رجال الكنيسة، يقرر “ألب أرسلان” شن هجومه المنتظر لمواجهته في موقعة “ملاذكرد” (تقع اليوم في مدينة موش التركية)، بالرغم من الفارق الكبير بين حجم الجيشين، إذ يقدر عدد الجيش الروماني حينها بين 40-50 ألف جندي، في حين لا تتجاوز أعداد السلاجقة ربع هذا العدد.

صلاة الجمعة.. موعد انطلاق المعركة الحاسمة

لشحذ همم رجاله ترك السلطان “أرسلان” لهم حرية المشاركة في المعركة الحاسمة من عدمها، فأخبرهم أن لا وجود لقائد وجندي عنده، فالجميع عنده سواسية، جنود في خدمة الدين الإسلامي الذي يريد رفع رايته في الأناضول.

المعركة الحاسمة التي خاضها الجيش السلجوقي ضد الروم البيزنطيين

خطط السلطان السلجوقي بدقة للمعركة من خلال اختيار موعد انطلاقها بعد صلاة يوم الجمعة المصادف 26 أغسطس/آب من عام 1071، وبمشاركة كل الجوامع التي رفعت الأذان في نفس موعد الهجوم، إيذانا منها ومباركة للخطوة التي يقدم عليها السلطان بشجاعة نادرة، تجسدت بارتدائه الكفن الأبيض، وربط ذيل حصانه استعدادا للشهادة.

وضع السلطان السلجوقي نُصب عينه خطر انحياز بعض القبائل التركية المتفرقة في المعركة لصالح العدو، لهذا راح يؤمن وقوفها إلى جانبه، مقابل وعد بحفظ كرامتها في دول السلاجقة القادمة على كامل تراب الأناضول.

إلى جانبهم انضمت قبائل أخرى عانت من جور الجنود الروم وعسفهم، وطلبت الانضمام إلى الجيش الصغير بقيادة السلطان “ألب أرسلان” الذي وضع خطة تسمى في العلم العسكري بـ”الهجمات الاختبارية”، وتعتمد على دفع مجموعات صغيرة لمهاجمة مقدمة العدو، ثم الانسحاب السريع بعد ذلك من أجل جرهم إلى مواقع تكون وحدات الجيش التركي متمركزة فيها، كما اعتمد في هجومه على الخيول، لكونها أسرع حركة من جنود مشاة العدو البطيئة بسبب ثقل حمولتها.

“لماذا تعاملني بالحسنى وأنا عدو لك؟”

يبذل صانعا الفيلم جهدا كبيرا في تجسيد المعارك الطاحنة سينمائيا، إلى جانب تأثيثهما البارع للتفاصيل التاريخية الدقيقة التي تقرب العمل من الحدث التاريخي، وتمنحه مزيدا من الحيوية والمصداقية.

الإمبراطور رومانوس الرابع يخسر معركته أمام ألب أرسلان

بعد انتهاء المعركة بانتصار الجيش السلجوقي، ورفع راية الإسلام فوق مدن وقلاع الروم، وتتويجها بأسر إمبراطورها “رومانوس”؛ يتوقف المشهد الختامي عند محادثة تجري بين الأسير والسلطان، فيطلب فك قيود أسيره أولا، ثم يأخذ يكيل المديح له بوصفه قائدا عسكريا واجهه في ساحة المعركة الحاسمة.

مقابل ضمان عودته إلى دياره، يطلب منه السلطان خضوعه الكامل للحكم التركي، والالتزام بتقديمه الجزية وتعويضات الحرب. لم يصدق الأسير ما يسمعه من كلام ووعود، لهذا يسأل السلطان المنتصر: لماذا تعاملني بالحسنى وأنا عدو لك؟ فيجيبه المنتصر قائلا: ما أنت فاعل بي لو وقعت أنا في أسرك؟ فأجاب بأنه لن يتورع في معاملته بكل ما يسيء لشخصه وكرامته. عندها قال له السلطان: هل ترى؟ هذا هو الفرق بيننا.

يختم الفيلم مساره بتذكير المُشاهد بأهمية انتصار الجيش السلجوقي في تلك المعركة التي فتحت أمام الأتراك بوابات الأناضول، وأدخلت “ألب أرسلان” فاتح الأناضول العظيم التاريخ من أوسع أبوابه.