“تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا”.. ضربة إرهابية بتخطيط من العائلة الحاكمة
يكشف الوثائقي البريطاني “تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا” (Sri Lanka’s Easter Bombing) خفايا التفجيرات الانتحارية التي وقعت عام 2019 في مدن عدة من سريلانكا، وأدت إلى مقتل 269 شخصا.
وكان أخطر ما في الأمر تورط الرئيس السابق “ماهندا راجاباكسا” وأخوه وزير الدفاع فيها، مع أن منظمة “جماعة التوحيد الوطنية” ادّعت مسؤوليتها عن العمليات، لكن الشكوك حول تخطيط الرئيس وأخيه لها وتسهيل تنفيذها واستغلالها من أجل توفير الذرائع الكافية لعودتهما إلى الحكم قد برزت مباشرة بعد التفجيرات.
لكن الكشف الأهم عما جرى جاء بعد تقديم أحد المقربين والمتعاونين مع مسؤولين سابقين كبار شهادته للعلن أمام عدسات الوثائقي، بعد أن قدّمها أمام منظمات حقوقية تابعة للأمم المتحدة، وجرى التأكد من صحة الكثير منها، وتطابقها إلى حد كبير مع البحث الاستقصائي الذي يقوم به صانع الوثائقي “توماس ووكر”.
“هانزير أزاد مولانا”.. شاهد من داخل المطبخ السياسي
ظل “هانزير أزاد مولانا” -وهو مترجم ومساعد لمسؤول المخابرات “بيلايان”- يعمل سنين عددا مع الأخوين “راجاباكسا” أثناء حكمهما للبلد، وتكشف شهادته خفايا التخطيط للعمليات التي يدعى تنظيم “الدولة الإسلامية” أن أحد فروعه قد نفذها، لكن الوقائع تشير إلى تخطيط مسؤولين كبار مقربين من الرئيس السابق لها، وأنهم أوكلوا لمنظمة “جماعة التوحيد الوطنية” الإسلامية المتشددة مهمة تنفيذها.
يصف “مولانا” العملية بأنها رهيبة”، وتكشف بشاعة وقساوة قادة لا تهمهم أرواح الناس الأبرياء، بقدر ما تهمهم مصالحهم وأطماعهم في العودة إلى السلطة التي فقدوها منذ سنوات، ويريدون استرجاعها ثانية من خلال إشاعة الخوف في قلوب الناس، ونشر أوهام “الإسلاموفوبيا” بين الجمهور.
يقول “مولانا” إن الدافع لتقديم شهادته واعترافاته، إنما هو لثقل إحساسه بالتورط والمشاركة في قتل أبرياء، وللتخلص من تأنيب الضمير، لذا يقرر الكشف عما يعرفه عن التفجيرات، ويؤكد أن التخطيط لها قد جرى منذ وقت طويل، وأن أهدافها البعيدة المدى حُددت بدقة، وأنه قد التقى بالشخص المسؤول عنها، ويعرف كيف زج بالمنظمة الإسلامية المتشددة بها.
“ماهندا راجاباكسا”.. صورة القائد القادر على حل مشاكل البلاد
لفهم خلفيات ما تكشف عنه شهادة “مولانا”، يرجع الوثائقي قليلا إلى الوراء، وبالتحديد إلى عام 2005، أي قبل 14 عاما على وقوع التفجيرات، حين وصل “ماهندا راجاباكسا” إلى دفة الحكم عن طريق الانتخابات، وقد ساعدته عدة عوامل، منها جاذبيته القوية، وانتماؤه إلى الأغلبية البوذية المتحدثة باللغة السنهالية، وتربيته الصارمة على الولاء، كل أدى إلى ترسيخ صورته قائدا قادرا على حل مشاكل البلد، والتخلص من حروبه الأهلية.
ولتعزيز تلك الصورة باشر بالحديث عن حل المشكلة التاميلية بالطرق السلمية، لكنه في الواقع كان يخطط لإنهاء تمرد حركة “النمور التاميل” المسلحة، وهي حركة تطالب منذ 1983 بالتخلص من هيمنة الأغلبية البوذية عسكريا، لهذا عيّن أخاه “غوتابيا راجاباكسا” وزيرا للدفاع، وأوكل إليه مهمة تصفية الحركة التاميلية دون رحمة.
ولأن الجميع كان ينتظر اليوم الذي يُعلن فيه انتهاء هذه الحرب الطويلة، فقد رحب الناس بإعلان الجيش القضاء النهائي على التمرد، من دون الإشارة إلى حجم الجرائم والمجازر التي ارتكبها قادته بحق المدنيين التاميليين.
“وحدة طرابلس”.. تصفية المعارضين للعائلة الحاكمة
بعد تصفية التمرد المسلح، توجه الرئيس مباشرة لتصفية المجتمع المدني، وإسكات أصوات المعارضين له، ومن أجل تحقيق ذلك أمر أخاه بعسكرة المجتمع وقمع الحريات، وللتحكم بكل مفاصل الدولة قرر حصر كل المواقع المهمة في الحكومة بأفراد عائلته والمقربين منه.
ومن أجل تقوية نفوذ الجيش، عمل أخوه على تأسيس وحدة عسكرية خاصة، مهمتها تصفية المعارضين لسياستهم التي أخذت تنعكس سلبا على حياة الناس، بعد انتشار فسادهم في كل مفاصل الدولة، وستلعب “وحدة طرابلس” كما سماها الوزير دورا في تصفية كثير من المعارضين.
يكشف الشاهد “مولانا” أنه عايش اللحظة التي طلب فيها وزير الدفاع من “بيلايان” تأسيس “فرقة الموت” تلك، ومهمتها تصفية السياسيين ورجال الإعلام والصحفيين المعارضين لحكم “عائلة راجاباكسا”، وكان “بيلايان قد عُيّن وزيرا في الحكومة.
“لاسانثا فيكريماتون”.. نهاية صحفي معارض كتب نعيه بنفسه
كان الصحفي المعارض الشجاع “لاسانثا فيكريماتون” رئيس تحرير صحيفة “ساندي ليدر” أول ضحايا فرقة الموت، وليس الغريب في عملية الاغتيال بشاعتها فحسب، بل الغريب أنه قبل مصرعه بيوم واحد كتب افتتاحية باسمه يعلن فيها موته على يد الجلاوزة (رجال السلاطين)، وأن تصفيته جسديا لن تحجب الحقيقة، ولن تُخيف الصحفيين الشجعان الذي سيسيرون على نفس الطريق الذي سار عليه.
يؤكد الشاهد أن الأوامر بتصفيته جاءت مباشرة من وزير الدفاع، بعد قراءته تحقيقات نشرتها جريدته، تُثبِت فساد سلطته وعسكرته للبلد، وقد مهدت سياسةُ القمع وإسكات أصوات المعارضة بالقوة وإنهاء حركة التاميل الطريقَ أمام الأخ الأكبر، للفوز مرة ثانية في انتخابات عام 2010 الرئاسية.
إفلات من أسوار الأدلة الدامغة.. نفوذ الدولة العميقة
خلال خمس سنوات شاع الفساد، وتدهورت أحوال الناس، مما أثار موجة من الغضب العارم ضد السلطة، أدت إلى خسارة “راجاباكسا” لها، وانتُخب رئيس جديد للبلد بدلا منه.
يبرز في تلك الفترة اسم “ناشاثا سيلفا”، وهو رئيس شرطة سابق اضطر للهروب من البلد، بعد تعرضه وعائلته لتهديدات بالقتل جراء موقفه النزيه، ومناشداته رجال الحكومة بالكف عن تجويع الناس وقمع حرياتهم، وهو يعود ليُعين في الحكومة الجديدة بنفس منصبه السابق، وتوكل إليه مهمة الكشف عن قتلة الصحفي.
يكشف رئيس الشرطة بالأدلة الدامغة عن الجناة، لكنهم لم يُقدموا للمحكمة لقوة نفوذهم في دولتهم العميقة التي نجح رجالها في إطالة أمد محاكمتهم، وفي النهاية أُطلق سراحهم بكفالة مالية، في حين حُكم على الوزير “بيلايان” بالسجن مدة 19 شهرا، مع كل ما توفر من أدلة كافية لسجنه مدى الحياة.
“سورش سالي”.. مخطط العملية الإرهابية من الخارج
يعترف الشاهد أن الشعور بالخوف قد انتابه من تطور الأحداث، لكن استدعاء الوزير الأمني “بيلايان” له في السجن قد هدأ من روعه، وقد طلب منه خلال اللقاء عدم التطيّر، لأن كل شيء سيكون في صالحهم، ويأمره في اللقاء نفسه بالتعرف على مجموعة من سجناء وصفهم بالمتشددين.
ويكشف أن الشخص الذي التقى به اسمه “زايني مولافي”، وهو الأخ الأكبر لـ”زهران” أحد قادة منظمة “جماعة التوحيد الوطنية”، وقد طلب “بيلايان” منه جلب مبلغ من المال معه في المرة القادمة، لدفع كفالة إطلاق سراحهم من السجن، واستغلال وجودهم في الخارج لأغراض يريد تحقيقها من خلالهم.
بعد مضي ثلاثة أشهر تقريبا على اللقاء، يُطلق سراحهم بكفالة مالية، وفي أوائل شهر يناير/ كانون الثاني 2018، يطلب منه مسؤوله ترتيب لقاء سري بين هؤلاء الأشخاص و”سورش سالي” رئيس مخابرات الشرطة العسكرية السابق، الذي عُين في ماليزيا بوظيفة جديدة بعد خسارة “راجاباكسا” انتخابات عام 2015.
ومع أن “سورش” كان في خارج البلاد، فقد ظل ذا نفوذ كبير في جهاز مخابرات الشرطة العسكرية، وله فيه مؤيدون كثر، كما أنه ظل قريبا من الرئيس السابق، لهذا كُلّف بمهمة التنسيق مع المجموعة الإسلامية المتطرفة.
وقد التقى الطرفان في بيت منزوٍ في الغابة، ودام اجتماعهما 3 ساعات، لكن الشاهد لم يحضره بل كان ينتظرهم بالخارج، وعند خروجه أخبره “سورش” أن “الأخوين” يريدان خلق فوضى في سريلانكا، وأنهم يتحينون الفرصة للعودة إلى الحكم ثانية، لكن هذه المرة سيكون “غوتابايا” هو الرئيس.
“جماعة التوحيد الوطنية”.. منظمة متشددة يدعمها النافذون
بدأ اسم منظمة “جماعة التوحيد الوطنية” بالظهور منذ عام 2018، بعد اغتيال مسلحيها عددا من رجال الشرطة، وقد توصلت أجهزة المخابرات إلى مخبأ “زهران”، وعثرت على كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات فيه، لكنها لم تستطع القبض عليه، لأن تحقيقات الشرطة لم تمض في طريقها كما هو متبع.
فقد كان التدخل المباشر من قبل مسؤولي أجهزة مخابرات الشرطة العسكرية، دائما ما يعيق أي تحقيق من شأنه الوصول إلى حقائق تتعلق بالمنظمة المتشددة وصلاتها بالنظام السابق، ويحدث هذا الأمر أيضا بعد تفجيرات عيد الفصح عام 2019، التي استهدفت 3 كنائس و3 فنادق فخمة.
تذكر المعلومات التي حصل عليها الوثائقي، أن جهاز المخابرات الهندية كان قد حذر من وقوع التفجيرات، وأنه أرسل ما لديه من معلومات إلى أجهزة الأمن السريلانكية، لكنها لم تأخذ بها، لأن جهاز مخابرات الشرطة العسكرية -كما سيتضح لاحقا- كان قد طلب منهم إهمالها لعدم دقتها.
“الإرهاب الإسلامي”.. عودة الأخوين إلى مسرح السياسة
يعرض الوثائقي تسجيلات التقطتها كاميرات أحد الفنادق، ويظهر فيها أحد الانتحاريين وهو جالس في المطعم، ثم يهم بالخروج منه نحو مكان آخر خارجه، والحقيبة المشحونة بالمتفجرات على ظهره، ويتبيّن من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام وقتها حجم الدمار الهائل الذي أحدثته الانفجارات في الكنائس والفنادق المستهدفة، وما أثارته من رعب بين السكان.
وبعد أيام قليلة من حدوث التفجيرات، يظهر الأخوان مجددا على مسرح السياسة، داعين الناس إلى التفكير بالرجال القادرين على استتباب الأمن، كما فعلوا من قبل مع “نمور التاميل”، وأن هؤلاء وحدهم القادرون على وقف” الإرهاب الإسلامي”.
وفي كل خطبهم التي تلت الانفجارات عملوا على ترسيخ “الإسلاموفوبيا” في أذهان الناس، وإقران التفجيرات بالمسلمين وحدهم، ونتيجة لهذا الشحن الإعلامي والتخويف وإشاعة الرعب في النفوس، اندفع الناخبون السريلانكيون بعد مرور 6 أشهر على التفجيرات، إلى اختيار وزير الدفاع السابق “غوتابايا” رئيسا جديدا للبلد.
“غوتابايا”.. رئيس يعطل التحقيقات لستر الجريمة
خلال فترة حكمه عمل “غوتابايا” على تعطيل كل تحقيق يتعلق بالتفجيرات، ومنع نشره علنا، كما يرغب أهالي الضحايا، وقد نفى كذبا علمه بأي معلومة تربط بين المتشددين وبين “سورش”، أما “سورش” فقد ظل يكرر خلال التحقيقات معه أنه كان خارج البلد خلال الفترة التي حدثت فيها التفجيرات.
اكتفت الحكومة بإدانة المنظمة، ورغبة منها في إغلاق ذلك الملف الخطير ركزت على تبريز نهاية زعيمها الذي داهمته الشرطة في منزله، لكن قبل إلقائها القبض عليه، فجّر نفسه مع عائلته.
ولتعزيز مكانة وسلطة العائلة أخذ الرئيس الجديد بتعيين أفرادها في المراكز المهمة في الدولة، كما أعاد “سورش سالي” إلى وظيفته السابقة مديرا لجهاز مخابرات الشرطة العسكرية، ونجح في إسقاط التهم الموجهة لـ”بايلان” وإطلاق سراحه بكفالة مالية.
وقد أشاع مع حاشيته الفساد الذي بلغ حدا قياسيا دفع الناس للخروج ضده وضد نظامه في الشوارع، ولم تمر أكثر من سنتين على حكمه حتى دخلت جموع الجماهير الغاضبة إلى قصره، وأجبرته على ترك البلد خوفا من انتقامهم.
يطلب الوثائقي من الحكومة الجديدة الإجابة على الأسئلة الواردة على لسان أهالي الضحايا، ومن بينها: هل كان “الأخوان” على علم بالتنسيق الحاصل بين “سورش” والمتطرفين، وما مدى صحة ادعائه بأنه كان في الخارج لحظة وقوع الانفجار، وهل تدخّل جهاز مخابرات الشرطة العسكرية فعلا لمنع وصول رجال الشرطة إلى الحقيقة، وما حقيقة تجاهل تحذيرات المخابرات الهندية بتعمد؟
على تلك الأسئلة ردت الحكومة الجديدة بأنها ستشكل لجنة تحقيق تبحث فيها، وستقدم الأجوبة عليها إلى أهالي الضحايا لاحقا.