“السلطة”.. عدالة الشرطة الأمريكية المتدرجة بتدرج الألوان
يجعل فيلم القوة (Power) للمخرج “يانس فورد” (2024) وحشية الشرطة الأمريكية موضوعا له. فيكشف أن الأمر أشد تعقيدا من التهمة النمطية التي توجه إليها غالبا، بإساءة استخدام أفرادها للسلطة التي يمنحها لهم القانون، مستندا إلى نخبة من الأكاديميين والصحفيين وضباط الشرطة.
ولتفكيك هذه الصورة المركبة، يعود إلى نشأة هذا الجهاز في القرن الـ19، ودوره في النصف الأول من القرن العشرين، حين كان الجيش يقمع السكان الأصليين، ويساعد المستوطنين البيض على إخضاعهم.
ووجه الطرافة والعمق في الفيلم هو انطلاقه من تاريخ الشرطة في الولايات المتحدة، واستخدامها للقوة، ليعرض تاريخ التمييز العرقي فيها، وما يتضمن من خلفيات سياسية عنصرية لا تزال فاعلة، حتى مع شعار المساواة بين شتى الأعراق والأجناس الذي يرفع اليوم في البلاد.
سلطة الشرطة.. “قوة فورية” تنزع إلى خرق القوانين
فيلم “السلطة” فيلم مونتاج إلى حد كبير، فمادته البصرية جاهزة يستقيها المخرج من مصادر أرشيفية مختلفة؛ من فيديوهات الهواة، والأفلام العائلية، والأفلام الفنية القديمة، ونشرات الأخبار، والتحقيقات الصحفية.
وتشترك تلك المواد على اختلافها في عرض جهاز الشرطة، بين الصورة المثالية المنشودة، والتجاوزات الكثيرة القائمة، ثم طرح أسئلة من قبيل: من أين يستمد هذا الجهاز قوته؟ وما الذي يجعله ينزع دائما إلى خرق القوانين، وهو الجهاز الموكول له السهر على ضمان احترامها؟
يعسر على المستجوبين تحديد مصدر قوة الشرطة بدقة، فهي تعود -وفق بعضهم- إلى القدرة المجتمعة لمليون عنصر ينتشرون في أنحاء الولايات المتحدة، ويعملون برؤية واحدة، ويحظون بامتيازات واحدة.
أو ربما تعود قوتها إلى خصوصيتها، فهي نظريا تعد “قوة فورية” يحكمها مبدأ النجاعة، وطبيعة المهام الموكولة إليها والوضعيات الطارئة التي تواجهها، والتي من شأنها أن تخل بالأمن العام، أو تضع البعض في موقف خطر، تدفعها غالبا إلى أن تتصرف على الفور، دون أن تنتظر القرارات التي تصلها من السلطات العليا.
وهذا ما يمنحها امتياز التصرف بهامش كبير من الحرية والاستقلالية، لا يحظى بهما غيرها من الأجهزة.
هامش الحرية.. ورقة بيضاء في أيادي الشرطة
تتمثل المعضلة في أن هامش الاستقلالية يتسع، وتراه الشرطة ورقة بيضاء، تسمح لها بالتصرف خارج أطر القوانين، وهذا ما يقلب أدوارها من قوة تخدم الشعب إلى قوة تُسلط عليه، فتعتدي على أفراده، وتسمح لنفسها بانتهاك خصوصيته.
فهي تتنصت على مكالماته، وتطلب منه الاستظهار بأوراقه الثبوتية وعرض هويته متى شاءت، بل يمكنها أن تأخذ عينة من حمضه النووي لفحصها.
وهنا يُطرح سؤال ذو طبيعة فلسفية: ما أو من الذي يعطي الشرطة هذه السلطة لتتحكم في مصائر البشر؟ فالطرف الوحيد المخول له بأن يستعمل العنف هو الدولة، صحيح أن أداتها التنفيذية هي الشرطة، لكن لا بد أن تمارسها بالوكالة عنها، لا بالأصالة عن نفسها.
ضبط الآبقين.. دوريات جوالة لحماية نظام العبودية
لفهم سلوك الشرطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتَمثل ما يحدث من انقلاب في أدوارها، لا بد من العودة إلى أصل نشأتها، وطبيعة علاقتها بالنظام السياسي. وهنا يقول أحد الأكاديميين إن من معاني كلمة “الشرطة” في الإنجليزية، المدينة المستقلة.
ويبدو أن جهازها في الولايات المتحدة يتمثل دوره على هذا النحو، فأقسام الشرطة فيها منظمات شبه عسكرية، ولهذا التمثل وهذه الوضعية تاريخ لا بد من معرفته لتتضح الصورة.
ففي القرن الـ19، أراد البيض نهب أراضي السكان الأصليين، وكان عليهم إخلاؤها منهم باعتماد القوة أولا، فعُهد بالمهمة لمليشيات الحدود.
وفي الجنوب كانت المليشيات تتجول في المدن، وتراقب العبيد باستمرار، وأيما عبد ضُبط وهو يتجول بلا إذن خطّي من سيده ضُرب ضربا مبرحا، وكانت دورياتها تجوب المزارع، لتتأكد من أن هؤلاء العبيد “لا يفتعلون” المشاكل.
وحين سئم سادة العبيد هذه الوضعية التي أضحت تربك أعمالهم أكثر مما تراقب عبيدهم، عملوا على تنظيم عناصرها وتدريبها، فأُلحقت المليشيات بجهاز الشرطة، ومن هنا كان ارتباطها بالعبودية.
قوات فرض النظام بين العمال.. جينات العنصرية المتوارثة
في القرنين 18-19، ظهرت قوات شرطة محلية تحاول فرض النظام بين العمال، ولكن فرض النظام بينهم من وجهة نظر رأسمالية يعني منعهم من حقي الإضراب والاحتجاج.
ثم تطورت هذه المهمة في القرن العشرين على إيقاع الثورات الاشتراكية في أوروبا، واتخذت حماية الرأسمالية “طابعا وطنيا” نبيلا، تحت عنوان حماية القيم الأمريكية من الفوضى الاشتراكية.
هكذا إذن بات شيء من هذا السلوك العنيف -تجاه السود أو طبقة العمال- ينتقل من جيل إلى آخر، حتى أن رجال الشرطة حين يرون تجمعا للسود أو العمال في الطريق العام، يسألونهم تلقائيا عن أوراقهم الثبوتية، بما يشبه الانعكاس الشرطي وفق تقدير المدرسة السلوكية.
فمع أن هذا الجهاز منظم بقوانين صارمة، فقد حافظت جيناته على طبيعتها العنصرية الخادمة للتفاوت الطبقي.
“الاحتجاج الشعبي عمل حربي يشنه طرف خارجي”
يتساءل الفيلم عن طريقة إقناع رجل الشرطة بأن أبناء عرقه أو طبقته، إنما هم مجموعة من المنحرفين، حتى يقف في صف أعدائهم من أصحاب الأملاك والمصالح.
ويعرض مسار مؤسس الشرطة العصرية “أوغست فولمر”، بوصفه نموذجا لاختراق العقول عند مكافحة التمرد، فقد خدم في الجيش الأمريكي في الكارييبي والفلبين التي احتُلت وأجبرت على خوض حرب التحرر، فواجهت ردة فعل الجيش الأمريكي الوحشية.
وانطلاقا من تجاربه تلك، ومن عمله لاحقا -حين غدا مفكرا وأكاديميا مختصا في شؤون الأمن- عمل على تصميم تصوره لجهاز الشرطة، من جهة التجهيزات والقوانين والتنظيم الداخلي، فجاء مستمدا من قانون الحرب.
ولذلك كانت عقيدة الشرطة تقوم أساسا على غرس فكرة أن الاحتجاج الشعبي عمل حربي يشنه طرف خارجي، وليس تعبيرا عن رفض وضع سياسي أو اقتصادي قائم.
وعليه فمنطلق الولاء للوطن وحماية قواته من هجمات العدو يتطلب التعامل مع المحتجين كما يتعامل جندي مع أعدائه في ساحة الحرب.
وهكذا أصبح جهاز الشرطة أشبه بتلك الدولة الاستعمارية التي تنتهك سيادة الكاريبي والفلبين، وجعل دورها المحافظة على الوضع الراهن، الذي يؤبد نفوذ الطبقة المهيمنة، ويحول دون مطالبة الفئات المهمشة بحقوقها.
“السود لا إبداع لديهم”.. فلسفة الرجل الأبيض
يثبت الفيلم أن تاريخ الشرطة يؤكد أنه جهاز يخدم النظام لا القانون، والفرق كبير بين من يحرص على احترام القانون خدمةً للشعب، وبين من يعمل على حماية نظام يمثل امتدادا لتاريخ أمريكا العنصري.
بل إن ذلك النظام العنصري يعكس فلسفة الرجل الأبيض عامة، الذي شكل كيان الأسود وفق التصور الذي يريد، ووفق الدور الذي يوكله له.
كما أنه أيضا متشبع بأفكار “توماس جيفرسون” (ق 18-19)، الكاتب الرئيسي لإعلان استقلال الولايات المتحدة، الذي كان يردد بأن السود لا إبداع لديهم.
لهذا لم يكن العقل الأبيض يرى في الأسود غير كائن منحرف مضطرب، فقد كان “دفيد هيوم” قبله -وهو من فلاسفة الأنوار- على قناعة بأن العرق الأسود يردد الكلام فحسب، وغير قادر على الابتكار.
أما “هيغل” فيذهب إلى أنه لا روح له، فهو طفولة خالدة تعيش في أدغال أفريقيا، كما تعيش الوحوش.
ويعبر ضابط الشرطة الأسود عن هذه الحقيقة بألم، فقد كان يطارد شابا أسود سرق سيارة وأوقع به، وعندما وصل شرطي أبيض لاحقا ضرب الشرطي الأسود بمصباح يدوي على رأسه، وحين سأله: لماذا تضربني أنا؟ قال له: ضربت الأقرب من الشابين الأسودين.
ويذكر الضابط أنه قال ذلك بلا ندم، لأن الأسود في تصوره هو مجرم بالضرورة، ولذلك لم يكن يرى أن من واجبه التحري.
تدرجات اللون.. نظام أبيض يضهد من هم أقل بياضا
ليس العرق الأبيض نفسه دائما أبيض تماما، لذلك فهو يخضع للتمييز الداخلي أيضا، بل إن تأسيس جهاز شرطة نيويورك كان بسبب تدفق المهاجرين الإيرلنديين، وكانوا يومئذ عرقا أدنى، شأنهم شأن الإيطاليين واليونانيين.
فقد كان عنف الشرطة يصيب كل أولئك البيض، بحسب التدرج اللوني، فكلما كنت أشد بياضا أمنت من الشرطة، وكلما تلونت بشرتك كنت أكثر عرضة لبطشها.
لقد أوجد هذا الجهاز حيلة لجعل العقاب تراتبيا، فمع أنهم يُجلدون جميعا، فإن الخدم يجلدون بملابسهم، أما العبيد فيجلدون عراة.
الانخراط في الشرطة ونبذ المحيط.. طريق الاندماج
لم يكن أمام المضطهدين سوى الانخراط في جهاز الشرطة، لفرض اندماجهم في المجتمع الأمريكي، ولكن المنظومة لم تكن تقبل به إلا بشرط الابتعاد عن أقرانه، واتخاذ مسافة منهم.
وبذلك يصبح أداة لفرض هذا التمييز، ويظل مطالبا باستمرار بإظهار ولائه للمنظومة، ولا يتحقق ذلك إلا بمزيد من الجبروت ضد المسحوقين في تصنيف المنظومة.
وإجمالا، ففي الفيلم تسري قناعة مدارها على أن الشرطة الأمريكية إنما هي قوة مسلطة على من لا يملك، لأنه يمثل خطرا على من يملك، في منظومة تقوم على الملكية الفردية، وعلى الليبرالية المتوحشة.
تأجيج الأوضاع.. نتائج تدخلات الشرطة العنيفة
يطرح الفيلم سؤالا إشكاليا: هل نظام الشرطة كما هو قائم اليوم لا يزال صالحا؟
بمعنى آخر: لو افترضنا أن جهاز الشرطة سيؤسس اليوم، فهل العقل الأمريكي سيؤسسه على النحو الذي هو عليه الآن؟
فمن المؤكد تفشي العنف في أحياء بعينها على نحو كبير جدا، ولا بد من وجود قوة ردع تصد المخالفين للقانون ومثيري الشغب.
هذا يقر به شرطي أسود عانى من عنصرية الشرطة، فيذكر من أمثلة العنف المنتشر في دائرته، مغادرة الشاب الضحية “دي هيل” الفصل مع أترابه من طلاب المدرسة، وحين مر قرب أحدهم (وهو أبيض) سحب المسدس وأصابه في مؤخرة رأسه، هكذا بكل برودة.
ومع ذلك فإن المستجوبين حول صلاحية جهاز الشرطة اليوم ردوا بالنفي، لشدة عنفه وتجاوزه المتعدد للقانون، مما يجعله مؤسسة مارقة، أعلى من الدولة نفسها.
وقد عكس ذلك الرد سخط المواطنين على أداء الشرطة، فيرون أن سلوكها يعني عدم اكتساب الأمريكي حقه في المواطنة الكاملة، ولا سيما أبناء الفئة المستهدفة بعنف الشرطة. أضف إلى ذلك أن تدخلها العنيف كثيرا ما يؤجج الأوضاع، ويشعل نيران الاحتجاجات، بدلا من فرض الأمن.
ففي الستينيات والسبعينيات جدّت في لوس أنجلس أعمال عنف كثيرة، ناشئة عن عدم شعور السود بالأمان أو المساواة، فقد اعتدى صاحب حانة مثلا على رجل أسود بالضرب المبرح، ولم تقم الشرطة بحمايته، فشأنها عادة أن لا تحمي الأسود من عنف البيض.
أثارت هذه الحادثة غضب الأهالي السود، ونجمت عنها أعمال شغب وحرق محلات في شتى الأماكن التي يعيش فيها السود. وبعد أن أدين السود بالمسؤولية عن انخرام الأمن، وإثر التقصي العميق تبين أن سلوك الشرطة العنصري الأبيض كان المتسبب الرئيس في كل ما حدث.
ومن هنا جاءت المطالب بالقوة السوداء، ذلك الشعار السياسي الذي يدعو إلى الحماية من الاضطهاد العرقي، بالقوة الموازية للقوة البيضاء، التي تفرضها الدولة.
بحث التاريخ.. وثائقي يستعيد هويته في زمن التحولات
يبدو فيلم “القوة” أقرب إلى التصور العتيق للسينما الوثائقية، الذي ما فتئ يتراجع أمام أنماط أخرى، فرضتها منصات العرض على النت ومواقع التواصل الاجتماعي.
فقد جعل عرض تاريخ الشرطة تعلّة لعرض تاريخ الولايات المتحدة من زاوية غير معهودة، وانصرف إلى مناقشة قضايا اجتماعية عميقة، بعيدا عن المؤثرات الفيلمية أو السردية. فأبرز أهمية وجود طرف يوكل إليه ضمان الأمن، فيكون جهاز المناعة في جسد الدولة.
ولكن الواقع يثبت أن الأثرياء الذين يسيطرون على دواليب الدولة يوجهون عمل أجهزتها، لتأبيد هيمنتهم ولخدمة مصالحهم. ومن هنا تحولت من خدمة الشعب إلى قمعه.