“الحرب الطويلة”.. أربعة عقود ثقيلة من معركة لم تندلع بعد

في عام 2022 قدمت قناة “آرتي الفرنسية” (ARTE) فيلمها الوثائقي المهم “الحرب الطويلة” (The Long War- Israel-Iran-USA)، وهو من إخراج “إيلان زيف” و”فينسنت دي كوينتيه”، وقد عرضته قناة الجزيرة مدبلجا للعربية فيما يقارب الساعة ونصف على مدار حلقتين، تحت عنوان “الحرب الطويلة.. جذور الصراع”، ثم “الحرب الطويلة.. الحوار أم الحرب؟”.
تتجدد الحاجة هذه الأيام إلى العودة لمناقشة هذا العمل، نظرا لما يحمله من عرض تاريخي أصبح ذا صلة بواقع مأساوي تعيشه المنطقة، وما يحمله أيضا من نبوءة باقتراب اندلاع حرب إقليمية شاملة بين إسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة في مواجهة إيران، فربما أصبحت أقرب أكثر من أي وقت مضى.
يحتوي الفيلم كما هائلا من المصادر والرؤوس الناطقة التي تشكل وجهات نظر أطراف الصراع، من أناس شاركوا في صناعة الأحداث إيرانيين وإسرائيليين وأمريكيين ولبنانيين، أو محللين وباحثين سياسيين ألّفوا في الشأن الإيراني والشرق الأوسط.
ويهدف الفيلم لسرد قصة التنافس التدريجي بين إيران وإسرائيل، منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الثورة على الشاه عام 1979، فكيف أصبح كل منهما يرى الآخر تهديدا مميتا ووجوديا، وما الذي جعل صراعهما صفريا إلى هذا الحد، وتطورات خطابهما السياسي على مدار 40 عاما تقريبا.

إن قصة الوثائقي ليست قصة عسكرية فقط، بل هي أيضا قصة سياسية وجيو-إستراتيجية وفكرية كذلك، وليست قصة صراع إيراني إسرائيلي، بل قصة تتعلق بالسلام والأمن الدوليين، وأمن منطقة الشرق الأوسط تحديدا، لذلك فهي قصة تهم الجميع، قصة حرب بدأت منذ أربعين عاما، ولم تشن رسميا حتى الآن.
عودة الخميني.. بداية القطيعة مع إسرائيل وراعيتها
يبدأ الفيلم في الجزء الأول من لحظة صلاة الإمام الخميني في الطائرة التي تعود به من باريس إلى طهران، ليدشن بذلك الوصول انتصارا للثورة الإيرانية التي أنهكت نظام حكم الشاه على مدار عامين، منذ 1977 حتى 1979، وقد كانت لها جذور أخرى ضاربة في عمق التاريخ الإيراني.
لقد صوّر الخميني نفسه للجماهير -منذ شرائط التسجيل التي كان يطلقها محفزا الثورة- رجلا يمثل قطيعة كاملة مع نظام الشاه وكل ما يمثله، وكان من المظاهر التي يمثلها نظام الشاه علاقته مع إسرائيل والولايات المتحدة، فقد كانا أصدقاء الشاه المخلصين، لا سيما العلاقة مع إسرائيل والموساد الإسرائيلي الذي درّب جهاز السافاك، أي مخالب نظام الشاه التي أدّب بها معارضيه طيلة وجوده في السلطة، وقد كانت طهران مقرا هانئا للجالية الإسرائيلية وأسر العاملين في الموساد، ووجهة سياحية مفضلة كذلك.

كان “إليعازر غيزي زافرير” رئيس عمليات الموساد في إيران على أيام الشاه، ويحضر في الفيلم بوصفه مصدرا عاصر تلك الأيام وخططها، ففي محيط ممتلئ بالدول العربية المعادية، رأت إسرائيل منذ الخمسينيات أن ما يجمع بينهم جميعا هو الإسلام السني، لذلك اختارت إيران ومذهبها الشيعي، لتكوّن صداقة قوية معها، تستطيع أن تخدم مصالح الطرفين في الشرق الأوسط.
وفي سياق الحرب الباردة بين السوفيات والمعسكر الغربي، اختارت أمريكا إيران حليفا لها في المنطقة، وذلك لحدودها مع الاتحاد السوفياتي، مما يجعلها على بُعد قدم واحدة من معسكر أعدائها السوفيات، وكانت للنفط كذلك كلمته في هذا السياق.
نستطيع أن نلقي نظرة على صفاء تلك العلاقة بين إسرائيل ونظام الشاه، من خلال الفيلم الوثائقي الإسرائيلي “قبل الثورة” (Before the Revolution)، الذي أخرجه “دان شادور” (2013)، وكانت أسرته قد عاشت أيام العلاقات في إيران، حيث بنى الإسرائيليون جنتهم على عقود البناء ومبيعات الأسلحة والنفط.
ومع أن الفيلم ينطلق من السرد الحميمي، ويُبنى على صور عائلية لأسرة المخرج وأصدقائهم والمجتمع الإسرائيلي الذي عاش في طهران، متمتعا بحماية الشاه وظله، فإنه بالتوازي مع ذلك يلقي الضوء على الفساد الذي استشرى في جسد نظام الشاه كالسرطان، وقد أنتج طبقة إسرائيلية كانت مستفيدة من وجوده استفادة مباشرة.
انقلاب 1953.. الجريمة الأمريكية التي لا تغفرها طهران
في الوثائقي “انقلاب 53” (Coup 53) الذي أُنتج وعرض عام 2019، نرى الدور الفعال الذي لعبته الإدارة الأمريكية في التاريخ الإيراني، فقد دبرت الانقلاب العنيف الهمجي الذي أطاح بحكومة محمد مصدق عام 1953.
كان محمد مصدق رمزا للوطنية الإيرانية، والتحرر من الأعباء الاستعمارية، التي تمثلت في احتكار البريطانيين لمنشآت النفط الإيرانية، وبناء دولة داخل الدولة في مدينة عبادان، حيث مركز استخراج النفط، وحيث عاش البريطانيين والأجانب العاملون بالنفط حياة مترفة، على حساب استغلال النفط الإيراني الذي لم يعد بالفائدة على شعب إيران، ولا على أحد سوى عائلة بهلوي الحاكمة.
وبسبب ذلك الانقلاب الذي تعد من بواكر عمليات الاستخبارات الأمريكية في الخارج بقيادة “كيرميت روزفلت الابن”، أصبحت الولايات المتحدة راعية للشاه طيلة مدة حكمه، وطعنت الشعب الإيراني طعنة لن يغفرها التاريخ أبدا، لا سيما بعد قيام الجمهورية الإسلامية في أعقاب الثورة.
استقبال عرفات وفتح السفارة.. إيران تحتضن فلسطين
كان ياسر عرفات أول زوار طهران عقب نجاح الثورة، وقد استقبلته الجماهير وإمامهم بوصفه رئيس دولة حقيقيا لا زائرا عاديا. لقد بحث عرفات دوما عن حليف خارج المنطقة العربية، ليأمن من تقلبات مصالحها وتصادم أهوائها مع تغير كل نظام حكم، وقد وجد في الخميني ضالته، حين أعلن تبنيه للنضال الفلسطيني ولمشروع عرفات.
ولقد كانت القضية الفلسطينية محورية في فكر الإمام الخميني قبل الثورة، وعندما نجحت أصبح ممكنا دخولها بشكل سياسي ممارس من خلال تحالفات عدو عدوي صديقي، وبينما كان عرفات عدوا للصهاينة ومنبوذا من الأمريكيين، أصبح تحالف عرفات والخميني تحالفا في وجه الإمبريالية الغربية، وربيبها الكيان الصهيوني الغاصب. وبين يوم وليلة، أصبحت جنة إسرائيل في طهران مقرا لسفارة فلسطين.

وجاءت “أزمة الرهائن الأمريكية”، حين احتجز طلاب إيرانيون ثوريون 52 أمريكيا عاملا بالسفارة الأمريكية في طهران، بعدما استضافت الولايات المتحدة الشاه على أراضيها، لعلاجه من السرطان، وسرعان ما تبنى الخميني تلك الحركة “المباركة”، وظل المفاوض الرئيس طيلة 444 يوما، من نهاية 1979 إلى بداية 1981.
كانت تلك الأزمة نقطة تحول في العلاقات الإيرانية الأمريكية، والإسرائيلية بالتبعية، وقد استغلها الخميني أيضا لإعادة تشكيل المشهد السياسي في بلاده، وتطهير الثورة من أعدائها كما ادعى، وصبغها بالصبغة الإسلامية بالكامل.
لقد كان اجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 للقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة وزعيمها ياسر عرفات، بمنزلة الاختبار الأول لنظام الخميني، بالإضافة إلى كون احتلال دول مقربة من إيران مثل لبنان يشكل زلزالا في المنطقة.

ولكن في الثمانينيات، كان الخميني مشغولا بحربه مع نظام صدام حسين، فقد شن العراق عليه حربا منذ عام 1980، وكان مشروع الدولة الإسلامية في إيران يومئذ ما زال لم يختمر، وبسبب شح الموارد اللازمة لخوض حرب، أدرك الخميني صعوبة فتح جبهتين في وقت واحد، لذلك سكّ شعار “الطريق إلى تحرير القدس يبدأ من كربلاء”، ليعلن أن الحرب المقدسة على النظام البعثي العراقي هي الخطوة الأولى في تحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي، فلقد رأى الخميني كليهما وجهين لعملة واحدة.
مغامرة لبنان.. أضغاث أحلام تمخضت عن حزب الله
كانت عربدة إسرائيل في بيروت مغامرة لإقامة نظام مُوالٍ لإسرائيل، بعد طرد عرفات والمقاومة، لذلك دعموا قائد حزب الكتائب اللبنانية في الحرب الأهلية بشير الجميّل ليصبح رئيسا للبلاد.
لكن لعبة التوازنات تلك أغفلت شيعة لبنان، وأسقطتهم من الحسابات، وبينما كان البلد حقل تجارب لإسرائيل، وساحة للحضور الأجنبي العسكري، كان غضب الشيعة يتنامى، إلى أن تشكل في النهاية على شكل مقاومة عُرفت باسم “حزب الله”، لتصبح مغامرة إسرائيل في لبنان محض عبث، أشبه بطرد المقاومة من الباب وعودتها من الشباك.
لقد بايعت تلك المقاومة الشيعية الإمام الخميني صراحة كما يذكر نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، وقد عدها الخميني فرصة مناسبة جدا للدخول في جبهة لبنان، من دون مساهمة بالزاد البشري الذي تستنزفه حربه ضد العراق.

وفي هذا الإطار يغوص الفيلم في علاقة حزب الله بالحرس الثوري الإيراني، ويصل إلى نتيجة مفادها أنه لدى الفريقين تعاونا وثيقا، لكن حزب الله ليس امتدادا أو رقعة شطرنج إيرانية، بقدر ما هو حركة مقاومة مناهضة للإمبريالية، مثلت استجابة تاريخية اجتماعية طبيعية للشأن اللبناني.
ويتطرق الفيلم أيضا إلى العلاقة بين إيران وواحد من أهم حلفائها في المنطقة، وهو نظام الأسد في سوريا، وبدايات تلك العلاقة بين الطرفين، وتأسيس محور إيران وسوريا وحزب الله، وهو تحالف تجذر على حدود سهل البقاع في لبنان، وظلت أمريكا وإسرائيل في غفلة عنه طيلة سنوات.
ضربات المقاومة.. حفرة تلتهم جنود إسرائيل وأمريكا
كانت الضربة الأولى في نهايات عام 1982، وهي حادثة أحمد قصير الذي فجر سيارته في مبنى الحاكم العسكري الإسرائيلي بلبنان، وقتل 91 جنديا إسرائيليا و15 أسيرا لبنانيا كانوا محتجزين في المبنى، وهي ضربة جعلت وزير الدفاع الإسرائيلي “أرييل شارون” مرتبكا ومرتابا، بعد ادعائه القضاء على المقاومة الفلسطينية، وتطهير بيروت منها.
ذلك الفشل الاستخباراتي في معرفة حلف سهل البقاع، يعترف به “شمعون شابيرا” في الفيلم، وكان سكرتيرا عسكريا لرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك. يقول “شابيرا”: شعرت بخيبة أمل حين علمت أن سجلنا من الأبحاث حول الشيعة في لبنان يساوي صفرا، مجرد معلومات شحيحة للغاية.

ثم تتابعت تلك الضربات، وتلتها ضربات أخرى وُجهت للقوى الأمريكية والفرنسية في لبنان، ويدعي “تريتا بارزي” رئيس المجلس الإيراني الأمريكي -وهو من مصادر الفيلم- أن المخابرات الأمريكية ظلت ترى أن المسؤول عن تلك العملية هم الإيرانيون بشكل أو بآخر.
لقد جعل الحلف لبنان حفرة تبتلع مئات الجنود الإسرائيليين والأمريكيين يوما بعد يوم، وفي النهاية أُجبرت إسرائيل على الانسحاب عام 1985، إلى شريط حدودي في الجنوب، ثم انسحبت منه مرة أخرى بعد 15 عاما على أيدي حزب الله.
“إيران غيت”.. فضيحة هزت البيت الأبيض
مثلما يُلقي الفيلم نظرة على جذور الصراع وأسبابه، فإنه يلقي النظر أيضا على الفرص الضائعة في الحوار بين الأطراف، لا سيما إيران والولايات المتحدة، فمع أن تاريخ العداوة كان مريرا، فقد كانت هناك فرص للتوقف والتقاط الأنفاس، ومحاولة الوصول إلى ما يشبه العلاقات الطبيعية، وينطلق الفيلم من محطات عدة كان يمكن أن تصبح فرصا لتسوية النزاع.
يبدأ الجزء الثاني من الفيلم بالحديث عن فضيحة “إيران-كونترا” أو “إيران غيت” التي شكلت خطأ جسيما في عهد إدارة الرئيس “رونالد ريغان”، فملابساتها تكشف أن الولايات المتحدة دعمت دولة -تعدّها معادية- بالسلاح.
وقد حدث ذلك من خلال شبكة معقدة، تدعم إيران بالسلاح في حربها مع العراق، بوساطة إسرائيلية ورجال أعمال إيرانيين وسعوديين، وأما الأموال التي تدفعها إيران مقابلا للسلاح، فتوجهها الحكومة الأمريكية لدعم حركة “الكونتراس”، المناهضة لنظام الحكم الساندينستي في نيكاراغوا.
وبعد وفاة الإمام الخميني، تسلم رئاسة إيران هاشمي رفسنجاني، وكان يميل للانفتاح على الغرب والمعسكر الذي عدّه الخميني معاديا، ولكن المرشد الأعلى الجديد علي خامنئي كان على خط سلفه الخميني، وقد شكلت تلك التجاذبات في السلطة نهج السياسة الإيرانية.
محور إيران المقاوم.. فصائل الكفاح على صعيد واحد
ساعدت إيران الولايات المتحدة في حربها مع العراق عام 1991، فقد كانت إيران تسعى للخروج من عزلتها وإنعاش اقتصادها المترنح بعد 8 سنوات من الحرب مع العراق، ففتحت مجالها الجوي للطائرات الأمريكية.
كانت إيران تأمل فتح صفحة جديدة مع أمريكا في أعقاب تلك البادرة، ولكن النظام الأمريكي واجه الخطوة الإيرانية بعجرفة، وتجاهل دعوتها لمؤتمر مدريد عام 1991، بوصفها طرفا فاعلا في تسوية القضية الفلسطينية.

من أجل ذلك، صنعت إيران “مدريدها” الموازي، فنظمت مؤتمرا بطهران لدعم الكفاح المسلح الفلسطيني، جمعت فيه 60 من ممثلي الحركات المناهضة لأمريكا وإسرائيل. وقد وشج ذلك المؤتمر قرابة حماس بحزب الله والجهاد الإسلامي، وبدأت العلاقة والتنسيق بينهما، مما أسفر عن “محور المقاومة”.
ولقد تبعت ذلك المؤتمر حرب مباشرة بين حزب الله وإسرائيل، بدأت باغتيالها أمين حزب الله عباس الموسوي في 16 فبراير/ شباط 1992، ردا على اختطاف حزب الله جنودا لها، وقد خدع اغتياله إسرائيل مرة أخرى، فحسبت أنها أنهكت المقاومة أو أجهزت عليها، لكن حزب الله أتبع ذلك بعدد من الضربات لإسرائيل، أهمها تفجير السفارة في بوينس أيريس بالأرجنتين.
وبعد اتفاقية أوسلو 1993، أصبحت إيران -بقيادة خامنئي- أكثر التزاما بدعم حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، فكانت ترى اتفاقية أوسلو خطأ تاريخيا بحق القضية الفلسطينية، يهدف إلى تصفيتها تصفية مذلة.

في تلك الحقبة، أطلقت الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس “بيل كلينتون” حملة جديدة من العقوبات على إيران بغرض إخضاعها، بعدما أشاعت إسرائيل في العالم أن إيران تهدف لتطوير أسلحة تقليدية وغير تقليدية، ومشروع نووي غرضه أن يحول منطقة الشرق الأوسط إلى جحيم، وإلى تبعية السياسة الإيرانية.
وكانت لتلك الخطوة تبعات على العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، فكلما زاد الأمل باقترابها، تباعدت إلى نقطة أبعد مما كانت عليه. ومع ذلك لم تكن إيران هي المتسببة في الإذلال الأكبر بالتاريخ الأمريكي، الذي وقع في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
مستنقع أفغانستان.. عودة الأعداء إلى التعاون المستتر
في مرحلة ما أسمته أمريكا “الحرب على الإرهاب” التي شنتها على تنظيم القاعدة في أفغانستان، يظهر الفيلم أن كثيرا من الضربات التي وجهتها أمريكا تجاه العقول المدبرة للتنظيم، جاءت أساسا بعد تعاون استخباراتي مع إيران، قاده “كولن باول” وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس “جورج بوش الابن”، والدور الذي لعبته إيران في تشكيل النظام السياسي في أفغانستان بعد إسقاط نظام طالبان عام 2002.

كانت أمريكا من البداية تعادي نظام طالبان، وتعمل على تقوية فصائل في النزاع الأفغاني الداخلي تتشارك معها المصالح، وهو ما استغلته إيران وأشارت به على الولايات المتحدة بعد إسقاط نظام طالبان، وقد ساعد وزير الخارجية محمد جواد ظريف في تشكيل الحكومة التي تولت شؤون أفغانستان بعد الغزو الأمريكي.
كان الطرف الإيراني المبادر الأكبر في تلك الفرص، وأما الطرف الأكثر خذلانا للآخر في النهاية فيتمثل في الولايات المتحدة، ويقول أحد المتحدثين الإيرانيين في الفيلم: كلما مددنا أيادينا إلى الولايات المتحدة تلقينا صفعة.
“نحن لا نتحدث إلى الشيطان”
بعد التعاون في أفغانستان، سعت إيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، لكن نائب الرئيس “ديك تشيني” علّق على تلك المبادرة قائلا: “نحن لا نتحدث إلى الشيطان”. وصنف بوش إيران بأنها واحدة من دول محور الشر.

ويرى “لورنس ويلركسون” -وكان مستشارا عسكريا بالبنتاغون- أن الطريقة التي استخدمها المحافظون الجدد في إدارة “بوش” لحماية إسرائيل، هي إشاعة الفوضى في المنطقة العربية بأكملها، كي لا تتوحد وتتفق في مواجهة إسرائيل، وكانت بداية ذلك المخطط غزو العراق عام 2003.
يكشف الفيلم وثيقة أرسلت بها إيران عن طريق السفير السويسري، وكان يقوم بالأعمال الأمريكية في طهران بعد تعليق العلاقات بين البلدين، وكانت إيران في تلك الوثيقة تهدف لفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان من أهم ما جاء فيها وقف دعم حماس وحزب الله، واستئناف المشروع النووي للأغراض السلمية، لكن لم يُلق أحد في وزارة الخارجية الأمريكية بالا أو يأخذ الأمر بجدية، وظلوا متشككين تجاه مدى جدية الوثيقة. ولذلك رد النظام الإيراني على هذا التجاهل بالمضي قدما في البرنامج النووي من أجل السلاح.
أوباما ونتنياهو.. نزاع على القرار الأمريكي تجاه إيران
كان الدور الإسرائيلي حاضرا دوما في إطار تسميم العلاقة بين أمريكا وإيران، كلما سنحت فرصة للتقارب، وهو ما تحدث عنه الكاتب الأمريكي الإيراني المشارك في الفيلم “تريتا بارزي” في كتابه “خسارة عدو”، وفي الفيلم أيضا.
فقد تعرض “بارزي” للضغط الذي مارسه رئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو” خلال مفاوضات اتفاقية النووي في حقبة أوباما، التي تمنح إيران تخفيضا للعقوبات، ودمجا في المجتمع الدولي، وشرعنة لنظامها لدى أمريكا، مقابل شروعها في برنامج نووي سلمي.

لقد رأى “نتنياهو” أن الرئيس الجديد ليس إلا شابا متباهيا يتبختر في الشرق الأوسط، وهو لا يعرف عنه شيئا، أما هو الصهيوني المتعصب المتمرس في شؤون المنطقة، فقد كان عليه أن يحفظ أمن إسرائيل من البعبع الإيراني، مهما كلف الثمن، حتى أنه زار الكونغرس الأمريكي، وألقى خطابا كان بمنزلة إسفين في علاقة الرئيس بمجلس شيوخه، ووقف “نتنياهو” متباهيا بتأليب مجلس الشيوخ على “أوباما”.
ومع ذلك فإن جهوده لم تنجح في النهاية بعرقلة الاتفاق، حتى جاءت إدارة “دونالد ترامب”، فقامت بتلك الخطوة التي سعى إليها “نتنياهو”، بعد سنوات طويلة منهكة من المفاوضات بين الإدارة الإيرانية وإدارة “أوباما”، وبدا في أعقابها أن آفاقا جديدة ربما تتفتح في الشرق الأوسط.
أيام “ترامب”.. عودة إلى نقطة الصفر بعد جهود مضنية
ألغى “ترامب” الاتفاق النووي مع إيران في مايو/ أيار 2018، وأعاد فرض كثير من العقوبات الاقتصادية عليها، وصنّفها دولة مارقة في نظر أمريكا مرة أخرى، فكان ذلك بمثابة نفخ على جمر ليزيده اشتعالا.
وبعد إلغاء الاتفاق بسنة، قتلت واشنطن الجنرال قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني في العراق، لتجدد الصراع مع إيران، وسرعان ما قصفت قواعد أمريكية في العراق.

لقد كانت علاقة الطرفين طريقا طويلا معبدا بالحروب الرمادية وحروب الظل، والمواجهات على استحياء بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، وقد جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ليفتح صفحة جديدة في تاريخ المواجهة، وأسس جديدة من الاشتباك، لم يسبق لها أن كانت جزءا من تلك الحرب التي لم تندلع بعد.