“المؤامرة”.. يد إسرائيل التي حركت الجيوش الأمريكية إلى العراق
يوما بعد يوم تتكشف الحقائق حول الحرب الأمريكية على العراق، وآخرها ما كشفه فيلم “المؤامرة” الذي عرض على قناة الجزيرة الوثائقية، فهو يثبت من جديد أن إسرائيل هي التي وقفت وراء هذه الحرب، ودفعت الولايات المتحدة لخوضها بالنيابة عن إسرائيل. مع عدم إغفال أنها خيضت أيضا لكسب المال عبر نهب العراق وثرواته.
يبدأ الفيلم بالكذبة الكبرى التي أشاعها المسؤولون الأمريكيون وشنوا الحرب بناء عليها، أي زعمهم بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، نسمع صوت “ديك تشيني” نائب الرئيس “بوش” ومهندس هذه الحرب، وهو يقول بتاريخ 26 آب/ أغسطس 2002: لم يعد لدينا أي شك في أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، لم يعد لدينا أي شك في أنه يجمعها لاستعمالها ضدنا وضد أصدقائنا وحلفائنا.
وبعد أن ينتهي من هذه الفقرة يعطي المخرج للمشاهدين برهة للتفكير والتأمل، وكأنه يريد أن يقول: اسمعوا ما يقوله المسؤولون الأمريكيون، وانتبهوا كم هم كذابون ومخادعون، بعد أن حدث ما حدث وكشف ما كشف من أن العراق خال من أي أسلحة للدمار الشامل.
“كارين كوياتكوسكي”.. صوت الضمير الحي في الجيش الأمريكي
الشخصية الرئيسية التي يعتمد عليها الفيلم في تفنيد هذه الأكاذيب وكشف الحقيقة بشأن الحرب على العراق هي “كارين كوياتكوسكي” المتقاعدة برتبة مقدم في القوات الجوية الأمريكية، فقد رفضت الحرب ووقفت ضدها، ثم استقالت من الجيش الأمريكي بعد الأيام الأولى من غزو العراق، بعدما تيقنت أنها حرب قائمة على الأكاذيب. لقد رأت فيها “خرقا للدستور الأمريكي” وإهانة وخيانة لسجل خدمتها وخدمة جميع زملائها العسكريين. إنها تصف طريقة تصرف المسؤولين داخل البنتاغون وخارجه بأنها “مشينة”.
تقول “كارين” إنها توقعت -بعد انتهاء الحرب الباردة- أن ينخفض عدد أفراد الجيش والانتهاء من الأعمال القتالية، لكن ما حدث هو العكس، فالميزانية العسكرية ازدادت، وكذلك الحروب التي تشنها الولايات المتحدة على دول العالم. إنها تؤمن أن التخطيط للحرب على العراق بدأ قبل الحادي عشر من سبتمبر. وهناك شاهد آخر (تجاهل القائمون على بث الفيلم وضع اسمه) يقول إنه في ذلك اليوم اتخذ “تشيني” و”رامسفيلد” القرار بالهجوم على العراق.
تبدأ “كارين” برواية القصة من البداية. فتقول إنها عندما نقلت إلى قسم الشرق الأوسط في البنتاغون في العاشر من مايو/ أيار 2002 لاحظت أن هناك أمورا غريبة تحدث، فوزير الدفاع الأمريكي “دونالد رامسفيلد” وفريقه كانوا قد راجعوا النسخة الثانية من خطة غزو العراق وصححوها. ثم تقول: جاء أشخاص جدد إلى القسم من السياسيين لا العسكريين، يكرهون العراق ويحبون إسرائيل كثيرا، بعدها أخبرونا أن هؤلاء الأشخاص سيشكلون وحدة جديدة تدعى “مكتب الخطط الخاصة”، وهي مرتبطة بقسم الشرق الأوسط، وطلبوا منا إبقاء هذا القسم سرا.
“كلما رفض جنرالٌ الأمرَ كان يستبدل بآخر”
أسس “دوغلاس فايث” ومعه عدد من السياسيين والمحافظين الجدد قسم “مكتب الخطط الخاصة”، بهدف وضع تقارير بشأن الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل والعراق، وكانت هذه التقارير مختلفة عن تقارير التجسس التي كانت “كارين” وزملاؤها يعملون عليها، وهنا أدركت أن هناك شيئا ما يُحضّر له، خصوصا أن ذلك ترافق مع زيارات “تشيني” المتكررة لمقر الـ”سي آي إيه” على نحو لم يكن معتادا.
ثم بدأت عملية تسويق الحرب للكونغرس والحلفاء والشعب الأمريكي. تقول “كارين”: “ما صدمني هو أنني رأيت الرئيس بوش وديك تشيني يلقيان خطابات ذكرا فيها حرفيا الصيغ التي وضعها مكتب الخطط الخاصة”. وكذلك فعلت صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست اللتان نشرتا التقارير الحرفية المأخوذة من المكتب بشأن صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل.
لم تكن “كارين” الوحيدة التي اكتشفت الحقائق، بل هناك عدد كبير من الضباط رفضوا الحرب وطالبوا باستقالة “رامسفيلد”، ودفعوا الثمن بإقالتهم من الخدمة. ويعرض الفيلم صورا لعدد منهم.
يكشف الشاهد الآخر في الفيلم عن جانب آخر للحرب، فقد كان هدف “ديك تشيني” كسب المال، وقد دفع باتجاه الحرب رافضا كل نصائح المعارضين، يقول الشاهد: كلما رفض جنرالٌ الأمرَ كان يستبدل بآخر، وكلما شكك جنرال أو عقيد في العملية كان يستبدل أيضا، والنتيجة أننا حين انطلقنا إلى الحرب لم يكن لدينا سوى مجموعة من البلهاء على رأس قواتنا، مئات الخبراء في الـ”سي آي إيه” والبنتاغون نصحوهم أن لا تفعلوا ذلك، لأنه انتحار، ستزعزعون الاستقرار في الشرق الأوسط. لم يصغ “تشيني” لأن هدفه كان كسب المال، وقد فعل ما يريد.
كره العرب.. عقيدة الحرب الأمريكية في الشرق
على لسان المقدم “كارين” يكشف الفيلم آلية الإعداد والتخطيط للحرب والأشخاص المسؤولين من المحافظين الجدد الذين خططوا لها ودفعوا باتجاهها. إنهم “ديك تشيني” نائب الرئيس، و”ريتشارد بيرل”، و”رامسفيلد” وزير الدفاع مع رجله الثاني “بول وولفويتز”، إضافة لرجله الثالث “دوغلاس فايث”، وهو مهوس بالشرق الأوسط وبالدفاع عن إسرائيل، ومعروف بعدائه الكبير للعرب، وهو العداء الذي يميز مواقف المحافظين الجدد. إضافة إلى “ستيفن هادلي” رئيس مجلس الأمن القومي.
إنهم الرجال أنفسهم الذين سبق أن ادعوا قائلين إنهم ربحوا الحرب الباردة وأصبحوا يديرون العالم الآن، وتحت إدارة “كلينتون” أطلقوا على ذلك اسم مشروع القرن الأمريكي الجديد، وقالوا إنهم بحاجة إلى “بيرل هاربر” جديد، ليكون مبررا لشن الحروب على العالم. وهنا تتساءل “كارين”: هل كانت الحرب على العراق ستحصل لولا الحادي عشر من سبتمبر؟ أظن أن الجواب هو نعم. لقد سهل الحادي عشر من سبتمبر الأمور وعجّلها فحسب.
يكشف الشاهد الثاني أن “ديك تشيني” استطاع بدهائه إقناع الأمريكيين والكونغرس بضرورة شن الحرب، وإلا فإن حليفتهم إسرائيل ستتعرض لخطر صواريخ صدام، إضافة إلى أن أمريكا تعرضت لهجوم إرهابي.
تحالف أمريكي إسرائيلي.. رابط أبدي لتدمير الشرق الأوسط
يبين الفيلم مدى التحالف الأمريكي الإسرائيلي المتعلق بشن الحرب على العراق، تقول “كارين”: يحاول هؤلاء الأشخاص أن يبينوا أن مصالحهم هي مصالح إسرائيل، يبقى أن نثبت أننا نخدم مصالح إسرائيل، حين ننظر إلى الدافع للحرب تخطر لجنة النشاط السياسي الأمريكي الإسرائيلي “إيباك” على بالنا، وبالطبع يخطر اللوبي المناصر لإسرائيل، ومعروف عنه أنه يغذي الكونغرس بوثائق وتقارير استراتيجية أخرى.
ثم يستعيد المخرج ما قاله المسؤولون الأمريكيون في مقر “إيباك” بهذا الخصوص قبل الحرب، فنائب الرئيس “ديك تشيني” يقول: لدينا قناعة أساسية أن حرية إسرائيل وأمنها جزء من مصالح الولايات المتحدة الجوهرية.

أما “نانسي بيلوسي” زعيمة الديمقراطيين فتضيف: إن الولايات المتحدة وإسرائيل متحدان برابط أبدي. ثم يتبعها المخرج بلقطة مونتاجية لماحة من الرئيس “بوش” وهو يقول: و”إيباك” هي أحد الأسباب. ثم لقطة أخرى من “كولن باول” وهو يقول: تقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل اليوم وإلى الأبد. وأخرى من “أرييل شارون” وهو يقول للأمريكيين في المقر ذاته: نحن بحاجة إليكم اليوم أكثر من أي وقت آخر.
وإنما يقصد “شارون” أنه بحاجة للأمريكيين كي يشنوا الحرب على العراق نيابة عن إسرائيل. وهنا تعلق “كارين” قائلة: حين يكتب الإسرائيليون تاريخهم سيقولون: لقد خدع العقائديون العالم أجمع. خدعوهم عن طريق الكذب والتلاعب والتسريبات.
“ألقينا على العراق قنابل أكثر مما ألقينا على فيتنام”
يكشف الشاهد الثاني أن أعضاء الكونغرس لم يقرأوا حتى التقارير الاستخبارية التي كانت في متناول أيديهم، ولو أنهم قرأوها لعرفوا أن كل ذلك لم يكن سوى مجرد أقاويل، لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، بل لم يكن لدى العراق حتى أسلحة تقليدية ذات شأن، وفق ما تؤكد المقدم “كارين” التي تقول: إننا سحقنا جيش العراق سنة 1991 ودمرناه كليا، وبعد نهاية المعارك استمررنا في قصف البلاد، نميل إلى نسيان ذلك. ولكن بين عامي 1991-2003 تاريخ غزونا للبلد ألقينا على العراق قنابل أكثر مما ألقينا على فيتنام، حين كنتُ في القوات الجوية كنا نطلق النار على الصخور، لم يبق سوى هذا.
يا لها من شهادة من داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، وعلى لسان من شارك بنفسه بعمليات قصف العراق وتدميره، إنها شهادة للحقيقة والتاريخ. ثم يأتي “كولن باول” الذي ارتكب جريمة فادحة بروايته، وكانت أكبر أكذوبة تختلق أمام الأمم المتحدة حسب راوي الفيلم.
ثم تستنتج “كارين” قائلة: “إن احتلال العراق ليس من المصلحة العليا للولايات المتحدة”. وربما نسيت أن تضيف إن ذلك كان من المصلحة العليا لإسرائيل.
ثمن الحرب.. شعب وجيش يحققان المآرب الشخصية للساسة
يتيح مخرج الفيلم للمشاهد فسحة خالية من الكلام، متيحا للكاميرا أن تتكلم وحدها، وذلك في مشاهد عدة، منها عرضه صورا للجنود الأمريكيين القتلى والجرحى أثناء المعارك، ولمقابرهم في وطنهم الولايات المتحدة. وكذلك صورا للعمليات الأمريكية الفاشلة في العالم، بدءا من احتجاز أعضاء السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، إلى المحاولة الفاشلة لإنقاذهم عبر إرسال فرقة كوماندوس، وقد انتهت إلى كارثة عندما تحطمت طائرتهم في الصحراء الإيرانية، وكل ذلك على خلفية موسيقى جنائزية توحي للمشاهد بعمق المأساة.
إنه مقطع فيلمي يتوج بتعليق الشاهد الثاني في الفيلم قائلا، وهو يقلِّب صور الجنود الأمريكيين القتلى في تلك الحادثة: إنها ذكريات حزينة، ها هي الخاتمة الكبرى لعقد من العمليات الفاشلة بالنسبة للولايات المتحدة.
ويتحدث عن الرئيس “بوش” ويصفه بالأبله، وبالتالي فبدل أن يحاول الأشخاص المهمّون التكلم مع أبله، فإنهم يتكلمون مع “تشيني”. وهنا يتوجه “تشيني” إلى الأبله بأسلوب يمكن أن يفهمه، وبالطريقة التي يرغب “تشيني” في أن يفهمها الأبله.
ثم يتحدث عن تاريخ الصداقة القديمة بين “رامسفيلد” و”تشيني” اللذين كانا مقتنعين أن بوسعهما تغيير العالم ويعملان على ذلك، ويذكِّرنا بأنهما كانا مقتنعين بأنهما يشنان حربا صليبية، وأنهما يتحدثان عن البقاء في العراق مئة سنة، وهذا يعني المزيد من المبالغ لشركات التسلح.
ينقل الراوي ما يفكر به “تشيني” في أن ثمة ثمنا يجب دفعه لتسيير الأعمال، وأن هؤلاء الأربعة آلاف أمريكي والنصف مليون عراقي (والرقم أكبر بكثير) الذين قتلوا في العراق هم ثمن هذه الأعمال.
“القصة التي نشهدها محزنة عن جمهورية كانت عظيمة”
يعرض الفيلم صورة موجهة للشعب الأمريكي، وقد كُتب عليها: إذا كنت تحب الحرب في العراق، فإنك ستعشق الحرب على إيران. وهنا تتساءل “كارين”: هل سنطيح بالحكومة الإيرانية؟ هل سنحاول فعل ذلك؟ هل ستتراصف النجوم مجددا لتقول لنا إن ذلك لصالح أمريكا؟
ثم يستعيد المخرج على نحو بالغ الذكاء مقطعا من الرسالة الوداعية المتلفزة للرئيس السابق “دوايت أيزنهاور”، يحذر فيه من امتلاك المجمع العسكري الصناعي نفوذا غير شرعي، وكأنه كان يتنبأ بهذا، وبالكوارث التي ستنجم عنه.
وهنا تعلق “كارين” بأن “أيزنهاور” ليس الوحيد الذي تكلم عن ذلك الأمر، فقد تحدث عنه أيضا “سميدلي باتلر” بعد الحرب العالمية الأولى، وقال الأمر نفسه عن هذه الحرب وعن احتلال الفيليبين الذي شارك فيه بصفته جنرالا في المارينز، وكتب أن ثمة أشخاصا يجنون المال بدماء الآخرين، وبينما يموت الجنود يصبح رجال الأعمال أكثر ثراء ويسيطرون على السياسة، وقد حصل ذلك في الثلاثينيات. لكن من يتذكر ذلك؟
يتحدث الشاهد الثاني عن آلية اختيار الرؤساء في الولايات المتحدة، ويقول إن من يختار حكام الولايات المتحدة هم أصحاب الشركات الكبرى، ويقومون بذلك من خلال دفع الأموال، وإن حاول أحدٌ الوقوفَ في وجههم أو في وجه مصالحهم، فإنهم لا يألون جهدا في التخلص منه. والأمر الأكثر خطورة هو أن جميع الفرقاء يسعون لجني المال مهما كان مصدره، وبالتالي لا يمكن لعامة الأمريكيين أن يأملوا خيرا ما دام هذا النظام مستمرا.
ثم يشرح كيف خدم “جورج بوش” مصالح إيران بسبب غبائه، ولهذا السبب تستطيع إيران أن تصرِّح أمام العالم: مرحبا، اسمي أحمدي نجاد، إليكم الصور التي التقطتها لمنشآتي النووية الخاصة، تعال ونل مني يا “جورج بوش”، حين يكون الخصم واثقا من نفسه إلى هذا الحد ندرك المعضلة بشكل أفضل.
تتحدث “كارين” عن هذه المعضلة وعن خيبة الأمريكيين بحكامهم وحزنهم على بلدهم قائلة: القصة التي نشهدها محزنة عن جمهورية كانت عظيمة في السابق، لكنها لم تعد كذلك.
“حين تتغلب قوة الحب على حب القوة”.. واقع مؤلم
لا تكمن أهمية فيلم “المؤامرة” في المضمون الذي يقدمه فحسب، بل في بنيته الفنية وأسلوبه والطريقة التي قدم بها. إن لغة الكاميرا حاضرة فيه كما لو أننا أمام فيلم روائي لمخرج كبير، حالها حال الموسيقى المعبرة عن كل موقف استخدمت فيه. وفي الإيقاع الرشيق الذي يبعد المشاهد عن أي ملل يمكن أن يصيبه جراء مشاهدة موضوع سياسي قد لا يروق لكثيرين. وفي اكتفائه بشاهدين يدليان بشهادتهما عن ما حدث، لينجو بذلك مما يصعب على معظم مخرجي الأفلام الوثائقية النجاة منه وهو “الرؤوس المتكلمة” (Talking Heads)، أي عندما يجري مقابلات مع عدد كبير ممن لهم علاقة بموضوع الفيلم، فيبقى الفيلم مقتصرا على هذه المقابلات، فلا يرى المشاهد سوى الرؤوس المتكلمة.
كذلك قام المخرج بتوظيف الشعر الذي يبدأ به الفيلم وينتهي، فنحن أمام قصيدة تتحدث عن أحلام الأمريكيين بحياة أفضل، وعن انكسار هذه الأحلام، إنها أشعار أقرب ما تكون إلى أشعار “والت وايتمان” بأفكارها ونبرتها وأجوائها وعوالمها.
يبدأ الفيلم بعبارة أقرب إلى الحكمة لـ”جيمي هيندريكس” تقول: “حين تتغلب قوة الحب على حب القوة، عندئذ سيعرف العالم السلام”. وينتهي بمقطع شعري يعبر عن خيبة الشاعر ومخرج الفيلم، على هذا المصير الذي آل إليه بلدهما، الولايات المتحدة.