“خذني إلى أرضي”.. عودة إلى ما قبل النكبة على متن حكايات الجدة

 

مع الفيلم الوثائقي “خذني إلى أرضي” (2008) للمخرجة ميس دروزة، ننتبه إلى أن العنوان العملي هو “خذني إلى جدتي”، فإثر مشاهدة هذا الفيلم الوثائقي الطويل، سوف نكتشف أن المخرجة إنما أخذتنا معها في رحلة طويلة إلى جدتها، وهي مقيمة في بيت دمشقي منذ ما قبل النكبة الفلسطينية التي وقعت عام 1948.

قد يبدو للوهلة الأولى على الأقل، وربما بغواية من العنوان، أن الفيلم يريد الانتساب إلى طائفة الأفلام التي شرعت القيام برحلات استطلاعية صوب الوطن الفلسطيني المحتل، لتفقده واكتشافه وإعادة التعرف عليه، بعد شوط من القطيعة والهجران القسريين، ولكن سرعان ما سنكتشف أن الرحلة هنا تذهب في “الاتجاه المعاكس”، بعيدا عن فلسطين في الجغرافيا والمكان، واقترابا منها بالحكاية والتجربة والذاكرة والقول.

“أجد نفسي أسلك طريقي إلى منزل عائلتي في دمشق”

تتصدر الفيلم لوحة مكتوبة، تقول: “في عام 1935، غادرتْ عائلتي فلسطين تفاديا لأحكام الإعدام الصادرة عن الانتداب البريطاني بحق معظم شبانها، بسبب نشاطاتهم ضد الاحتلال الصهيوني، لتتابع مقاومتها بالاشتراك مع حركة المقاومة العربية الموجودة في المنطقة. واليوم، مثلي مثل عدد من الفلسطينيين المبعثرين على امتداد الوطن العربي، أجد نفسي أسلك طريقي إلى منزل عائلتي في دمشق، لأقدم لكم جدتي وطفاء وأختها خالتي جهاد”.

وسنكتشف أن الفيلم لا يعدو أن يكون ذلك تماما، دون أدنى مفاجآت أو منعطفات أو تحولات درامية، يمكن أن تمنح الفيلم مزيدا من المعاني أو الدلالات. إنه فيلم وثائقي فلسطيني آخر، يدور في فلك أفراد واحدة من كبرى العائلات المدينية الفلسطينية، ونخبها الأرستقراطية إن صحت العبارة، تلك العائلات التي كان عليها أن تلعب أدوارا متراكبة في ما بين السياسي والديني، والتربوي التعليمي والوطني، وكذلك شغل المناصب في فلسطين.

دردشة البيت الدمشقي.. نبش في الأرشيف والذاكرة المحكية

تنطلق المخرجة ميس دروزة، منذ مفتتح فيلمها، في رحلة طويلة، عابرة المسافات الطويلة، في غاية وهدف محددين لن تحيد عنهما، ولن تنسج على منوالهما ما هو جديد، مفاجئ أو طارئ. الجدة وأختها بالانتظار، ويبدو أن الجدة تعي تماما الهدف من تلك الزيارة والفيلم معا، وهو ملازمتها بالكاميرا في كل وقت وحين، والتصوير معها للحديث عن العائلة جيلا بعد جيل، ولهذا السبب ربما، سرعان ما نرى الجدة تقرأ مقاطع من رسائل كان والدها (والد الجدة)، قد أرسلها إلى أسرته في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين.

يقوم الجزء التمهيدي للفيلم على حركتين أساسيتين، الأولى منهما خارج الفيلم تماما، وهي البطاقة المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، بينما تقوم الحركة الثانية خارج بيت الجدة الذي ستدور وقائع الفيلم بغالبيته العظمى في ثناياه.

ففي الطريق الممتدة إلى دمشق عبر الفيافي، وباعتماد آلية التصوير من نافذة السيارة على جانبي الطريق معا، واستخدام تقنية المزج بينهما، تدخل المخرجة بصوت التعليق، موجهة كلامها على هيئة رسالة إلى جدتها (تيتا وطفة) الذاهبة إليها، مع عرض مجموعة من صور فوتوغرافية عائلية خاصة، وصور فوتوغرافية أرشيفية زائدة، تتناول مشاهد معروفة ومتداولة من تهجير الفلسطينيين عام النكبة، قبل أن تدخل صوت الجدة تقرأ مقاطع مطولة من رسالة، والكاميرا ما زالت على الطريق إليها، وهي في بيتها الدمشقي الذي سنصل إليه عما قليل.

بيت الجدة.. مسرح الأحداث وحامل سردية الفيلم

تدور البنية الأساسية للفيلم في بيت الجدة، في دوران لا ينتهي من غرفة الاستقبال إلى غرف النوم والمطبخ والشرفة، وإذا كانت الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم هي “خذني إلى البيت”، فإن الكاميرا لن تخرج من البيت إلا لماما، في مرافقة الجدة أو الخالة ببعض مشاويرها النادرة.

تصرّ الكاميرا على الحضور الدائم، حتى لو أثقلت على الشخصيات واقتحمت خصوصياتها ولحظاتها الحميمية، حتى حين تتخف من ملابسها، وتصر الكاميرا على الحضور أيضا، حتى لو أثقلت على المشاهدين، وزجَّتهم فيما لا تعنيهم رؤيته، أو سماعه، وتبدو متشوّقة لهذا الفضول العنيد، لدرجة أن الفيلم سينتهي بنفور الجدة، ومغادرتها إطار الصورة.

مشهد من الفيلم للمخرجة مع جدتها

عجائز العائلة.. نماذج متحررة ذات مواصفات متميزة

تبدو العائلة الكبيرة حاضرة غائبة، لا نرى منها إلا هاتين العجوزين الطاعنتين بالسن، وإن بتفاوت بائن، يكاد يوحي بأنهما أم وابنتها، أكثر مما هما امرأة وأختها، إنهما امرأتان معزولتان عن العالم، منغلقتان بلا رجال، أولئك الذين لن يحضروا في الفيلم إلا طيّ الذاكرة، وعبر الأحاديث التي تستحضر العم والأب، غالبا، والعاشق الخطيب الزوج مرة.. وما عداهم ليس ثمة من رجال أبدا.

تتمدد الجدة على مدى الفيلم، وتطغى بحضورها عليه، تارة تتحدث إلى الكاميرا ومن خلفها المخرجة، وتارة تقرأ مقاطع طويلة من رسائل تبلغ الستين من العمر، وهي تتمتع بمواصفات متميزة من حيث مهاراتها الفردية، منها طلاقة اللسان، وفصاحة البيان، وحسن التعبير، والهمة العالية، والحركة الدائبة، وخفة الدم، وحضور البديهة، والنشاط الذي لا يهدأ يعمّر البيت حركة أمام الكاميرا، فتوسع المكان على ضيقه، وتفتح آفاقه على انغلاقه.

وتقدم الجدة وأختها -من ناحية ظاهرة- نموذجا متحررا من النساء اللواتي أخذن بالاختفاء، منذ أتى زمن اختفت فيه قضايا المرأة وحريتها وتحررها وانطلاقتها، وقدرتها على خلق شكل من الانسجام بين تحررها وحضورها، وتخففها من ملابسها بشكل طافح بالاعتيادية من ناحية، وبين تدينها والتزاماتها الدينية من ناحية أخرى، فيما يكاد يشبه مرثية لزمن الجدات البهي.

المخرجة الفلسطينية ميس دروزة

مدرسة النجاح.. ومضات من تاريخ مشرق في نابلس

ما بين الأحاديث وقراءة الرسائل وبعض نتف الحوارات والأسئلة الموجهة من قبل المخرجة من خلف الكاميرا، نستطلع جوانب من التشابك العائلي في الحديث عن أربعة أو خمسة أجيال متتالية، فالجدة تتحدث لحفيدتها عن والدها ووالدتها، أما الوالد فكان حينها في مطالع الأربعينيات من القرن العشرين يعيش غربة مضاعفة، لاضطراره مغادرة فلسطين أولا، ثم ترك أسرته في دمشق والذهاب إلى تركيا تاليا.

ثم تتحدث الجدة عن عمها أبو زهير الذي كان يعمل مع الحاج أمين الحسيني في الهيئة العليا، وكان مديرا عاما للأوقاف، وتقول إن عمها هذا هو من فتح “مدرسة النجاح” في نابلس، التي ستتحول إلى جامعة فلسطينية شهيرة فيما بعد.

أما والدها فقد كان مدرسا في المدرسة ذاتها، ثم عمل في التجارة، دون أن تكون مناسبة لطرازه، وكان للوالد والعم أن أتيا دمشق للتنسيق مع الوطنيين في سوريا، الذين كانا يعرفونهم منذ أيام الأتراك.

الجدة -كما في الفيلم- هي امرأة عجوز تعيش في بيت دمشقي فاخر، تتنقل بين الحديث عن ذكريات والدها وعمها، وبين التشاغل بالتطريز والخياطة وتنطيف البيت وترتيبه، إلى درجة أنها قبيل نهاية الفيلم ستصف البيت بأنه “غليظ” (مزعج)، لا يمكن تركه لحظة، إذا أرادته نظيفا مرتبا.

بوابة العائلة.. تفاصيل خاصة تستغرق متن الفيلم

تتناثر المعلومات في الفيلم كثيرة، عابرة وراسخة، هامشية وجوهرية، طامحة لرسم صورة باهية عن أسرة فلسطينية أرستقراطية (آل دروزة)، عاشت أيامها قبل النكبة، وساهمت في التأسيس الحضاري للمجتمع الفلسطيني، ونجت من براثن الانتداب البريطاني، ثم العصابات الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي، وقدمت أعلاما معروفين في التاريخ الفلسطيني الحديث، لعل أبرزهم العلامة المؤرخ محمد عزة دروزة.

تسأل المخرجة جدتها عن البيت في فلسطين، فتقول إنه بيت كبير، ذو بوابة كبيرة. لكنها لا تستفيض بالحديث عنه أو عن نابلس أو فلسطين، ربما الموضوع لديها هو العائلة، لذا سنراها تستفيض بالحديث عن والدتها (والدة الجدة)، تلك المرأة المفرطة الذكاء الصلبة الكريمة، الراعية لأولادها وعجائزها، المستقبلة للضيوف إن وفدوا من الأردن أو الكويت أو الضفة، الحريصة على توفير مؤن الرجال الغائبين في المنافي والشتات.

تستغرق التفاصيل العائلية الفيلم تماما، لن يغير من الأمر كثيرا أحاديث الجدة والخالة (أخت الجدة) عن انتسابهن ذات وقت لحركة القوميين العرب، أو التأسف بسبب تداعي الواقع العربي، والشقاق بين فتح وحماس، فحتى هذه الأحاديث تتناول من بوابة العائلة الكبيرة، فالعائلة هنا هي البيت، وهي الوطن. والانتماء إليها هو الانتماء إلى فلسطين ذاتها التي تحملها العائلة معها، أينما حلت وارتحلت.

أفلام البيت.. إطار خاص يلخص القضية الفلسطينية

ثمة كثير من الملاحظات التي يمكن قولها بصدد هذا الفيلم، خاصة لناحية اختيار المخرجة آلية افتراق الصورة عن الصوت، وانعدام التناغم أو حتى التقارب بين ما نسمع من جهة، وبين ما نرى من جهة أخرى، إلى درجة أن جملة كبيرة من اللقطات بدت خارجة عن بالموضوع، في افتراق لا يبرره سوى اختيار المخرجة عدم الإثراء البصري للفيلم، والاكتفاء بالدوران في البيت، وتفاصيله.

يبقى من الجدير الانتباه إليه، أن هذا الفيلم ينتمي إلى سياق ذاتي عائلي من الأفلام، وقد بدأ يتسع ويزداد في العقد الماضي، وخاصة في أفلام المخرجات الفلسطينيات اللواتي ينهمكن في التصوير مع أفراد الأسرة وفي البيوت، حيث تحضر الأمهات والآباء، والجدات والأجداد، والإخوة والأخوات، بل حتى الأولاد والحفيدات.

وبينما تذهب بعض المخرجات لتناول القضية الفلسطينية بعمومها، أو من خلال تفصيل ما، فإن أفلاما أخرى بدا فيها أن الشأن العائلي هو الموضوع الأساس، وما القضية الفلسطينية إلا خلفية تاريخية، أو فضاء زماني مكاني، لما يدور أمام الكاميرا، ولمن نمضي معهم أوقات الفيلم.

قد يبدو الأمر على مستوى أول من التفسير باعتباره إشارة إلى نكوص من مستوى وطني عام، إلى مستوى عائلي خاص، ربما اتفاقا مع ما تتعرض له القضية الفلسطينية برمتها من تهشمات وتشققات مؤلمة. كما قد يبدو الأمر على مستوى آخر من التفسير باعتباره محاولة عودة إلى البدايات، والانطلاق من التفاصيل الصغيرة، وبالاعتماد على شخصيات من البيت، للحديث غير المباشر عن القضية الفلسطينية برمتها، اتكاء على مقولة إن القضية الفلسطينية باقية ما بقي فلسطيني حيا على وجه الأرض.. ربما.


إعلان