“عملية الخالصة”.. وثائق سينمائية فلسطينية لم تتحوّل أفلاما
عندما وقف القائد الفلسطيني فؤاد زيدان (أبو العمرين)، ليقول: «أيها الرفاق أرجو الموافقة على البدء ببرنامجنا لتنفيذ العمليات ذات الطبيعة العسكرية الخاصة؛ العمليات الانتحارية»، لم يكن يدري أنه سيلقى حتفه، خلال أقل من شهر، بحادث سير لازال يثير شيئاً من الغموض، ولكنه بالتأكيد كان يدرك أنه يرمي حجراً ثقيلاً في بئر الكفاح الفلسطيني.
كان ذلك في الاجتماع الدوري للجنة المركزية للجبهة الشعبية/ القيادة العامة، الذي انعقد بتاريخ 14 شباط/فبراير 1974، حيث طلب حقَّ الكلام، وقال: «لقد انتهينا من تشكيلات «فرق الرواد» الانتحارية، وأريد أن أسجل أننا لم نلجأ إلى ذلك عن يأس، فنحن نؤمن بأن النصر لن يكون إلا حليف شعبنا وقضيتنا وأمتنا العربية، ونحن نؤمن بأن النضال ما هو إلا شعلة تُسلَّم من جيل إلى جيل».
إذاً، في بداية آذار/مارس 1974 سقط الرجل؛ القائد العسكري الفلسطيني، بحادث سير، ولكن ليس قبل أن يميط اللثام عن إنجاز كل الترتيبات لتجهيز «فرق الرواد»، إذ كانت القيادة العسكرية في الجبهة، قد أعدَّت برامج خاصة للتدريب، وأنجزت ابتكار «الحزام الناسف»، وطوَّرته عدة مرات، بحيث يصبح «جاهزاً للعمل بلمسة صغيرة، لا تسمح للمباغتة، ولا تفسح مجالاً للعدو للاقتناص».
يومها، لم يكن أحد أبداً على اهتمام بتسمية تلك العمليات، هل هي «انتحارية»، أم «استشهادية»؟!.. بل سيبدو من الواضح، وكما تفصح الوثائق المكتوبة، أو المُصوَّرة، أن تسميتها بعمليات «انتحارية»، كان هو السائد الاستعمال، دونما أيّ تردّد، وكان من الشائع أن ذاك الطراز من العمليات إنما تنفذها «فرق الروّاد الانتحارية». وما انتبه أحد حينها إلا إلى التأكيد إنها «ليست تعبيراً عن يأس»، وبالتالي فهي أسلوب كفاحي، كان على الفلسطينيين الاضطرار إلى انتهاجه، كلما ضاقت بهم السبل.
الشاعر يرثي.. وفيروز تغني “وحدن بيبقو”
تقول الرواية بأن الشاعر اللبناني طلال حيدر اعتاد أن يرتشف قهوته على شرفة بيته المطل على الغابة، فلاحظ شبانا ثلاثة يدخلون كل يوم صباحا ويخرجون مساء، ويردون عليه التحية، إلى أن جاء اليوم الذي دخل فيه الشباب الغابة ولم يرجعوا. وفي اليوم التالي قرأ الشاعر في الصحف أن ثمة عملية فدائية نفذها فدائيون تسللوا من الغابة إلى العمق الإسرائيلي، وحين رأى صورتهم في الصحف عرفهم، فكتب فيهم قصيدته التي غنتها لهم فيروز “وحدن بيبقو”.
إسرائيل لا تسلم الرهائن.. فلتقبل النتيجة
وبالعودة إلى التفاصيل الأولى، نجد أنه في يوم 11/4/1974، اقتحمت مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية/ القيادة العامة، مستعمرة «كريات شمونا»، القائمة على أراضي قرية «الخالصة»، شمالي فلسطين، وسيطرت على مدرسة وبناية، واحتجزت عدداً من الرهائن. عندها تقدّم الفدائيون بطلب الإفراج عن مائة من الأسرى الفدائيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. رفضت سلطات الاحتلال مطالب الفدائيين، ثم شنّت هجوماً على المبنى، الذي يُحتجز فيه الرهائن. وجرت معركة عنيفة بين مقاتلي «الوحدة الانتحارية»، وقوات العدو. وقد نفذّ الفدائيون إنذارهم، وقاموا بتفجير المبنى.. فكانت تلك أول عملية من نوعها، يقوم بها الفلسطينيون!..
مع نمو «سينما الثورة الفلسطينية»، واتساعها، بادرت فصيل من فصائل الثورة إلى تشكيل قسم للإنتاج السينمائي، خاص به. وهو القسم الذي كان من المفترض به العمل على إنجاز بعض الأفلام التسجيلية والوثائقية، التي تدور غالباً حول العمليات الفدائية، والأحداث التي كانت الثورة تمرّ بها.. وهكذا فقد تمّ تصوير بعض الوثائق السينمائية حول «عملية الخالصة».
وعلى الرغم من أنه كان من المنطقي أن يقوم أحد المخرجين السينمائيين، بالاشتغال على هذه الوثائق، وتحويلها إلى فيلم سينمائي، إلا أن الأحداث المتسارعة، عقب ذاك، لم تفسح المجال لذلك. فبقيت «وثائق سينمائية».
أهمية هذه الوثائق السينمائية أنها تتضمن وصايا «شهداء الخالصة»، التي تلوها قبل المضي في عمليتهم، وهم يعلمون أن لا عودة ممكنة لهم.
نتأمل في تلك الوثائق، فنجد وصية الشهيد الفلسطيني «منير المغربي»، وكان مما قاله: «الآن أعيش قمة سعادتي، لأنني سأفتدي بعد قليل وطني.. لأنني سأدكُّ إسفيناً في الكيان الصهيوني.. أمضي الآن، ولن أعود.. يا رفاقي، ما ألذَّ طعم الموت حين يمتزج بتراب بلادي.. نموت اليوم، ليس هرباً من الحياة، ولا لأننا يائسون.. الموت في سبيل الهدف، حياة جديدة رائعة.. لنناضل في سبيل شعبنا، وفي سبيل الوطن».
بينما كان مما قاله الشهيد السوري «أحمد الشيخ محمود»: «بعد ساعات، سأمضي في طريقي.. طريق الشهادة.. الطريق إلى حياة جديدة، تحتضن طموحي، في وطن محرر.. أمضي الآن في الطريق الذي اخترته بكل فخر وسعادة، لأنني من خلاله سأحقق أمنياتي.. ليس الموت هو النهاية أبداً. إنه البداية؛ بداية لحياة جديدة زاخرة في السعادة لكل شعبي، ونهاية لأعدائه».
أما الشهيد العراقي «ياسين موسى الموزاني»، فكان مما قاله: «لسوف أقوم بعملي هذا من أجل تغيير الوضع السياسي في المنطقة، ورفع الروح المعنوية للمقاتل العربي. نحن ماضون في هذا الطريق، لأننا سوف نقوم، ونستمر بنضالنا».
عملية انتحارية.. أم استشهادية
أهمية «عملية الخالصة» تتمثل أولاً: في أنها أول عملية «انتحارية» تقوم بها المقاومة الفلسطينية، فكانت غير مسبوقة في مجالها، ولكنها أطلقت العشرات العمليات من طرازها على طريقها. وفي هذا الصدد يذكر بيان الجبهة الشعبية/ القيادة العامة، في الذكرى السنوية الأولى للعملية، بتاريخ 11/4/1975: «لقد كانت عملية الخالصة الانتحارية ليس فقط تصعيداً للعمل العسكري والنضالي للمقاومة الفلسطينية، بل كانت أيضاً نهجاً جديداً في النضال رسمت في تاريخ مسيرتنا الفلسطينية والعربية. شعلة لا يمكن أن تنطفئ. شعلة التضحية بالذات، وتعميد النضال بالدم، بحيث فرضت حقيقة موضوعية، على نهجها ثارت قواعد المقاومة لكي تقوم بعدد من العمليات الانتحارية. وهكذا جاءت عملية أم العقارب، وبيسان، وترشيحا، وتل أبيب، وسينما حن.. وسوف يستمر هذا النهج الذي حفر في التاريخ طريقاً تحريضياً استقطب ثقة الملايين في الأمة بالقدرة الكفاحية العالية في مواجهة الأعداء والتي تصل حدّ استعمال الأحزمة الناسفة، والتضحية بالذات».
كما تتمثل أهميتها، ثانياً: في أنها فتحت الطريق، منذ البدء، أمام الجدل حول طبيعة هذه العمليات. وفي هذا المجال نلتفت إلى حديث أمين عام الجبهة، حين يقول: «بعد العملية بشهر، أو يزيد، جاءنا بشكل سرّي وفد من العلماء اليابانيين. جاؤوا ليدرسوا الظاهرة، ليفسروها ويسبروا أغوارها. قالوا: بالنسبة لنا، كيابانيين، عمليات الانتحار ليست بدعة. إنها من أصول معتقداتنا الدينية، وتربيتنا الاجتماعية، وبالتالي ليست بدعة. نحن نؤمن بالتقمص وبالحلول، ولهذا كانت فرق بكاملها، إبان الحروب، تقوم بعمليات، ضد أعداء بلادنا، ذات طبيعة اتنحارية. وغير ذلك قد يكون الانتحار لدينا تعبيراً عن موقف أو احتجاجاً، أو مجرد عودة لأصول معتقداتنا الدينية، أما أنتم فدينكم يمنع الانتحار. يمنع قتل النفس، إذن هل الانتحار وسيلة، أم ظاهرة تعبر عن اليأس؟.. نرجوكم ضعوا بين يدينا كلماتهم. رسائلهم. خطوطهم. نحن نريد أن ندرس أبطال «الخالصة»؛ نفسياتهم، ونجتمع إلى رفاقهم إن أمكن، وإلى بعض من سوف يقوم بعمليات مماثلة.. وكان لهم ما أرادوا.. سمحنا لهم لنؤكد أن اليأس ليس هو الدافع..
وحين انتهى وفد العلماء من دراسته التي استمرت وقتاً ليس بقصير قالوا:
- إن أبطال الخالصة ظاهرة جديدة لا يمكن احتواؤها تحت عنوان، كما يحدث في اليابان، أو لدى بعض أتباع ديانات معينة.
- لا يمكن القول إن الدافع كان يأس «فتيان الخالصة»، فالأبطال في سن الشباب، ومهما كان الوضع فإن سن الشباب هو سن الأمل في الوقت ذاته.
- الحالة الاجتماعية، بشكل عام، لعائلات الأبطال ليست سيئة، ولكنها بالقياس لا تقل عن غيرها من العائلات.
- إن «الوسامة» التي يتمتع بها شباب الخالصة، تؤكد أن ما قاموا به هو لجعل الحياة حرة للآخرين، وليس عن عدم حب للحياة».
الفدائيون لا ينتهون
ولم يكد يمر شهر واحد على وقوع «عملية الخالصة»، حتى ضجّ العالم بأنباء عن عملية انتحارية أخرى، قام بها هذه المرة فصيل فلسطيني آخر، ينتمي إلى طراز مختلف تماماً من حيث الأيديولوجية، والفكر، والسياسة. ففي يوم 15/5/1974، نجحت مجموعة فلسطينية تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كونة من ثلاثة فدائيين، في التسلل، ودخول منطقة معالوت/ ترشيحا، شمالي فلسطين، في تأكيد على أن هذا السبيل من الكفاح، سيتكاثر رواده، ويتتابعون على دربه، من مختلف فصائل الثورة.
وتذكر رواية الجبهة الديمقراطية لوقائع العملية، أن فدائييها دخلوا مدرسة «نتيف مئير»، واحتجزوا 105 تلميذاً، و10 مدرسين، رهائن. وكان غالبيتهم من مدرسة صفد الثانوية، الذين حضروا الى مدرسة معالوت، في إطار نشاطات الشبيبة الإسرائيلية. ولقد طالب الفدائيون باطلاق سراح 20 أسيراً فلسطينياً محتجزين في السجون الإسرائيلية، وإلا فإنهم سيقومون بتفجير أنفسهم مع الرهائن. وتؤكد الجبهة أن القوات الإسرائيلية لم تستجب لمطالب المقاتلين، واقتحموا البناية، فما كان من المقاتلين إلا تفجير المبنى، وقتل العشرات.
مجموعة دلال المغربي.. بطولات يسجلها التاريخ
فيلم «أيار.. الفلسطينيون»، الذي أخرجه اللبناني رفيق حجار، عام 1974، وهو فيلم وثائقي متوسط الطول (مدته 41 دقيقة)، شاء أن ينطلق من مقولة إن شهر أيار يرتبط بالنكبة التي حاقت بالفلسطينيين، كما يرتبط بنضالات الطبقة العاملة، وفي ذاك القول محاولة للربط بين النضال الطبقي والكفاح الوطني، بما يتوافق مع الفكر الماركسي اللينيني الذي كانت الجبهة الديمقراطية قد تبنته بوضوح. دون أن يغفل الفيلم عن حقيقة أن شهر أيار/ مايو 1973، شهد مناوشات فلسطينية لبنانية مبكرة. وفي خضم ذلك كله يمرّ الفيلم على عملية (ترشيحا/ معالوت) الفدائية نموذجاً للكفاح، وتأكيد على دور الجبهة في هذه المسيرة. وبالتالي فما احتواه هذا الفيلم عن العملية كان بضعة لقطات أرشيفية أو وثائق سينمائية، لم تتحوَّل إلى سياق فيلم عن العملية.
ولم يكد يمرّ شهر آخر على عملية ترشيحا/ معالوت، حتى عادت الجبهة الشعبية/ القيادة العامة لتنفيذ عملية انتحارية جديدة، في مكان آخر، ففي يوم 14/6/1974، قامت مجموعة فدائية بتنفيذ عملية ضد كيبوتز «كفار شامير»، الواقع شمال شرق فلسطين في موقع «أم العقارب»، في سهل الحولة. وتقول الجبهة إن مجموعة الهجوم، المكونة من فدائيين، اقتحمت الكيبوتز، وتمكنت من احتجاز 32 رهينة من سكانه في المطعم، وعندما حاول العدو اقتحام المطعم، نفذّ المقاتلان إنذارهما، وفجّرا نفسيهما مع الرهائن.
ولم تتخلف حركة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية، عن الانغماس في هذا السياق، إذ جاءت العملية التي قادتها «دلال المغربي»، عنواناً بارزاً في مجالها.
مصادر حركة فتح تذكر أن العملية كانت انتحارية الطابع، ومع ذلك تسابق الشباب على الاشتراك فيها، وكان على رأسهم دلال المغربي، التي تم اختيارها رئيسة للمجموعة. في يوم 11 آذار/ مارس 1978، نجحت دلال المغربي وفرقتها الانتحارية بعملية الإنزال، والوصول إلى الشاطئ، والسيطرة على باص والتوجه إلى تل أبيب. قامت وحدات من الجيش الإسرائيلي بملاحقة الباص إلى أن تم إيقافه وتعطيله. وهناك اندلعت مواجهة انتهت بأن فجّرت دلال الباص بركابه الجنود، قبل أن تلقى مصرعها. وبقيت في الذاكرة وصية دلال المغربي: «أنا دلال، ومستعدة للموت من أجل وطني فلسطين».
ننغير الألفاظ.. وتبقى الأهداف واحدة
سنوات قليلة إثر ذلك، وكانت المياه التي تجري في نهر الثورة الفلسطينية قد غيّرت الكثير من ملامحها العامة، وإن لم تختلف في التفاصيل. تغيرت الأقوال والتعابير، وإن لم يتغير الكثير في جوهر الفعل. ستذكر الوثائق: «إن الجبهة الشعبية/ القيادة العامة قد قصَّت شريط العمليات الإستشهادية في الخالصة عام 1974، حين ذهب ثلاثة من الأبطال وصنعوا ملحمة في الخالصة، ثم فجروا أنفسهم بالأحزمة الناسفة بعد نفاذ ذخيرتهم، ورفضوا أن يرفعوا أيديهم ويستسلموا للعدو».
وهكذا ما بين العام 1974 والعام 1987 اختفى تعبير «العمليات الانتحارية» تماماً، وغدا مرفوضاً ومرذولاً، من ناحية، كما غدا بمثابة الشتيمة، من ناحية أخرى!.. صار الذين يؤيدون هذا الطراز من العمليات يسمونها «استشهادية»، وصار الذين يرفضونها يسمونها «انتحارية».
ربما يجد البعض ذلك نتاج التحولات الفكرية العميقة التي حصلت، على الأقل في الساحة الفلسطينية، وربما يكون ذلك بسبب طبيعة الاصطفافات الجديدة التي نشأت وكان أبرزها صعود القوى الإسلامية، التي بدأت تأخذ موقع الصدارة. فمن قام بعملية «الخالصة» معتداً بطبيعتها الانتحارية، عام 1974، لن يتوانى في العام 1987، عن القول: «عملية قبية الإستشهادية أعطت ماكان يُراد لها كاملاً, وهذه العملية البطولية الفريدة, تشجع المجاهدين من الفصائل الأخرى والأحزاب الإسلامية والوطنية اللبنانية والفلسطينية على تصعيد الكفاح المسلح.. نحن نعتقد أن عملية قبية البطولية, التي ساهمت ولو بشكل متواضع بانطلاقة الانتفاضة الشعبية المباركة, ستبقى في ذاكرة شعبنا وأمتنا وكل الأحرار في العالم, مشعلاً مضيئاً سيظل مدى الأيام والسنين, وإن الشهداء الذين سقطوا في هذه العملية سيكون مكانهم جنات الله وفردوسه وسيبقون خالدين بيننا».
تغير منطق الكلام، ولكن لم يتغيّر جوهر الفعل، فما فعله «خالد أكر» هو أنه اقتحم موقعاً للجيش الإسرائيلي، وخاض حرب مواجهة، كان من العبث مناقشة إن كان سينجو منها. بل إنه قبل العملية كان قد سجل وصيته ورسائله، في وثائق سينمائية مصورة، كعادة ما يفعل الذاهبون إلى حتفهم، دون أدنى شك.. بل وكما سيفعل من سيأتون بعده، وإن لم يعودوا يرتدون مثله زيّ الفدائيين، ولم يتدربوا في المعسكرات على حمل السلاح وخوض المواجهات.