آباء وأبناء في “الهولوكوست”

لا تكف السينما الوثائقية عن ابتكار الأفكار لتصوير جوانب جديدة خافية من الموضوع الذي يشغل الكثير من المخرجين وصناع السينما والتلفزيون في الغرب منذ عشرات السنين، وهو موضوع “الهولوكوست” أو ما يعرف بـ”الإبادة الجماعية” لليهود على أيدي الألمان النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.

وقد ظهرت عن “الهولوكوست” مئات الأفلام التسجيلية والروائية ومسلسلات التلفزيون، وفي كل عام تظهر أفلام جديدة تريد الإبقاء على نيران الهولوكوست مشتعلة، تتعذب بها وتريد للآخرين أن يتعذبوا بها، لكي يظل هذا الحدث الأكثر “قداسة” في تاريخ السينما والإعلام المصور عموما، بعد أن أصبح أكبر “تابو” عرفته البشرية في العصر الحديث.

فمن الأفلام الجديدة التي عرضت في مهرجان لندن السينمائي الفيلم البريطاني التسجيلي 2018 “إرثي النازي” (My Nazi Legacy) وهو من اخراج “ديفيد إيفانز”، وشارك في إنتاجه تلفزيون بي بي سي. ولا شك في جدة الزاوية التي يتناول من خلالها الموضوع. فالفيلم يستند إلى البحث الذي قام به البروفيسور “فيليب ساتدز”، أستاذ القانون الدولي في جامعة لندن، ويدور حول رجلين ينتميان لأبوين من النازيين، يحملان وجهتي نظر متناقضتين تماما بشأن دور والد كل منهما في أحداث الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في “الهولوكوست”.

وقد أصبح الرجلان الآن في سن الكهولة، وأولهما هو “نيكولاس فرانك”، وهو ابن “هانز فرانك” أحد كبار القادة النازيين وأكثرهم ثقافة، فهو رجل قانون عيّنه هتلر حاكما عاما على بولندا المحتلة. والثاني هو “خورست فون فاتشر” ابن “أوتو فاتشر” النمساوي الذي ترك النمسا مبكرا (قبل أن يضمها هتلر الى ألمانيا) والتحق بصفوف الحزب النازي ثم صعد في صفوف الجيش لكي يصبح حاكم مدينة “كراكوف” البولندية تحت إدارة الرجل الأول “هانز فرانك”.

تناقضات العلاقة.. نازيان بفكرين مختلف

يقوم الفيلم على تلك العلاقة الملتبسة الغريبة التي تجمع بين الرجلين، فهما صديقين حقا، يجمعهما انتمائهما الى أبوين من النازيين أو من ينظر إليهما بنظرة خوف وصمت وإدانة، لكنهما يختلفان تماما في نظرتهما إلى الماضي؛ إلى “الأب” وما فعله، فعلى حين يدين الأول والده “هانز فرانك” إدانة دامغة بأقسى الألفاظ ويعترف أمام الكاميرا بأنه كان مجرما استحق الإعدام شنقا بموجب ما صدر عليه من حكم في محاكمات “نورمبرغ” عام 1946، في حين يدافع الثاني عن والده ويصر على أنه كان رجلا حسن السلوك، لم يرتكب أي جرم حقيقي، وينفي أن يكون قد شارك في جرائم الإبادة أو الترحيل وقتل اليهود أو غير اليهود، ويقول إنه كان يشعر بالتقزز مما يجري حوله، وكثيرا ما احتج على رؤسائه، مستندا إلى كونه لم يعتقل بعد الحرب ولم توجه إليه اتهامات محددة.

هذه العلاقة الغريبة، يتدخل فيها ويوجهها، طارحا الكثير من الأسئلة المباشرة التي تدفع القصة إلى الأمام، رجل القانون “فيليب ساندز” الذي يكشف أنه يهودي وأن والد “هورست” كان مسؤولا عن قتل كل أفراد عائلة جده باستثناء جده نفسه الذي لو لم يكن قد عاش لما كان قد ظهر هو على سطح الدنيا – كما يقول في الفيلم.

وهو في البداية يتبع أسلوبا يقوم على الاستماع وطرح بعض الأسئلة واكتساب ثقة الطرفين، خاصة “هورست”، الذي يستضيفه في بيته الذي هو عبارة عن قلعة قديمة من قلاع القرن السابع عشر في النمسا، ورثها عن أبيه، وما زال يقيم فيها مع زوجته رغم حالتها البالية من الداخل وغياب التدفئة عنها، ويطلعه على مكتبة والده العامرة بالكتب والمخطوطات والقصاصات، ومنها كتاب مُهدى من هتلر شخصيا، وهي تضم أيضا مجموعة كبيرة من صور العائلة، تعود الى الثلاثينيات والأربعينيات، في احتفالاتها بأعياد الميلاد، وما كانت تقوم به من نزهات صيفية، ورحلات التزحلق على الجليد، والحفلات والولائم التي جمعت الأصدقاء في تلك القلعة، حيث يظهر “هورست” في بعض هذه الصور عندما كان في السادسة من عمره، وحوله رجال يرتدون البزات النازية.

ويعترف “هورست” أن والده كان نازيا، لكنه يرى أن دافعه كان عمل شيء جيد لبلاده، خصوصا وانه ينتمي الى أسرة من الضباط، فقد كان والده الذي نشاهد لوحة ضخمة له على أحد الجدران، جنرالا في الجيش، ويرى أيضا أن وجود والده حال دون التنكيل بالكثير من الأوكرانيين عندما كان حاكما لإقليم “غالثيا” في أوكرانيا يقيم في عاصمته التي يطلق عليها الأوكرانيون “لفيف” بينما يطلق عليها الألمان “لمبرغ”، وهو قد شكل من رجال المدينة فرقة خاصة قاتلت مع الألمان ضد السوفيات الذين كانوا يعتبرونهم غزاة محتلين.

بناء الفيلم.. حيوات تحيي ذكريات

يتكون الفيلم من مزيج من الصور الفوتوغرافية واللقطات السينمائية الحية التي يحتفظ بها “هورست” أيضا، ونرى فيها الكثير من مظاهر الحياة في النمسا وفي أوكرانيا وفي وارسو وكراكوف بعد احتلال النازيين لها، كما نرى كيف أصبح اليهود يرتدون علامة عليها نجمة داود مربوطة الى أذرعتهم بموجب القرار النازي بتمييزهم.

وفي أحد مشاهد الفيلم يصطحب “فيليب ساندرز” الرجلين إلى “لمبرغ” حيث يتجمع حولهم رجال ممن ما زالوا يعتقدون أن الألمان كانوا يساعدونهم في الخلاص من المحتل الروسي خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، كما نشاهد كيف يرتدي الكثيرون منهم الملابس العسكرية النازية القديمة التي ما زالوا يحتفظون بها عن آبائهم وأجدادهم، ومنهم رجل يسأله “ساندز”: كيف ترتدي هذه الخوذة ألا تعرف أنها نازية؟ فيقول الرجل إن الخوذة هي التي حمته من رصاصة أطلقها جنود الحكومة الأوكرانية أثناء الاعتصام في فبراير/شباط 2014 في “ميدان” كييف، ويشير إليه بثقب في مؤخرة الخوذة من أثر اختراف الرصاصة.

ويتوجه “ساندز” بسؤال إلى رجل آخر يعلق شارة الصليب المعقوف في رقبته، عن سبب ذلك، فيقول له إنها مجرد علامة والمهم ليس في العلامة نفسها بل في طريقة استخدامها ومغزى وضعها. ونشاهد رجلا كهلا لا يقل عمره عن تسعين عاما جاء يشارك في هذا الاحتفال الصغير بإحياء ذكرى التعاون بين سكان المدينة والنازيين ضد السوفيات، يسأله “ساندز” عن والد “هورست”، فيقول إنه كان رجلا شهما نبيلا، وعندما يقدم له ابنه، يشد على يده بحرارة، ثم يدعو “هورست” لركوب سيارة قديمة من سيارات الألمان التي ما زالوا يحتفظون بها!

وعلى الجانب الآخر، يشعر “نيكولاس فرانك” بالنفور، ويعبر عن رفضه لما يؤمن به صديقه “هورست”، ويدينه بأقسى الكلمات أمام الكاميرا، بل ويدين والده ويقول انه كان بلا شك مجرم حرب وقاتل، لكن “هورست” يرفض هذه الاتهامات تماما. وتخلق هذه المواجهة بين الرجلين توترا يحرص المخرج على الاحتفاظ به والتوقف أمامه طويلا.

وفي مشهد آخر يذهب “ساندز” مع “هورست” الى معبد يهودي في “لمبرغ” ما يزال على ما أصبح عليه منذ أن أحرقه النازيون حسبما يقول، ونرى جدرانه في حالة رثة، ولكن أعمدته الضخمة ما زالت قائمة، وبعض الملامح القديمة التي تعود الى القرن السابع عشر واضحة. ويتساءل “ساندز” كيف أن “هورست” ما زال يعتبر والده رجلا جيدا في حين أنه كان مسؤولا عن تجميع وقتل 75 ألف شخص بالقرب من هذا المكان؟

وينتقل الفيلم إلى مكان قريب وسط منطقة خضراء حيث ينتصب نصب تذكاري للضحايا اليهود، ويتحدث “ساندز” عن الآلاف الذين قتلوا ودفنوا هنا في هذا المكان، وبينما يدين “نيكولاس” فرانك بشدة ما حدث، يقول “هورست” إن هناك الكثير من الذين فقدوا حياتهم خلال الحرب مدفونون في المكان نفسه وليس اليهود فقط.

ثقافة الانتقام

لا يهدأ “ساندز” ولا يستسلم بل إنه يناقش ويكاد يفقد أعصابه، فهو يحاول دائما أن يصور ما حدث في الماضي باعتباره أمرا خارقا في التاريخ، ليس من الممكن استيعابه أو فهمه أو تبريره، وهي الرؤية الكلاسيكية اليهودية التي أبقت على “تجارة الهولوكوست” قائمة، فعندما يقول له “هورست” إن هناك الكثير من الذين قتلوا من غير اليهود، يرفض مصرا على ضرورة الحديث عن أولئك الخمسة والسبعين ألف تحديدا وليس غيرهم، إنه طرف يحاكم طرفا آخر، طبقا لفكرة الانتقام والإذلال وترسيخ عقدة الذنب إلى الأبد. والواضح من الفيلم أن “هورست” بثقافته واطلاعه يرفض هذه الفكرة، وإن كان يعترف بجرائم النازية ويدينها، وبينما يدفعه “ساندز” دفعا للاعتذار عن الماضي، يقول هو إن من المهم التفكير في المستقبل، والنظر إلى ما هو جيد وإيجابي في العالم اليوم!

إننا نذهب إلى السجن الذي اعتقل فيه قادة النازية، ثم إلى قاعة المحكمة التي جرت فيها محاكمات “نورمبرغ”، حيث يمزج المخرج بين اللقطات الحديثة الملونة، ولقطات الأرشيف القديمة بالأبيض والأسود التي نشاهد فيها “هانز فرانك” مثلا أمام المحكمة يقرا عليه ممثل الادعاء التهم المنسوبة إليه، ونعود الى ابنه الذي يجلس في نفس المكان الذي كان يجلس فيه والده قبل 69 عاما، يعلق معربا عن شعوره بالرفض والإدانة.

ينفرد “ساندز” بـ”نيكولاس” في مشهد خاص ويسأله عن رأيه في صديقه “هورست” وما إذا كان يعتقد أنه نازي، فيقول إنه ليس نازيا لكن من الممكن أن يتحول إلى نازي. أما عندما ينفرد بـ”هورست” ليستمع لرأيه في نيكولاس فيقول له “هورست” إنه مجنون، وإن علاقته المضطربة بوالده هي السبب في تطرفه في إدانته!

بقي أن نعرف أن نيكولاس تحدث كثيرا عن طفولته التعيسة، وكيف أن والده كان ينبذه اعتقادا منه بأنه ليس ابنه بل ابن صديقه الحميم الذي ارتبط بعلاقة مع والدته، التي كانت منفصلة جسديا عن والده، ولم تنجح في الحصول عل الطلاق حتى بعد أن كتبت الى هتلر الذي رفض الموافقة على طلاقها من محاميه، على حين كان “هورست” تمتع بطفولة سعيدة مع والده ووالدته. ولم يسجن والده بعد الحرب فقد نجح في الفرار إلى إيطاليا حيث احتمى بالفاتيكان، إلى أن توفي في 1949 بعد إصابته بمرض الحمى الصفراء.


إعلان