“الأيام الأخيرة في فيتنام”.. هروب تحت جنح الظلام من موت محقق

“الأيام الأخيرة في فيتنام” (Last Days in Vietnam) هو أحد الأفلام الخمسة التي رُشحت لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل.

فمخرج الفيلم الأمريكي “روري كنيدي” يقدم هنا واحدا من أفضل الأفلام الوثائقية في العام 2014، ليس فقط بسبب موضوع الفيلم المثير، بل بسبب قدرته على استخدام الكثير من اللقطات والمشاهد المصورة بكاميرات لم تكن متقدمة في ذلك الوقت، للأحداث اللاهثة التي أحاطت بعملية خروج الأمريكيين من فيتنام الجنوبية، بعد ضياع كل أمل في وقف الهزيمة.

هذه الصور الفريدة على عدم دقتها الاحترافية، تعد وثائق استثنائية حقا، وكثير منها التقطه مصور استعان به أحد الضباط الذين كانوا مكلفين بحراسة السفارة الأمريكية في سايغون، العاصمة القديمة لفيتنام.

فلدينا هنا صور للأحياء المختلفة من سايغون، للسفن الراسية قبالة الشاطئ استعدادا لعملية الإجلاء، وللسفارة وما يجري بداخلها، وللطائرات المروحية التي توالي رحلاتها في نقل الأفراد، وللسفير الأمريكي الذي كان في قلب تلك “الأيام الأخيرة”، ولما كانت تنقله وسائل الإعلام، ولحركة السيارات داخل المدينة، وللحشود الضخمة التي ترغب في مغادرة البلاد، وللانفجارات التي اجتاحت مناطق كثيرة، وأهمها قاعدة “داننغ” الجوية الأمريكية الشهيرة.

وإلى جانب اللقطات الوثائقية التي وُضعت في سياق قصصي مشوق -وكأننا نتابع فيلما من أفلام الإثارة والترقب- يستخدم المخرج النماذج المصغرة التفصيلية (الماكيت)، ولا سيما لمجمع السفارة الأمريكية في سايغون.

كما يستخدم التحريك والمزج بين الوثائق المصورة، وبين ما يأتي في سياق المقابلات التي أجراها مع عدد من العسكريين الأمريكيين الذين اشتركوا في عملية إجلاء الأمريكيين والعسكريين الفيتناميين وعائلاتهم في اللحظات الأخيرة، قبل دخول قوات “ألفيت كونغ” الفيتنامية الشمالية إلى سايغون، ثم وقوع “مذابح” أو اعتقالات جماعية من جانب قوات الشمال لكل من يشتبه في تعاونهم مع الأمريكيين، وخاصة العسكريين من فيتنام الجنوبية. إننا نشهد مأساة الحرب التي دفع ثمنها ملايين الأشخاص، بعضهم قُتل وبعض اضطر لمغادرة بلده.

“أكثر الاتفاقات السياسية غموضا”

يبدأ الفيلم من عام 1973، ويتوقف أمام “اتفاقية باريس” بين فيتنام الشمالية والولايات المتحدة، في عهد الرئيس “نيكسون” وبرعاية وزير خارجيته الشهير “هنري كيسنجر”، وهي اتفاقية يصفها أحد العسكريين الأمريكيين السابقين في الفيلم بأنها “أكثر الاتفاقات السياسية غموضا”.

فمع أنها كانت تنص على استمرار دعم واشنطن لحكومة سايغون الموالية، فإنها لم تستطع وقف زحف قوات “ألفيت كونغ” الشيوعية على الجنوب واستيلائها -يوما بعد يوم- على مزيد من المدن والقرى، لا سيما بعد انسحاب القوات الأمريكية بموجب تلك الاتفاقية، واستغلالا لعجز الادارة الأمريكية عن الفعل بسبب الغضب.

وقف العملية.. ما بعد الفضيحة الكبرى واستقالة الرئيس

عندما اضطر الرئيس “نيكسون” للاستقالة في أعقاب فضيحة “ووترغيت” عام 1974، تقدم الرئيس “جيرالد فورد” بطلب إلى الكونغرس لإقرار معونة عسكرية عاجلة إلى فيتنام الجنوبية بأكثر من 700 مليون دولار، لكن الكونغرس رفض أي مزيد من التورط العسكري في جنوب شرقي آسيا.

تقول نائبة سابقة في الكونغرس للفيلم، إن حربا شنتها واشنطن استغرقت سنوات طويلة، وكلفت مليارات كثيرة، واشترك فيها نحو نصف مليون جندي أمريكي، فشلت في تحقيق الهدف منها، فكيف يمكن لمعونة عسكرية بمبلغ مثل هذا أن توقف زحف الشمال (الشيوعي) لالتهام الجنوب الموالي لأمريكا؟

هنري كيسنجر الذي قاد الرئيس ريتشارد نيكسون إلى مفاوضات إنهاء الحرب على فيتنام

ومن النقاط الجيدة التي يناقشها الفيلم تأخر الأمريكيين في عملية الإجلاء، سواء للعسكريين الأمريكيين الباقين هناك، وكان عددهم قد تقلص إلى خمسة آلاف عسكري، ومعظمهم من قوات المارينز، وإجلاء العسكريين الفيتناميين الجنوبيين حلفاء واشنطن، مع أفراد أسرهم، وأعداد أخرى من المدنيين الفيتناميين النازحين الذين وصل عددهم إلى نحو مليون شخص.

ونحن نرى في لقطات تفصيلية هذا الطوفان البشري، وحالة الفزع التي تسيطر على الجموع، وتدفق الآلاف على مجمع السفارة الأمريكية، وتسلقهم الأسوار وأسلاكها الشائكة، وكان بعض حراس السفارة يتغاضون عن ذلك، ويتركونهم يهبطون إلى حديقة السفارة والجلوس أياما وليالي في انتظار النجدة، كما تدافع السكان لسحب ودائعهم من البنوك، تمهيدا لدفع مبالغ كبيرة لمن وعدوهم بترتيب هروبهم من البلاد، ولكنهم خُدعوا.

معارضة السفير.. عناد رجل فقد ابنه الوحيد في الحرب

يروي الفيلم أن السفير الأمريكي في سايغون “غراهام مارتن”، كان يقاوم بشدة خروج العسكريين الأمريكيين، وكأنه كان يأمل بوقوع معجزة في اللحظة الأخيرة، تتمكن من وقف تقدم الشيوعيين.

وكان هذا السفير -كما يُجمع كل المتحدثين في الفيلم- يعاني من الجمود الذهني، وكانت فيتنام بالنسبة له تعني تحديا خاصا، لأنه فقد ابنه الوحيد في المعارك هناك. ويتحمل السفير تداعيات تأخير إنقاذ العسكريين والأهالي الفيتناميين، إلى أن قرر الرئيس الأمريكي “فورد” وقف عمليات الإجلاء نهائيا بعد خروج آخر الأمريكيين باستثناء 11 فردا هم الذين نتابع قصة خروجهم بالمروحية التي جاءت بعد أن كان اليأس قد تسرب إليهم، وتُركوا وحدهم منسيين فوق سطح السفارة في سايغون.

فقد كان مئات الفيتناميين يكافحون لشق طريقهم نحو سطح المبنى على أمل أن يلحقوا بالمروحيات التي كانت تقوم بعمليات الإجلاء ونقل الكثيرين إلى السفن الحربية والمدنية الراسية قرب الشاطئ في المحيط الهادئ.

قفز من المروحية.. طيار ينقذ عائلته في اللحظة الأخيرة

من مزايا الفيلم الكبيرة المونتاج الدقيق الذي قام به “دون كليزي”، إذ يجعل الفيلم يدور في سياق قصصي، فهو يستخدم مقتطفات من المقابلات المسجلة بالصوت والصورة مع عدد ممن كانوا هناك، بينهم أربعة من الفيتناميين الجنوبيين الذين قضوا فترة من أصعب فترات حياتهم قبل أن ينجح بعضهم في الفرار، أو يقع منهم من وقع، في قبضة قوات “ألفيت كونغ”، ومنهم من قضى أحد عشر عاما في المعتقل، بموجب سياسة “إعادة التثقيف”، قبل الإفراج عنه ولجوئه بعد ذلك إلى أمريكا.

جندي أمريكي يسقط السلم الذي يتسلقه عشرات الفيتناميين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى المروحية

ويروي أحد أبناء كبار العسكريين الفيتناميين أن والده كان طيارا، وقد نقل كثيرين إلى السفن الأمريكية، ويقول إنه قاد طائرته وحمل أفراد أسرته جميعا معه في اتجاه سفينة حربية أمريكية كانت واقفة بالقرب من الشاطئ، لكن لم يكن ممكنا أن يهبط على سطحها، وإلا دمرت الطائرة ودمرت معها البارجة الأمريكية، وقتل من عليها، وذلك بسبب كبر حجم الطائرة.

وقد اضطره ذلك إلى إلقاء زوجته وابنته الرضيعة (لم يتجاوز عمرها حينئذ عاما واحدا) من على ارتفاع الطائرة، كما قفز ابنه الذي يتحدث في الفيلم وكان عمره ست سنوات وقتها، ثم ترك الأب الطيار طائرته تتحطم في البحر، بعد أن قفز وسط الأمواج العاتية، ولكنه استطاع النجاة بأعجوبة والسباحة نحو السفينة.

وفي الفيلم، تظهر تفاصيل هذه القصة من خلال اللقطات التي صورت في ذلك الوقت تفصيلا، سواء للطائرة أو للسفينة والموجودين على متنها، ومن دون أن نشعر بخروج القصة عن السياق العام للفيلم.

إنزال علم الجنوب.. وسيلة إنقاذ اللاجئين إلى الفلبين

هذه الدقة في متابعة القصص التي يسردها المتحدثون في الفيلم، من خلال الاستخدام الجيد للصور، مع شريط صوت يبدو كأنه يتابع السرد، على الرغم من تغير المتحدثين واحدا وراء الآخر، هو ما يمنح الفيلم رونقه وسحره، ويمنحنا متعة المشاهدة.

يتحدث في الفيلم “ريتشارد أرميتاغ”، وهو مسؤول سابق في البنتاغون، وكان وقتذاك أحد الضباط العاملين في حماية السفارة، وهو يروي ونتابع روايته من خلال عشرات اللقطات، أنه اتفق مع أحد الفيتناميين من عملاء الأمريكيين على مخالفة التعليمات الرسمية، فاستطاع بذلك إنقاذ نحو 30 ألف فيتنامي جنوبي بواسطة الحافلات والسيارات وتوصيلهم إلى السفن المدنية والحربية التي نقلتهم إلى الفلبين.

الرئيس “فورد” يصدر قرارا رسميا بوقف عمليات الإجلاء

ثم يروي أنه كان يتعين عليه اتخاذ قرار بإنزال علم فيتنام الجنوبية من فوق سواري السفن بعد اعتراض سلطات الفلبين، وكانت قد اعترفت بالنظام الشيوعي الذي استطاع توحيد فيتنام بعد سقوط سايغون، وقرر “أرميتاغ” رفع العلم الأمريكي فوق تلك السفن، ضمانا لأن تقبل سلطات الفلبين دخول الفيتناميين اللاجئين إلى أراضيها، الأمر الذي أثار الحزن في نفوس الفيتناميين.

بطولة الهاربين تحت جنح الظلام.. رؤية أحادية

يمزج الفيلم بين الجانب السياسي، والجانب الإنساني، وبين تقديم المعلومات الغزيرة عن ملامح الفترة، وفي الوقت نفسه توجيه النقد للتقاعس الأمريكي عن إجلاء الكثيرين، واضطرار العسكريين الذين بقوا في النهاية إلى أن يخلفوا وعدهم لآلاف الفيتناميين، بعد صدور قرار رسمي من الرئيس “فورد” بوقف عمليات الإجلاء، وخروج الأمريكيين الباقين من هناك على الفور.

طابور طويل من الفيتناميين يحاولون الركوب في آخر طائرة أمريكة للهرب من فيتنام

هذا الانتقال المستمر بين سرد المعلومات، وتحليل الصور، والتوقف طويلا أمام الدور الفردي الإنساني لعدد من العناصر العسكرية الأمريكية، سواء تلك التي غامرت بإنقاذ من استطاعت إنقاذه، أو عبرت عن الشعور بالذنب من اضطرارها للتخلي عن وعودها لكثير من السكان، يجعل الفيلم ينحصر في صورة أحادية، تغفل كثيرا ما تعرض له الفيتناميون في شمال البلاد من مذابح وقتل عشوائي على نطاق واسع، بقنابل النابالم وغيرها.

كما يغفل بشكل عام تحليل التورط الأمريكي في فيتنام وتاريخه وتوسعه، ثم -وهذا هو الأخطر- يضفي على الخروج الأمريكي المهين الذي يصل حد الهرب ليلا نوعا من البطولة، في حين يبدو الطرف الآخر مجرد شبح مخيف يستعد للانقضاض على “مدينة الأبرياء”، غافلا عن حقيقة أن فيتنام الشمالية دفعت نحو مليونين من الضحايا في تلك الحرب العبثية التي استمرت عشر سنوات.


إعلان