“حتى هؤلاء الموتى عندهم أسماء”.. جريمة أسطول أراد كسر حصار غزة

كان “أسطول الحرية” متجها عام 2010 إلى غزة لفك الحصار عنها، حين هاجمته وحدة كوماندوز تابعة للجيش الإسرائيلي خارج حدود مياهها الإقليمية، وقد قُتل خلال الهجوم 9 نشطاء سلام معظمهم من الأتراك، أسماؤهم يعرفها الجميع، لكن من يعرف عائلات هؤلاء القتلى، وكم من الأطفال تركوا بعدهم أيتاما ونساء ثكلى؟

من هذا السؤال الصادم، يدخل السويدي “بو هارينغر” إلى متن فيلمه “حتى هؤلاء الموتى عندهم أسماء” (The Dead Still Have Names)، فيبدأ بتعداد أسماء الشهداء واحدا واحدا مع تقديم نبذة عن حياتهم وكم من الأطفال تركوا خلفهم، في إصرار على تذكير العالم بجريمة راح ضحيتها بشر وليسوا أرقاما، وعليه أن يقدم مرتكبيها إلى محاكمة عادلة تستمع لإفادات الشهود الذين عايشوا الحدث.

سفينة مرمرة 2010 بعد عودتها من رحلة غزة، وصور النشطاء التسعة الذين قتلتهم إسرائيل على متنها

هذا المدخل يفتح كوة واسعة على تجربة ثانية تلت الأولى بعام واحد، حين حاول نشطاء سلام وعدد من السويديين الذين كانوا على متن “أسطول الحرية” وشهدوا الجريمة بأم أعينهم، أن يوصلوا مساعدات إنسانية وأدوية إلى المنكوبين من أهالي غزة، لكن سفنهم لم تصل قط، فقد عملت إسرائيل وتعاونت دول أخرى معها على إيقاف إبحارها، فظلت راسية في ميناء “بيريوس” اليوناني.

“هنري أشر”.. شهادات من شخصية الفيلم المحورية

من بين الذين نشطوا في حملة “سفينة إلى غزة” عام 2011 طبيب الأطفال “هنري أشر” الذي وجد فيه غايتَه المخرجُ “بو هارينغز”، صاحب الأعمال المثيرة للجدل، التي تفاتح مشاهدها بالحقائق غير المرغوب في البوح بها، كما في وثائقيّه عن مدمني المخدرات “لا أريد أن أعيش هذه الحياة” (I Don’t Want to Live this Life).

“سفينة إلى غزة” تبحر باتجاه غزة بعد عام واحد من حادثة سفينة مرمرة

فمقومات الشخصية التي يمكن بناء فيلمه عليها، تتوفر عناصرها في شخصيته، من بينها نشاطه وتأييده للقضية الفلسطينية، إلى جانب تاريخه السياسي والعائلي.

يستثمر الوثائقي وجوده ليحصل منه على شهادة شخصية ترتقي سينمائيا إلى مستوى “بورتريه” عن حياته ونشاطه السياسي، وسيصعد إلى سفينة غزة بمعيته، لينقل تفاصيل الحياة داخلها، ويتعرف على طبيعة البشر المشاركين فيها، ويوثِّق شهادات الذين شاركوا في “أسطول الحرية”، ويحصل منهم على تسجيلات نادرة، منها توثيق لحظة صعود جنود الكوماندوز البحري الإسرائيلي على متنها، وإطلاق النار على مدنيين عُزّل.

بوستر فيلم “حتى هؤلاء الموتى عندهم أسماء”

تكفي هذه التسجيلات وحدها لإدانة القتلة وتفضح صمت العالم عن فعلتهم، وتجعل فيلم “حتى هؤلاء الموتى عندهم أسماء” فيلما تنقيبيا اتخّذ لنفسه ثلاثة مسارات فاعلة؛ الأول يكشف حقيقة ما جرى في “أسطول الحرية”، وثانيها التعرُّف على رجل محوري عايش الرحلتين، وآخرها مآلات “سفينة غزة”.

تسجيلات الأسطول.. وثائق تكذّب مزاعم جنود الاحتلال

تُكَذب التسجيلات الشخصية لركاب الأسطول كل ادعاءات الجيش الإسرائيلي؛ بأن الركاب كانوا مُسلحِّين وهم من بدؤوا الهجوم عليهم، وأنهم إلى جانب ذلك أخفوا داخل السفن مواد محظورة، تشكل خطرا على الأمن الإسرائيلي.

صورة كاميرا سفينة مرمرة أثناء اقتحام الجنود الصهاينة للسفينة والاعتداء على ركابها

وتُبيّن المفارقة الصادمة أن النشطاء تمرسوا على أيدي رجال ذوي خبرة في الحملات السلمية التضامنية، وتدرّبوا على عدم الاحتكاك جسديا مع الجنود، وتجنُّب إثارة حفيظتهم والتحلِّي بالصبر، حتى يُسقطوا كل الحجج التي يريدها العسكر للهجوم عليهم.

وتؤكد التسجيلات أيضا أن شحنة المساعدات كانت أدوية ومعدات طبية، بعضها قديم ومستخدم، وقد حصلوا عليها من متبرعين متضامنين مع القضية الفلسطينية، ولا يوجد فيها أي سلاح. والأدهى من كل ذلك طبيعة الركاب أنفسهم التي تنفي عنهم صفة العنف، فجلهم سياسيون سلميون، وبينهم أدباء وصحفيون، إلى جانب أطباء وممرضين مهنيين.

أحد مصابي سفينة مرمرة بعد الهجوم المسلح عليها من قبل الجنود الصهاينة

وتكشف أحاديثهم المسجلة على أشرطة كاميرات الفيديو الشخصية طبيعتهم الإنسانية، ووقوفهم إلى جانب المظلومين، مما ينفي عنهم كل صفة “عدائية” تعمّد الإسرائيليون التعكُّز عليها، لمنع أسطول “سفينة إلى غزة” عام 2011 من الوصول إلى هدفه.

طبيب الأطفال.. يهودي يرفض الدعاية الصهيونية

يُظهر طبيب الأطفال “هنري أشر” استعداداته لخوض التجربة الفيلمية الجديدة، عبر ملازمة يومية له، نتعرف من خلالها على دوره في معالجة الأطفال المهاجرين القادمين من مناطق الحروب، والمختفين عن أعين دوائر الهجرة خشية من إبعادهم، وتركيزه على الحالات النفسية شديدة التعقيد التي تسمى “حالات انسحاب ما بعد الصدمة”، إلى جانب تفحُّص علاقته مع أطفاله ومؤازرتهم له في مغامراته، ورغبتهم الحقيقية في المشاركة فيها.

طبيب الأطفال “هنري أشر” الذي رافق سفينة غزة

أما على المستوى الشخصي فيكشف عن تجربة مريرة مرّت بها عائلته النمساوية خلال الحرب العالمية الثانية، حين صفّى النازيون الألمان معظم أفرادها بسبب يهوديتهم، ولم ينجُ منهم سوى والده الذي كان يدرس وقتها في جامعة “أوبسالا”، فاضطر للبقاء في السويد بقية حياته.

ويقترح فيلم “حتى هؤلاء الموتى عندهم أسماء” التوقُّف وتأمّل اعترافات “هنري أشر” المتعلقة بموقفه من الفلسطينيين لأهميتها، فهو لم يتضامن ويقف معهم في بداية حياته، بل تعاطف معهم بسبب تجربة عائلته ويهوديته مع الدولة الإسرائيلية، ويعترف بأنه كان مُضلّلا وصدّق الكذبة المروجَّة على نطاق واسع، بأن لا وجود للشعب الفلسطيني، وإنما لحفنة من البدو الرُحَّل كانوا يتنقلون على المساحة التي تأسّست فوقها الدولة اليهودية.


إعلان