بومبي…المدينة المنكوبة تنهض من تحت الرماد

في كل فيلم وثائقي يفاجئنا المخرج البريطاني مايكل وودنغ بتقنية حديثة أو ثيمة جديدة أو مقاربة صادمة وجديدة، هذه المرّة في فيلم “بومبي” الذي أسند فيه مهمة السرد إلى الصحفي المتألق “مايكل بيرك” حتى إن اسمه حمل جانبا من عنوان الفيلم “بومبي مع مايكل بيرك” (Pompeii with Michael Buerk).

ولعل الثيمة الجديدة في هذا الفيلم الوثائقي هي إعادة الحياة إلى هذه المدينة الميتة التي طمرها بركان “فيزوف” عام 79 ميلادية. فالمُخرج يصرِّح بالفم الملآن على لسان الراوي المُشارِك في صنع الحدث بأنه معني “بحياة الناس وليس بموتهم”، فلا غرابة أن تكتظ المقدمة بتساؤلات عديدة من بينها: مَنْ هم هؤلاء الناس البومبيون الذين لقوا حتفهم في لحظة جحيمية أسقطتهم جميعا في دوائر الحيرة والصدمة والذهول، وماذا كانوا يأكلون ويشربون، وكيف كانوا يقضون أوقاتهم آناء الليل وأطراف النهار؟

التقنية في خدمة السرد.. وسيلة المخرج لنقل تفاصيل الزمن الغابر

قبل الخوض في تفاصيل هذا الفيلم لا بد من الإشارة إلى براعة المخرج في استعمال تقنيتي الغرافيك والصور المولّدة بواسطة الكومبيوتر (CGI) حيث استطاع إعادة بناء السوق والساحة العامة والمدرّج الروماني والمقاهي والحانات وما إلى ذلك من مرافق المدينة التي رأيناها تنبني أمام أعيننا بطريقة سحرية جذّابة، فتارة يتصاعد الطابوق والآجر، وتارة أخرى تُكسى الحيطان الداخلية بالجص والفريسكو، وتارة ثالثة تُزيّن بالمرايا والأثاث الفاخر.

تحتاج الأفلام الوثائقية الناجحة إلى خبراء ومتخصصين في شتى العلوم والآثار التي يتمحور عليها الفيلم الوثائقي، وقد انتقى المخرج خمسة خبراء أغنوا الفيلم وعزّزوه بالمعلومات العلمية الدقيقة وسوف نتوقف عندهم تباعا لأن أحاديثهم تشكِّل بنية الفيلم الفنية والعلمية في آنٍ معا.

وبما أن بومبي تجذب ثلاثة ملايين سائح سنويا، فلا بد أنها مدينة مدهشة ومتطورة من كافة النواحي العمرانية والثقافية والاجتماعية، وإلا لما أصبحت أشهر موقع تاريخي على الأرض بغض النظر عن براكينها الثائرة التي لم تخمد إلاّ لتثور من جديد آخذين بنظر الاعتبار أن البركان الكبير الذي ضرب المدينة عام 79م سيعود ليضربها كل ألفي سنة مرة واحدة، وهنا تكمن قوّة المفاجأة وقوة الترقب مع إصرار أهالي المدينة على البقاء في مدينتهم على الرغم من شبح الموت الذي يتربص بهم عند فوّهة جبل فيزوف.

تقدم عمراني.. مدينة ظن أصحابها أنها ستقاوم

يؤكد الخبير الأيركيولوجي ستيفن أليس بأن المدينة كانت مبنية بطريقة هندسية متطورة تلبّي احتياجات المواطنين بصورة عامة، وتؤمّن للأثرياء والموسرين على وجه الخصوص إطلالات جميلة على البحر.

وأحد أبرز هذه النماذج الثرية هو “إمبريكيوس غاروس” الذي كان يتاجر بالمواد الغذائية، وينتج العمّال في مصانعه صلصة السمك التي تستعمل مع كل الوجبات الغذائية. أما منزله فهو تحفة فنية مزيّنة باللوحات الثمينة التي تسرّ الناظرين. ولولا تقنية الغرافيك والكومبيوتر لاستحال على المخرج إعادة بناء هذه القصور والمنازل والصرُح المعمارية بهذه الطُرق المتتابعة التي منحت المشاهدين متعة منقطعة النظير. وفي مقابل هذا القصر المنيف ثمة بيوت متواضعة يسكنها الفقراء ولا يجدون حرجا في العمل في الطوابق الأرضية بينما يتخذون من الطوابق الثانية أمكنة للعيش والراحة والاسترخاء.

لا تفوت السارد والمُحاوِر مايكل بيرك شاردة أو واردة إلا ويسأل عنها مُستوضحا، وغالبا ما تكون نفس الأسئلة التي تدور في ذهن المشاهد أو قريبة منها في أقل تقدير.

أما الشخصية الثانية التي يلتقي بها المُحاوِر فهي سالي كرينغر، خبيرة الأغذية البومبية التي كانت شائعة قبل ألفي سنة تقريبا. لا يكتفي مايكل بيرك بعملية السرد والحوار وإنما يشارك في عملية تهيئة الوجبة البومبية المكونة من “بيض الغنم” المحشوّ بالتوابل والأعشاب ويأكل منها فيتذوق ما صنعته يداه في حضرة الخبيرة “كرينغر” التي قامت بطهي الطعام وتقديمه بمحبة كبيرة.

جولة مع الخبير.. تفاصيل يكشفها ستيفن أليس

لا يمكن الاكتفاء بمحادثة عابرة مع “ستيفن أليس”، فنحن بحاجة إلى خبرته الأركيولوجية كي يحكي لنا عن المعالم الحضارية الشاخصة في المدينة مثل الميدان أو السوق أو المدرّج الروماني وسواها من أماكن العمل والترفيه وتزجية الوقت.

وبما أننا نستطيع أن نتخيل ما يحدث في المقاهي والحانات وسوق المدينة الرئيس، فلا بد للراوي أن يأخذنا بصحبة عالم الآثار إلى المدرّج ليحدثنا عن حجمه الذي يتسع لـ20 ألف متفرج.

يُستعمل المدرّج الروماني لأغراض متعددة من بينها المسابقات الجماهيرية، والاحتفال بالمناسبات العامة، وعروض قتال المصارعين والمحاربين، وإعدام السجناء، وتمثيل الأعمال الدرامية المستوحاة من الأعمال الكلاسيكية، وسواها من الأغراض التي تستدعي حضور الغالبية العظمى من المواطنين لمشاهدة حدث كبير سواء أكان مُفرحا أم مُحزنا، تراجيديا أم كوميديا.

غير أن المخرج انتقى لنا عرضا قتاليا بين اثنين من المُجالدين (والمُجالد قد يكون عبدا أو شخصا محكوما عليه بالإعدام، أو من المجرمين المُدانين)، ولكي يعطينا المُخرج فكرة بصرية عن المُجالدين قدّم لنا عرضا بين “ريتياريوس” و”مورميلو” حيث يتسلّح الأول برمح ثلاثي الرؤوس (يشبه فالة الصيد السومرية) وشبكة، كما تكون ذراعه اليمنى محميّة. أما الخصم “مورميلو” فيقاتل بسيف قصير عريض، بينما تكون يده اليمنى محميّة وكامل رأسه مغطّى بخوذة حديدية.

وبعد جولة من المبارزة ينتصر مورميلو على خصمه، ولا يكتفي بطعنة السيف القاتلة وإنما يحزّ رقبته أمام الجماهير المُهتاجة. وأراد المخرج في هذا المقطع تحديدا أن يركز على العنف والجانب الوحشي الذي كان مهيمنا على الإنسان الروماني آنذاك.

وفي السياق ذاته كان الراوي يحكي لنا عن ترتيب المدرجات بحسب الطبقات الاجتماعية وأن “أمبريكيوس غاروس” يجلس مع الطبقة الثانية وهي طبقة التجّار ورجال الأعمال، أما المواطنون فيجلسون في القسمين والثالث والرابع من المدرّج.

لم يختر المخرج هذين المُجالدين عن عبث، فالسبب يعود إلى أن المواطنين البومبيين كانوا يحفرون أسماء المجالدين ويخططون أشكالهم على جدران المدرّج التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا.

النساء في بومبي.. لمحة عن اللمسة الأنثوية في المدينة

يخصص المخرج في هذا الفيلم حيزا معقولا للنساء، ويتيح لخبيرة التجميل “سالي بوينتر” أن تصوّر لنا المظهر الخارجي للمرأة البومبية وخاصة إذا كانت هذه المرأة من طبقة الأثرياء ووجهاء المدينة مثل زوجة “إمبريكيوس غاروس” التي تتبرج قبل أن تخرج لحضور أي مناسبة اجتماعية.

تؤكد “بوينتر” بأن وجه المرأة البومبية يجب أن يكون شاحبا لأن الشحوب ميزة جمالية، وللحصول على هذا اللون كانت المرأة تستعمل الزعفران الباهظ الثمن وتعالجه مع شمع العسل وزيت اللوز وتستعمله للخدّين والشفتين أيضا. أما الحاجبان والعينان فلا بد من تحقيق التضاد في الألوان كي يبرز جمال العينين حيث يُستعمل السُنّاج المخلوط بقليل من الصبغ وزيت الزيتون لتكون النتيجة مشابهة لأقلام الحواجب التي تُستعمل الآن.

تحتل الحانات ومصانع النبيذ مكانة متميزة في المجتمع البومبي، وقد أحاطنا المخرج بطريقة إعداد الأنبذة الإيطالية القديمة في مشاهد جميلة للنساء والرجال الذين يدوسون العنب بأقدامهم النظيفة المغسولة.

ولعل الأفكار التي قدّمتها الدكتورة “صوفي هَيْ” وافية عن الأنبذة المتبّلة التي كان يفضلها المواطن البومبي. وقد أخذتنا في جولة لحانة “أمارانتوس”، وهي إحدى الحانات القديمة التابعة لـ”سكسوس بومبيوس أمارانتوس”، وقد تأكدوا من الاسم لأنهم عثروا في أثناء التنقيب على جرار مدفونة في الحديقة تحمل اسمه الكامل.

لعل الشيء المثير هنا أن علماء الآثار عثروا على قارورة مستوردة من غزّة، الأمر الذي يكشف أن تجّار بومبي كانوا يتوفرون على علاقات تجارية مع الشرق الأوسط ومع أنحاء مختلفة من العالم.

تتوفر بومبي على حي للملذات العابرة وبناية الـ”لوبانار” (Lupanar) هي نموذج للماخور الذي يرتاده المواطنون آنذاك. وقد عثر الآثاريون على رسوم تخطيطية كثيرة تجسّد هذه الظاهرة الموجودة في كل العصور. وقد تحدثت الخبيرة الإيروسيّة “كيلي أولسون” عن الأبعاد التاريخية والرمزية والاجتماعية لهذه الظاهرة وهو حديث علمي دقيق لا يعوّضه سوى مشاهدة الفيلم نفسه.

لا شك في أن هذا الفيلم الوثائقي تاريخي يعود بنا إلى قرابة ألفي سنة إلى الوراء ليعيد إحياء المدينة المنكوبة، لكن المخرج وكاتب النص “مايكل وودنغ” تفادى الجوانب المأساوية ليركِّز على الناس البومبيين وطرائق عيشهم وحياتهم. وقد نجح في مقاربته البصرية أيما نجاح حيث أرجعنا 20 قرنا إلى الوراء، وجعلنا نعيش في الماضي بطريقة إيجابية تزاوج بين الحقيقة الدامغة والخيال الجمعي.

جدير بالذكر أن “مايكل وودنغ” أخرج أكثر من 30 فيلما تتوزع بين التاريخ والفنون والدراما الواقعية والدكيودراما والرياضة والقضايا المعاصرة لعل أبرزها “شيرلي باسي” و
“محاكمات نوريمبيرغ” و”حياة راسبيوتن” و”سفينة نوح” و”مسافرون عبر الزمن” و”فكتوريا الشابة”.. وسواها من الأفلام الوثائقية التي تحترم المُشاهد وتحسب له ألف حساب.


إعلان