ذكرى استقلال المغرب.. شعبٌ يحرّر عرشه

السلطان محمد الخامس (وسط) أثناء زيارته لمعرض في باريس في 15 يوليو 1935.

“أيها الشعب الوفي..
مهما تمسكتم بالعروة الوثقى، ما كان شيء ليضركم كيفما كانت شِرته، إذ لا شِرة تدوم في الحياة الدنيا.
أيها الشعب العزيز..
وعدتَ بالإخلاص ووفيت أحسن الوفاء، وكنتَ من الصابرين فكان لك ما وعد الله به؛ إنما يوفّى الصابرون أجورهم بغير حساب.
أيها الشعب العزيز..
قد أخلصت الوفاء كما أخلصتُ، وأديت الواجب أحسن أداء كما أديتُ، وها أنا بينكم كما تعهدوننا، حب البلاد رائدنا وخدمتها غايتنا.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور”.[1]

الخطاب هنا لرجل كان يلقّب بالسلطان، أي الملك المغربي الراحل محمد الخامس، والمكان هو باحة مسجد حسان التاريخي بالعاصمة المغربية الرباط، بعد أول صلاة جمعة حضرها في وطنه بعد عامين قضاهما في المنفى الذي اقتاده إليه الاستعمار.

كان ذلك يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، وهو اليوم الذي اختير لرمزيته الخاصة ليكون موعدا لعودة رسمية لملك ظل مخلوعا من عرشه منذ 20 أغسطس/آب 1953، لكنّه عاد بفضل تلاحمه مع قادة الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال وتمسكهم له.

رمزية تتمثل في كون هذا التاريخ يصادف ذكرى اعتلاء محمد الخامس عرش المغرب من عام 1927، لكنه وبعد سنوات قليلة من الاحتفال بعيد الاستقلال المغربي في الثاني من مارس/آذار الذي كان قد شهد التوقيع رسميا على إنهاء الحماية الفرنسية بالمغرب عام 1956، سوف يعود الاحتفال بعيد الاستقلال إلى 18 نوفمبر/تشرين الثاني، ابتداء من العام 1961.

لهذا لا يمكن الحديث عن عيد استقلال المغرب في معزل عن معركة المغاربة من أجل إعادة حاكمهم الشرعي قبل أي تفاوض أو اتفاق مع المستعمر من أجل ترتيب الانسحاب، كما أن احتلال الفرنسيين للمغرب منذ البداية -عبر ما يسمى باتفاقية الحماية- كان مداره الأصلي هو السيطرة على العرش واختيار صاحبه. ولفهم تحوّل تاريخ جلوس الملك محمد الخامس على العرش إلى عيد للاستقلال، لا بد من العودة إلى قصة الاحتلال الفرنسي للمغرب، وارتباطها الوثيق بمصير العرش.

استعمار يسكن قصر السلطان

يبتدئ تفسير هذا الترابط بالرجوع إلى ثنايا المعاهدة التي فرضت الحماية على المغرب عام 1912 بين فرنسا والسلطان عبد الحفيظ عمّ الملك محمد الخامس.

فهذه الاتفاقية جاءت بعد عقود من التقهقر المغربي أمام ضربات الأوروبيين المتنافسين على استعماره، حيث أمسك المستعمر بخناق المملكة من خلال تقييده شخص السلطان بهذه المعاهدة، وهو ما خوّله عزل مولاي حفيظ بعد شهور قليلة من توقيعه المعاهدة، وتنصيب أخيه مولاي يوسف سعيا إلى جعل السلطان أداة طيّعة في يد المحتلين.

واستمرّ هذا النهج مع اختيار الفرنسيين أصغر أبناء مولاي يوسف لخلافته إثر وفاته عام 1927، إلا أن السحر انقلب على الساحر حين تحوّل محمد بن يوسف تدريجيا إلى حليف أول للوطنيين الرافضين لاستمرار الحماية الأجنبية على البلاد، وهو ما انتهى بنفيه عام 1953، ليصبح مطلب عودته من المنفى مرادفا للاستقلال.

السلطان محمد الخامس يترأس حفل الولاء الذي أقيم على شرفه في عام 1927.
السلطان محمد الخامس يترأس حفل الولاء الذي أقيم على شرفه في عام 1927.

وهناك وجه آخر لهذه المعركة التاريخية التي خرج منها المغرب بوضعه الحالي، وهو تدخّل قوى وطنية شعبية للفصل بين أفراد الأسرة الحاكمة وانتصارها للشرعية. فحدثُ استقلال المغرب كان أيضا إعادة لمحمد الخامس إلى سدة الحكم بدلا من ابن عمومته محمد بن عرفة الذي قلّده الاستعمار وحلفاؤه من أعيان وباشاوات المغرب السلطة عبر “بيعة إذعان” رفض المغاربة الاعتراف بها، بينما كان تسلّل الاستعمار إلى المغرب قد جرى بسبب التصدعات الداخلية للبيت السلطاني.

بدأ هذا التسلّل مع نشوب الخلافات بين ستة إخوة ممن خلّفهم السلطان مولاي الحسن الأول (1836-1894) الذي قال التاريخ إنه جعل عرشه فوق حصانه وتمكّن من الحفاظ على استقلال ووحدة المملكة في وقت كانت تقع فيه بين فكي كماشة طاحنة هما الاستعمار الأوروبي والتهديد العثماني في النصف الثاني من القرن الـ19.

حماية فرنسية لعرش ضعيف

لم يكن الخاتم السلطاني الذي وُضع في مدينة فاس يوم 30 مارس/آذار 1912 على وثيقة معاهدة الحماية إيذانا بنهاية الصراع مع قوى استعمارية، بل حسما لصراع آخر بين أبناء البيت الواحد.

كان “مولاي عبد الحفيظ” يوم توقيع معاهدة الحماية على مرمى حجر من نيران حكومة مؤقتة يقودها أخوه زين العابدين الذي بويع قرب مدينة مكناس، وانطلق يزحف على عاصمة المملكة حينها مدينة فاس التاريخية، في خاتمة حزينة لصراع طويل بين الإخوة على الحكم.

قبل ذلك، كان الفرنسيون قد مدّوا نفوذهم وتغلغلوا في أوصال الدولة المغربية بعد إنهاكها في حرب مولاي عبد الحفيظ ضد أخيه السلطان مولاي عبد العزيز. وهذا الأخير خرج -بعد حرب طويلة مع تمرّد أخيه عبد الحفيظ الذي كان في الأصل ممثلا له في مدينة مراكش- من عاصمة مملكته فاس معوّلا على دعم فرنسي موعود، وتركها دون قوة عسكرية كافية للدفاع عنها ومواجهة أي تحرّك من سكّانها. “ومهما كان الاعتقاد، فإن الذين أشاروا على السلطان بالخروج من عرينه قد تسببوا في انحراف قطار مولاي عبد العزيز عن سكته” وفقا للمؤرّخ علال الخديمي.[2]

لقد كان كبار أعيان الدولة المغربية وعلماؤها قد طعنوا في صحة البيعة التي حصل عليها عبد الحفيظ في مراكش كسند للتمرّد على أخيه السلطان عبد العزيز، لكنّهم وبعد تحالف هذا الأخير مع الفرنسيين، لم يجدوا حرجا في نقل البيعة إلى أخيه المتمرّد، باعتباره “سلطان الجهاد” كما تقول كتابات المؤرخين.

هذه البيعة التي يعتبرها بعض الدارسين حاملة لما يشبه أول دستور مغربي بالمعنى العصري الذي يفيد التوافق بين الحاكم والمحكومين على شروط متبادلة؛ نصّت على التزام مولاي عبد الحفيظ بمقاومة الاحتلال الزاحف على أطراف البلاد، حيث كانت القوات الفرنسية قد اخترقت أراضي المغرب شرقا انطلاقا من الجزائر المستعمَرة منذ بداية القرن الـ19، وغربا عبر مدينة الدار البيضاء التي دخلها الفرنسيون تحت وابل من القصف المدفعي.

ونصّت “البيعة الحفيظية” على شروط صارمة من جانب المبايِعين تجاه السلطان، ويصفها البعض بالبرنامج الإصلاحي الشامل الذي ينص على:[3]

–          إلغاء معاهدة الجزيرة الخضراء التي قبلها المغرب مكرهاً (عبارة عن ميثاق صدر عام 1906 بعد مؤتمر دولي ضم 12 دولة أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لتقاسم النفوذ في المغرب تمهيدا لاحتلاله).

–          استعادة المناطق المحتلة.

–         وضع حد للحمايات (نوع من الحصانة كان يتمتع به رعايا بعض الدول الأوروبية داخل المغرب).

–         إلغاء المكوس (ضرائب جديدة فرضت تحت ضغط القوى الأوروبية).

–         تقوية مبادئ الإسلام.

–         إلغاء الامتيازات الأجنبية.

–         إصلاح التعليم.

–         الدعوة إلى استشارة السكان في كل ما يتعلق بالعلاقة مع الأجانب.

فخّ فرنسي في طريق السلاطين

كانت طريق مولاي عبد الحفيظ نحو الخروج من الحكم في المغرب من بابه الضيّق مفروشة بتقاعسه عن “الجهاد” الذي كان بصدد القيام به في منطقة الدار البيضاء ضد الغزو الفرنسي، وذلك بمجرد حصوله على البيعة.

فرغم إظهاره الرغبة في صدّ الفرنسيين، فإن مولاي عبد الحفيظ كان يميل أكثر إلى فتح باب التفاوض للتفاهم معهم قصد إرضائهم مقابل تثبيته في الحكم، وهو ما عبّر عنه كاتب السلاطين حينها محمد الغالي السنتيسي في كتابه المخطوط “الدرر اللفظية في المملكة الحفيظية” بالقول: سيدنا المؤيدة أعلامه، المفعمة بالنصر لياليه وأيامه إلى الآن؛ لم يعقد معهم حربا بقاعدته المعلومة، ولا استنفر أحدا للجهاد بمراسمه المرسومة.[4]

بعد عودته إلى فاس عاصمة الحكم بالمغرب إلى ذلك الحين، أخذ مولاي عبد الحفيظ يبحث عن اعتراف دولي بشرعية سلطته، واجتهد في إيفاد السفارات والمراسلات مع القوى الدولية. لتنطلق في يناير/كانون الثاني 1909 أولى المفاوضات مع الفرنسيين، ويتم التوصل إلى اتفاق بجلائهم من منطقة “الشاوية” دون أن يشمل ذلك مدينة الدار البيضاء، وهي النقطة التي أخرت التصديق على الاتفاق، لتنتقل المفاوضات بعد ذلك إلى باريس.

هناك في العاصمة الفرنسية، أصرّ الطرف القوي على ربط مسألة الجلاء والحدود بالمسائل المادية، أي ربط ذلك بدفع الديون المتراكمة والتعويض عن مصاريف الاحتلال، بينما كان عبد الحفيظ يحاول تجاوز هذه الضغوط عبر اتصالات مع كل من ألمانيا وإيطاليا وتركيا من أجل الحصول على مساعدتهم، لكنه لم يفلح إلا في شراء بعض الأسلحة الألمانية.

توالت التدخلات العسكرية لجيش الاحتلال في عدد من المناطق المغربية بذريعة ملاحقة بعض القادة المقاومين المغاربة، وعادت عدد من القبائل في أحواز فاس ومكناس للانتفاض ضد “المخزن” الحفيظي.

وبقدر ما كان تمرّد القبائل المغربية يضعف شرعية وسلطة مولاي عبد الحفيظ، بقدر ما كانت فرنسا تستثمر ذلك للدفع بقواتها أكثر داخل البلاد مدّعية حماية مصالحها في ظل ضعف السلطة المركزية، وكانت ثورة القبائل المحيطة بالعاصمة فاس فرصة الفرنسيين للتدخل من أجل إخمادها ومحاصرة السلطان الضعيف داخل قصره، ومن ثم فرض معاهدة الحماية عليه.

القبض على السلطان

عندما بدأت المفاوضات الألمانية الفرنسية على مصير المغرب، رأى عبد الحفيظ أن يستبق ما ستسفر عنه ويتوصّل إلى اتفاق ثنائي مع فرنسا، فتقدّم بمذكّرة تحتوي على الشروط التي يرى أن التعاون المغربي الفرنسي يجب أن يسير عليها، وتسلّم الجانب الفرنسي تلك المذكّرة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1911، وتضمّنت مطالب خصوصية تتعلّق بمصالح الأسرة الملكية وأملاك السلطان الخاصة ومستقبله، وأخرى تهمّ عموم الشعب ومصالح الدولة المغربية.

السلطان مولاي عبد الحفيظ
السلطان مولاي عبد الحفيظ

استمرّت المفاوضات الثنائية المغربية الفرنسية ليخضع عبد الحفيظ في النهاية لإملاءات الفرنسيين، ويوقّع معاهدة الحماية في 30 مارس/آذار 1912. يقول المؤرخ زكي مبارك “لقد رضخ السلطان تحت ضغوط بعض أعضاء حكومته وعناد المندوب الفرنسي الذي تشبث بنص المعاهدة كما أعدتها حكومته”. إلا أن مولاي عبد الحفيظ -حسب مبارك- رفض التوقيع على المعاهدة إلا بعد أن تتعهد له الحكومة الفرنسية كتابةً بقبول الشروط الآتية:[5]

– حقه في التنازل عن العرش.

– ضمان وضعية لائقة بشخص السلطان وذلك بوضع مبلغ 500 ألف فرنك في البنك المخزني تحت تصرفه الخاص.

– تتعهد الحكومة الفرنسية بحماية السلطان وعائلته وبضمان معاش مناسب له إذا اختار التنازل عن العرش.

كما تنص المعاهدة التي شرعنت فرنسا بواسطتها وجودها في المغرب؛ على اعتراف “صاحب الجلالة الشريفة” للحكومة الفرنسية بالحق في “نشر قواتها العسكرية على التراب المغربي، كما تعتبرها مهمة للحفاظ على أمن وسلامة المبادلات التجارية وتدبير الشؤون الأمنية على البر وفي المياه المغربية”[6].

وفي مقابل ذلك، تعهّدت فرنسا “بمساندة صاحب الجلالة الشريفة ضد كل خطر يمس شخصه الشريف أو عرشه أو ما يعرض أمن بلاده للخطر. على أن تشمل المساندة أيضا ولي عهده وسلالته”.

عهد اليد المطلقة

رحل عبد الحفيظ عن البلاد في يونيو/حزيران 1912، ونصّبت فرنسا أخاه يوسف سلطانا للمغرب، وشكّل عهد هذا الأخير الذي استمر إلى غاية وفاته عام 1927؛ عهد اليد الفرنسية المطلوقة في المغرب، حيث كان يكتفي بتوقيع الظهائر التي تعدّها الإقامة العامة الفرنسية، وهذا جسّد بالنسبة للفرنسيين نجاحا باهرا نظير حُكم المغرب عبر ملك ضعيف ومنقاد لها بشكل مطلق.

يقول الصحفي الذي رافق جزءا من قادة الحركة الوطنية المغربية المنتمية إلى حزب الاستقلال عبد الكريم غلاب: كان وجهه جميلا محاطا بلحية كثة تميل إلى الحمرة، وبجسم ممتلئ في قليل من الطول، وفي صحة جيدة في ما يبدو للناظر، يلبس جلبابا وسلهاما أبيضين، ورأسه محاط بشاشية حمراء تعصبها عمامة بيضاء.

السلطان مولاي يوسف بن الحسن (يسار)
السلطان مولاي يوسف بن الحسن (يسار)

وكان عبد الكريم غلاب الذي توفي صيف 2017، خلّف مذكرات يصف فيها مشاهد رؤيته للسلطان مولاي يوسف خلال بعض الاحتفالات الرسمية التي كانت تشهدها مدينة فاس بالقول: رأيته يسير بخطوات وئيدة، يبتسم ابتسامة عريضة للمتفرجين الذين يقفون هادئين صامتين كأن على رؤوسهم الطير. لم يكن أحد آنذاك يهتف للسلطان، الهدوء يجعل من الموكب -الذي يحضره المقيم العام الماريشال ليوطي- كأنه موكب جنائزي.[7]

بحث الفرنسيون يومها بين أبناء السلطان المتوفين فوجدوا أصغرهم وأقلهم معرفة بالسياسة ودواليبها الشاب محمد الذي كان بالنسبة للمحتلين أكثر إخوته قابلية للانقياد، فقاموا باختياره وريثا للعرش وأنجزوا له طقوس البيعة الشرعية. لكن ما لم يضرب له الفرنسيون حسابا هو أن هذا السلطان الشاب استهويه أفكار أقرانه الوطنيين الرافضين لاستمرار وضعية الخضوع المغربي للحماية الفرنسية، وذلك بعدما راكموا من المعرفة والعلم من مختلف جامعات العالم مما فتح أعينهم على حقائق التاريخ وحسابات السياسة.

سلطان المقاومة

ولد محمد الخامس بن السلطان مولاي يوسف يوم 10 أغسطس/آب 1909 في مدينة فاس المغربية، وهو أصغر إخوته الثلاثة. قضى طفولته في القصر الملكي بفاس التي كانت عاصمة للبلاد قبل أن يتم الانتقال إلى الرباط التي أصبحت عاصمة للمغرب، وتربى في أجواء التنشئة التقليدية المحافظة للأمراء.[8]

تلقى محمد الخامس في طفولته تعليما عربيا تقليديا، تركز أساسا على التربية الدينية ودروس اللغة العربية طبقا للمناهج التقليدية. وتخللت الدروس مبادئ أولية في اللغة الفرنسية. ويعلل المؤرخ البريطاني روم لاندو هذا التكوين التعليمي البسيط لمحمد الخامس بكونه لم يكن يحضّر لتولي العرش بوصفه أصغر الأبناء.

فخلال فترة المرض الذي أودى بالسلطان، كان ابنه إدريس يستعد لخلافة والده تكريسا لعرف تولية أكبر الأبناء، لولا أن الإقامة العامة للحماية الفرنسية كان لها رأي آخر تَقاسمه معها أيضاً “الصدر الأعظم” القوي آنذاك محمد القري.

ورغم معارضة بعض الأعيان والفقهاء لهذا القرار، فان إرادة الأقوى سادت وأُعلن الأمير محمد بن يوسف ذو الـ18 عاما، سلطانا على المغرب يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1927.

في بداية عهد محمد بن يوسف، أخذت جذوة المقاومة الوطنية تشتعل من جديد، حيث كانت إحدى كبرى المعارك التي جرت في عهده هي ما يعرف بـ”الظهير البربري”، والذي نجحت الإقامة العامة الفرنسية في تمريره مع ما يتضمنه من مقتضيات تُخرج القبائل الأمازيغية للمغرب من سلطة الملك ونفوذ القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، وذلك تمهيدا لتفتيت المغرب وإضعاف تماسكه الداخلي. وكان للثورة الشعبية العارمة -التي هزّت المغرب حينها رفضا لهذا الظهير وإعلانا للتمسّك بالوحدة والمرجعية الإسلامية- أثر حاسم في توجّه محمد بن يوسف نحو الانخراط في مسار المقاومة الوطنية، حيث “أخذ منها العبرة الأولى إذ حزم أمره على سياسة أخذ يسلكها تدريجيا منتهجا لها كل فرصة مواتية ليتطور بها ويزيد معالمها إبرازا وتبيينا”.[9]

بداية التمرّد

تنامت الروابط بين السلطان الشاب وقادة الحركة الوطنية تدريجيا، وبات في أواسط الأربعينيات يتقدّم المشهد ليقود العمل الوطني إلى جانب مؤسسي الحركة الوطنية، وذلك من خلال دعمه لائحة المطالب الإصلاحية التي رفعها الوطنيون المغاربة في مواجهة فرنسا عام 1944، كما قام في أبريل/نيسان 1947 بزيارة -تعتبر تاريخية ويحتفل المغاربة بذكراها إلى اليوم- إلى مدينة طنجة التي كانت القوى الدولية تُخضعها لوضع خاص خارج السيادة المغربية، وهو ما كان يشير إلى عزم المغاربة على استعادة استقلالهم كاملا.

وفي بداية الخمسينيات، عرضت فرنسا على السلطان محمد بن يوسف مجموعة مراسيم جديدة كي يوقّع عليها لتتحوّل إلى قوانين، وكانت تلك الوثائق تنص على تغييرات كبيرة تجعل الفرنسيين -وخاصة منهم المستوطنين الذين هاجروا من بلادهم إلى المغرب- يقتسمون سلطة الحكم المباشر للمملكة بدل نظام السلطة المزدوجة التي كانت قائمة بمقتضى معاهدة الحماية، أي حكومة السلطان المغربي إلى جانب “إقامة عامة” فرنسية.[10]

أعلن محمد بن يوسف حينها “تمرّده” على الإملاءات الفرنسية وأضرب عن التوقيع، ليشتد الصراع بين السلطان محمد بن يوسف المتحالف مع الوطنيين، وبين الاستعمار وحلفائه من كبار الأعيان المحليين. ويروي عبد الصادق الكلاوي في كتابه عن والده باشا مراكش الشهير، كيف أن محاولة أولى لعزل السلطان جرى التحضير لها عام 1951، لكن الفرنسيين سرعان ما تراجعوا.

فصعوبة الأمر كانت قد برزت منذ العام 1950، وذلك حين بادر كبار القادة التقليديين الذين ورثوا نفوذا يشبه الإقطاع في التاريخ الأوروبي، إلى مطالبة الفرنسيين بعزل السلطان لأنه بات يتقرّب من الوطنيين ويُعقّد تنفيذ السياسات الاستعمارية التي تخدم المستوطنين وحلفائهم المحليين من كبار الأعيان يتقدمهم باشا مراكش القوي التهامي الكلاوي.

المحاولة الثانية في أغسطس/آب 1953 وكانت أكثر فعالية، “خصوصا عندما نُقل محمد بن عرفة (الذي عُين سلطانا جديدا من طرف الفرنسيين) من مدينة فاس التي كان يسكنها مهمَلا بحومة عقبة السبع؛ إلى مدينة مراكش التي شهدت اجتماعات الباشا الكلاوي ومن معه من العملاء والخونة بإشراف رجال الإقامة العامة منذ يوم 13 أغسطس/آب 1953 إلى يوم 19 من الشهر نفسه”.[11]

عيّن الفرنسيون السلطان الجديد، ونقلوا محمد بن يوسف إلى جزيرة كورسيكا في البحر المتوسط، ثم إلى جزيرة مدغشقر القصية في مياه المحيط الهندي. لكن، ما إن دخل ابن عرفة قصر الرباط حتى اضطر للخروج منه ملاحَقا بلعنات الجماهير، حيث تم نقله إلى مدينة فاس خوفا عليه من الاضطرابات الشعبية.

ثورة لاستعادة الشرعية

امتدت أشكال المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي بعد ذلك لتشمل مقاطعة المغاربة استهلاك السجائر الفرنسية، “واعتزم الوطنيون توسيع ذلك القرار ليشمل حتى السكر والحليب”. كما عمد الفلاحون المغاربة إلى الكف عن استعمال الآلات الحديثة التي تأتي بها فرنسا، وعمدوا كذلك إلى إحراق محاصيلهم الزراعية، “وتقول تقارير استخباراتية إن عمليات إحراق المحاصيل قد تمتد قريبا لتشمل أراضي المستوطنين”.[12]

سيدي محمد بن مولاي عرفة
سيدي محمد بن مولاي عرفة

استمرّت الثورة عامين كاملين طبعهما الغليان والمواجهات والتضحيات الشعبية، وانتهت برضوخ فرنسا للمطالب المغربية ودخولها في مفاوضات مع الوطنيين، ليكون أول المطالب وقبل الحديث عن أي من صيغ إنهاء معاهدة الحماية بين المغرب وفرنسا، عزل السلطان البديل وعودة السلطان الشرعي إلى عرشه، ثم التفاوض معه على تفاصيل الاستقلال.

الاستعمار بين فكي كماشة

وتحت ضغوط الثورة المغربية التي وحّدت لأول مرة المدن والبوادي في أشكال متنوعة من المقاومة جمعت بين الحرب المباشرة في القرى والعمليات الفدائية في الحواضر؛ بعثت فرنسا وفودا للتفاوض مع محمد بن يوسف في منفاه القصي في جزيرة مدغشقر في أقصى جنوب القارة الأفريقية، ثم دعت ممثلي الوطنيين إلى منتج “إكس ليبان” الفرنسي لتعرض عليهم مخططا إصلاحيا يستجيب لمطالبهم.

أصبحت فرنسا بين فكي كماشة مغربية، أي السلطان محمد الخامس الرافض لأي تنازل أو مساهمة في دعوة المغاربة إلى التهدئة قبل إيقاف العمليات الإرهابية للمستوطنين الفرنسيين من جهة، والوطنيين المغاربة الرافضين لأي تفاوض قبل عودة السلطان الشرعي.

يقول الراحل محمد بن يوسف في خطاب 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1955 الذي كان بمثابة إعلان رسمي للاستقلال: الآن وقد تجلت أهدافنا، يجب عليكم أن تتمسكوا بحبل الإخاء وتتجنبوا ما يؤدي إلى التفرقة والبغضاء، إذ لا نجاح يرجى إلا بصفاء القلوب وتوحيد الصفوف، حتى نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

 

المصادر:

[1] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/4310
[2] الخديمي علال، الحركة الحفيظية أو المغرب قبيل فرض الحماية الفرنسية، الوضعية الداخلية وتحديات العلاقات الخارجية 1894-1912، دار أبي رقراق، الرباط، 2009.

[3] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/8625
[4] محمد الغالي السنتيسي، ” الدرر اللفظية في المملكة الحفيظية، الخزانة الحسنية
[5] “مائة عام على معاهدة الحماية”، جريدة “أخبار اليوم المغربية”، عدد 24-25 مارس آذار 2012
[6] https://www.yabiladi.ma/articles/details/52400/%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B3-1912-%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86.html

[7] “عبد الكريم غلاب في مذكرات سياسية وصحافية”، منشورات المغارف، 2010
[8] https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2015/7/30/محمد-الخامس
[9] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/882
[10] /%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/20-%D8%A3%D8%BA%D8%B3%D8%B7%D8%B3-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%A7-%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85/
[11] عبد الكريم الفيلالي، التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير، 12 جزءا، شركة ناس للطباعة والنسر جمهورية مصر، الطبعة الأولى 2006
[12] /%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/20-%D8%A3%D8%BA%D8%B3%D8%B7%D8%B3-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%A7-%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85/


إعلان