“قضية هامرشولد الباردة”.. هل قُتل الأمين العام للأمم المتحدة؟

في ليلة الـ18 من سبتمبر/أيلول عام 1961 سقطت طائرة ركاب مَدنيّة فوق منطقة أندولا (تقع حاليا في زامبيا)، وكان على متنها السكرتير العام للأمم المتحدة “داغ هامرشولد”، ولم تتوصل تحقيقات اللجنة الخاصة بالأمم المتحدة إلى الأسباب الحقيقة التي أدت إلى سقوطها وموت كل ركابها، مما أثار لغَطا حول وجود مؤامرة خلفها، لكن حقيقة ما جرى للطائرة ظلّ لُغزا غامضا.
بعد مرور عقود على سقوط الطائرة، يعود المخرج والصحفي الاستقصائي الدنماركي “مادس بروجر” ليأخذ على عاتقه البحث في القضية التي أصحبت لتقادمها -حسب المصطلح القانوني- “قضية باردة”، وذلك برفقة مساعده المحقق السويدي المتطوع “يوران بيوركدال”. بحث طال ست سنوات قابَلا خلالها الكثير من الشهود، وفتّشا في أرشيف 15 دولة في أربع قارات.
البحث عن المسبب الحقيقي في إسقاط الطائرة قادهما إلى اكتشاف جرائم ضد الإنسانية ارتُكبت بحق سكان القارة الأفريقية لم يُكشف النقاب عنها من قبل. فهذا ما جعل من فيلم “قضية هامرشولد الباردة” وثائقيا شجاعا، واستقصائيا فاضحا لما أُريد له أن يبقى طيّ الكتمان.
المستعمرون الجُدد
ينقل الوثائقي مقطعا من خطاب ألقاه أحد مسؤولي الأمم المتحدة في الذكرى العاشرة لرحيل السويدي “داغ هامرشولد” يُعدّد فيه مناقبه وخصاله، ويشدّد على دوره في تشجيع الدول الإفريقية حديثة الاستقلال على التحكم بمواردها الطبيعية والبشرية، وهو توجّه سياسي خلَق له أعداء كثيرين، فالدول الاستعمارية القديمة والشركات الغربية في القارة الأفريقية لا تريد لتلك الدول استقلالا حقيقيا، بل تريد أن تُبقيها تابعة لها، وأن تظلّ الشركات الغربية تتحكم وتسيطر على ثرواتها ومواردها حتى بعد إعلان استقلالها، وقد ظهر هذا التوجّه بشكل واضح إبان أزمة الكونغو، حين أعلنت مقاطعة “كاتانغا” عام 1960 انفصالها عنها.
لقد لعبت الشركات البلجيكية المُتحكمة بمناجمها الغنية في خلق بؤرة توتر ضد المركز، حيث سَلّحَت المرتزقة والجماعات الانفصالية التي أعلنت الحرب على الدولة الحديثة الاستقلال.
وبعد فشل قوات حفظ السلام التي أرسلها “هامرشولد” إلى المقاطعة في السيطرة على الميليشيات؛ مارست بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ضغطها عليه، وأجبرته على السفر لترتيب الوضع هناك، وفي طريقه لإجراء محادثات سلام بين حكومة الكونغو والمتمردين؛ سقطت طائرته فوق أدغال المنطقة الحدودية بين الكونغو وروديسيا البريطانية (زيمبابوي حاليا).

آثار ثقوب الرصاص.. الدليل المتجاهل
انتهت التحقيقات الرسمية إلى أنّ سبب سقوط الطائرة يعود إلى خلل في جهاز قياس ارتفاع الطائرة، لكنه تقرير لم يقتنع به غالبية السويديين ومعهم كثير في أنحاء العالم، فقبل سفره عام 2011 قابل المُخرج المحقق السويدي المتطوع “يوران بيوركدال.
قناعة “يوران” بأهمية البحث متأتية من معلومات حصل عليها من والده الدبلوماسي الذي شارك عام 1970 في التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة، وأثناء وجوده في موقع سقوط الطائرة عَثر على قطعة من هيكلها كانت فيها ثقوب كتلك التي تتركها عادة رصاصات الأسلحة الأوتوماتيكية على المعادن الصلبة، ولم يأتِ تقرير الأمم المتحدة النهائي ولا التحقيقات الرسمية في أفريقيا على ذكرها. ذلك ما دفع يوران للعمل مع المخرج الدنماركي الذي أعدّ العُدة واشترى معاول وجهاز كشف المعادن للبحث عن أدلة جديدة في منطقة حطام الطائرة التي تم دفنها في حفرة كبيرة.
ذهاب المخرج والمحقق المتطوع “يوران” إلى هناك وبحثهما في قضية تعود إلى عدة عقود سيجبر الوثائقي طيلة زمنه (135 دقيقة) على التنقل بين الأزمنة الحديثة وبين تواريخ قديمة، حيث اختار صانعه أسلوبا فنيا جميلا يجمع بين الوثائقي والروائي. ولتوضيح بعض القضايا أو القصص الغامضة استعان بالرسوم المتحركة لتقريبها إلى ذهن المُشاهد.
أول الخطوات التي اتبعها “المحقق الخاص” -كما سمى المخرج نفسه- هي الذهاب لمقابلة شهود من سكان المنطقة التي وقعت فيها الطائرة، ورغم خوف أغلبيتهم من الحديث معه إلا أن بعضهم أكّد سماعه صوتا قويا انبعث من السماء قبل سقوط الطائرة على الأرض، وأن طائرة أخرى كانت موجودة بالقرب منها، وتلك معلومات جديدة لم ترد في التحقيقات، مما يثير مزيدا من الشكوك حول احتمال إسقاط الطائرة بصاروخ أو تفجيرها في الجو.

“الكوتشينة” والصورة اللغز
عثر فريق الفيلم على صورة قديمة التُقطت لجثة “هامرشولد” المرمية قرب الحطام، مما زاد من احتمال تورّط جهات في مقتله، فقد ظهر في الصورة التي وجدوها بين مقتنيات أحد عملاء المخابرات البريطانية في جنوب أفريقيا ورقة “آس” من لعبة “الكوتشينة” (ورق اللعب) وُضعت بتعّمد تحت ياقة قميصه، لكن إلى ماذا ترمز، ومن وضعها، ولماذا؟
أسئلة ستقود للمضي في البحث والعمل على مقابلة شخصيات كانت موجودة هناك لحظة وقوع الحادث، ومن بينهم أحد أعضاء منظمة جنوب إفريقية غامضة تُسمى اختصارا “سايمر”، وقد أُنشات في عهد نظام الفصل العنصري “الأبارتيد” ولم يعرف الناس عنها شيئا.
تأكد وجود المنظمة بعد سنوات حين نشرت “لجنة الحقيقة والتسامح” لحقبة ما بعد انتهاء نظام “الأرباتيد” تقريرها الخاص، حيث جاء في تقرير رئيسها الراهب “ديسموند توتو” إن منظمة “سايمر” متورطة في مقتل سكرتير الأمم المتحدة، وأن لديها أدلة قاطعة تؤكد ضلوعها بالعملية، لكن رغم ذلك لم تتحرك الأمم المتحدة ولا بقية الدول.

منظمة “سايمر” السرّية
يعود “المحققان” إلى جنوب أفريقيا لتقصّي حقيقة المنظمة، حيث خرجا بمعلومات مهمة بعد مقابلتهما صحفيا أجرى حوارات سابقة مع مؤسِس المنظمة “كيث ماكسويل” في سنوات سبقت حادثة الطائرة، ويتضح من المقابلة أن “ماكسويل” كان ينتحل شخصية طبيب، وكان يقدّم في عيادته خدمات شبه مجانية للسكان الأفارقة الأصليين، وقد أكدت شهادات بعضهم من كبار السن حقيقة وجوده، وأنه كان يحقن مراجعي العيادة دون مقابل مادي بأمصال مضادة للأمراض.
التحقيقات الوثائقية ستُبيّن حقائق أخرى عنه، من بينها أنه كان جنديا مرتزقا شارك في معارك ضد حكومات أفريقية مستقلة حديثا، كما كان عنصريا، ولمنظمته أتباع من البيض يقدرون بعدة آلاف، وأنه عمِل في مختبر سري أمريكي قرب مدينة جوهانسبورغ مختص بالفيروسات المستخدمة في الأسلحة الجرثومية. كما يَرِد اسم ماكسويل في تقرير اللجنة الأفريقية كأحد المشاركين في “عملية سيلسته” السرية.
مُنفّذ العملية اسمه الحركي “كونغو ريد”، كما كشف عملاء وأعضاء هاربون من المنظمة قَبِلوا بتقديم معلومات للوثائقي بشرط عدم ذكر أسمائهم الصريحة خوفا على حياتهم، ومن بينهم “ألكسندر جونز” وهو من بين أهم الشهود في الوثائقي، حيث يذكر للوثائقي أن الخطة “أ” من “عملية سيلسته” كانت تستهدف نسف طائرة السكرتير العام للأمم المتحدة بعبوات ناسفة موقوتة وُضعت داخلها.
لم تنفجر العبوة فكان على “كونغو ريد” العمل على الخطة “ب”، التي تتضمن إعطاء الأوامر للطيار الحربي البلجيكي “يان فون ريسجيم” بملاحقة طائرة هامرشول وإسقاطها في الجو، وذلك قبل وصولها إلى الكونغو.
نجحت العملية وأُسقطت الطائرة كما كشفت أوراق مكتوبة بخط اليد عُثر عليها بين وثائق “كيث ماكسويل”، وهي وثائق مهمة توصّل إليها المحققان عبر عملية بحث مُضنية وخطيرة، وقد أكد أصدقاؤه وأعضاء سابقون في المنظمة صحة المعلومات التي جاءت فيها، وأن الطيار البلجيكي اعترف بنفسه لصديق قريب له بأنه هو من نفّذ العملية، وأنه غير نادم على فعلته.

الإيدز.. قتل جماعي بغير سلاح
في مسار بحثه عن الجريمة الغامضة، ينحرف مسار الوثائقي قليلا نحو قضايا تتعلق بممارسة المنظمة العنصرية “سايمر” التي اكتشفوها بالصدفة، وفي سياق البحث الذي جاؤوا من أجله.
لقد اتضح أن المخابرات البريطانية وحكومة جنوب أفريقيا العنصرية قد وضعا خطة لتدمير الشعوب الإفريقية المناهضة لوجودهم، وذلك عبر عملية قتل جماعي لا يستخدمون فيها سلاحا ناريا، فقد أرادوا نشر مرض نقص المناعة المكتسبة “الأيدز” بين السكان ليقضوا على أكبر عدد منهم، وذلك بعد أن فشلوا في إخضاعهم بالقوة، وأخذوا بعد استقلال دولهم يطالبون بخروج شركاتهم وإدارة شؤون بلادهم بأنفسهم.
كما عملت الدولتان على خلق بؤر توتر تشغل حكومات الدول المستقلة حديثا عن تحقيق برامجها الإنمائية المستقبلية، حيث كلفوا جنودا بيضا مرتزقة ومنظمات سرّية بالعمل من داخلها لتخريبها وإضعافها. كل تلك المعلومات جاءت عبر استقصاء وتحقيق لافتين قلّما يقوم بهما فيلم وثائقي وينجح في التوصل إليها.

“قضية هامرشولد الباردة”.. الأكبر أم الأغبى؟
في مُفتتحه يُخبر المخرج سكرتيرته كاتبة الطابعة (جاء بها ليُضفي مزيدا من البعد الروائي على وثائقيه) بأن فيلمه سيكون -لو حقق أغراضه- بحثا في أكبر عمليات القتل غموضا في العالم، أو سيكون الأكثر غباء في نظريات المؤامرة في حالة فشله، فماذا حقق “”قضية هامرشولد الباردة”؟
على المستوى التقني توصّل الفيلم إلى دليل مادي تمثَّل في القطعة المعدنية المتناثرة من هيكل الطائرة، والتي كانت عليها آثار أعيرة نارية لم ترد في تحقيقات الأمم المتحدة على الإطلاق. كما توصل إلى شهادات من سكان المنطقة التي وقعت فوقها الطائرة تؤكد ظهور طائرة صغيرة بجوار الطائرة المدنية من نوع “دي سي 6” في الجو، وسماع صوت دويّ قوي في السماء.
وقد قدّم الوثائقي أيضا معلومات عن تورّط الطيار البلجيكي الراحل “يان فون ريسجيم” في إسقاط الطائرة المدنية، فيما أكدت التحقيقات السابقة أن اسمه لم يكن ضمن أسماء الطيارين الخافرين في ليلة 18 سبتمبر/أيلول من عام 1961. وتضمَّن أيضا شهادة زميل له تفيد بأن التقرير الفني قد تم تزويره لتضليل المحققين، وأن الطيار نفسه اعترف لصديق مقرب إليه بتكليف جهة له بمهمة إسقاط الطائرة من دون إعلامه بالشخصيات الموجودة على متنها.

البحرية البريطانية.. ثياب بيض وأفعال سود
أثبت الوثائقي بما لا يقبل الشك وجود المنظمة السرية شبه العسكرية “سايمر”، وكشف دورها التخريبي في إفريقيا خلال حقبة “الأبارتيد”، وتأكيد ضلوعها في التخطيط لتصفية المسؤول الأممي، وذلك حسب ما ورد في تقرير “لجنة الحقائق والتسامح” الجنوب أفريقية.
كما يجلب الوثائقي -ولأول مرة- الكثير من أعضاء المنظمة السرية كشهود، من بينهم من شارك في اجتماعاتها السرية، بحضور “ماكسويل” الذي جاء مرة إلى إحدى احتفالاتها مرتديا زيّ بحرية أبيض، كالذي كان البحارة البريطانيون يرتدونه في القرن الثامن عشر، وذكروا أنه كان لا يغير لون ملابسه البيضاء أبدا.
كما كشف الوثائقي أن سلطة الأبارتيد في جنوب أفريقيا كانت على عِلم بنشاط المنظمة، وأنها كانت تدعمها في الخفاء، إلى جانب قوة صلات “سايمر” بالمخابرات البريطانية “إم 16”.
فضحت مذكرات “ماكسويل” التي سلّمها لوالدة شابة كانت تعمل معهم صلة الربط المرعبة بين المشاريع السرية لنشر الأيدز في أفريقيا وبين ظهوره، ثم انتشاره الواسع في أنحاء العالم خلال ثمانينيات القرن المنصرم. لكنها عندما حاولت كشف سرّ نشر فيروس “الأيدز” بين المواطنين السود قاموا بتصفيتها. في تلك المذكرات اعتراف صريح بتكليف المنظمة بمهمة تنفيذ عملية تصفية المسؤول الأممي مقابل حصولها على مبالغ كبيرة من أجهزة مخابرات دول لها مصالح في القارة الأفريقية من بينها بريطانيا.

“الكوتشينة”.. ألعاب السي آي أي
تخلص الشاهد “ألكسندر جونز” من أخطر الوثائق المتعلقة بالمنظمة عبر إحراقها، فأضاع على الوثائقي الرائع الكثير من الحقائق التي ربما كانت ستفضح المزيد من الخفايا والأسرار، ومن بينها سر وضع ورقة لعب “الكوتشينة” على ياقة قميص الضحية، والتي يحيلها الشاهد -دون تقديم أدلة كافية- إلى المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أي”، كونها كانت تستخدم ذلك الرمز “الموت” للإشارة إلى مسؤوليتها في تنفيذ بعض العمليات.
وفيما يخص رفيقه المحقق المتطوع “يوران بيوركدال” فقد أهداه بروجر الفصل/ المشهد الأخير من فيلمه، ويظهر فيه جالسا في قارب يتجه نحو جنوب القارة الأفريقية، وذلك بحثا عن مواقع المختبرات السرية التي كانت تُعد فيها فيروسات القتل المخيفة منذ أكثر من نصف قرن.