فتح مكة.. يوم أعز الله نبيه بالنصر المبين

وبلال أذن في العباد فرددت.. الله أكبر قمة الجوزاء

هذي ثمارك يا محمد أينعت.. والدين أورق داخل الأحشاء

العبد الحبشي يعلو سطح الكعبة

على سطح الكعبة البيت الحرام، وقف بلال الحبشي بقامته الفارعة في العشرين من رمضان وفي السنة الثامنة للهجرة، ليعلنها صادحة ترتجّ لها جبال مكة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله.

تجد مكةُ وأجيالُها -التي رفضت لأول مرة هذا النداء منذ انطلق قبل نحو عشرين عاما من فتح مكة- في صوت بلال صوتا مألوفا.. ألم يكن ذات يوم مولى أمية بن خلف، وكان يئن تحت لهب الصخر في حر مكة وهو يردد أحد أحد.. مقاوما قسوة سيد قريش الذي يريده أن يردد اسم اللات والعزى.

بلال.. من عبد حبشي يعذب في بطحاء مكة، إلى عزيز يرتقي الكعبة المشرفة يرفع فوقها أذان الفتح

نُكّست أعلام الشرك وارتفع للتوحيد زمن جديد، ردد بلال الأذان وأعلنها كلمة التوحيد صدّاحة في الآفاق، تغيرت الموازين إذن، وبدأ ترتيب جديد للمجتمع قوامه التقوى والقرب من الله، لا سدانة الأوثان ولا النسب القرشي الصميم.

كان بلال مثل مئات المسلمين الذين غادروا مكة مكرهين يعاني من تباريح الشوق إليها، وما إن وصل المدينة حتى تلقّته لافحات الحُمّى والضنى. وكان إذا اشتد عليه المرض رفع صوته في ليالي طيبة –وطنه الجديد– وهو يردد:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخِرٌ وجليلُ

وهل أَرِدَنْ يوما مياه مَجَنّةٍ
وهل تَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ

وتلك مواقع من مكة عرفها بلال وعرفته منذ أن نقلته إليها رياح الاسترقاق التي كانت سائدة في العالم يومها، ونقلته أجنحة الشوق إلى أن يكون صادح التوحيد ورنيم الإسلام.

أما النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فأشواقه إلى مكة بالأضعاف، قالها أكثر من مرة “لولا أن قومك أخرجوني ما خرجت”.

وعندما قَدِمَ أَصِيلٌ الْغِفَارِيُّ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟ قَالَ: عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا. قَالَتْ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: “يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟” قَالَ: وَاللَّهِ عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا، وَأَغْدَقَ إِذْخِرُهَا، وَأُسْلِتَ ثُمَامُهَا، وَأَمَشَّ سَلَمُهَا، فَقَالَ: “حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ، لا تُحْزِنَّا”.

الحديبية.. إنا فتحنا لك فتحا مبينا

انهارت قوة قريش منذ غزوة الخندق وكُسر الحصار الفاشل الذي ضربته أكثر قبائل الحجاز بتحريض من اليهود، وبدأ التسرب إلى الإسلام يأخذ في قادة الجيل الثاني من قريش.. برزت قيادات جديدة بعد قتلى غزوة بدر.

تم إجلاء اليهود من الحجاز وبقيت الطريق سالكة إلى مكة لتحريرها من سطوة الطغيان والأوثان، وإنهاء المنع الجائر ضد المسلمين من زيارة البيت الحرام الذي تحج إليه وفود العرب كل سنة.

مسجد الحديبية الذي بني بالقرب من شجرة بيعة الرضوان

ثم بعد ذلك جاء صلح الحديبية وقد تراجع بموجبه المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة ضمن شروط متعددة رأى فيها بعض المسلمين وقتها ليونة زائدة تجاه الكفار، ولكن صلح الحديبية الموقّع في السنة السادسة للهجرة بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقريش؛ كان بوابة نحو الفتح وطريقا سالكة نحوه.

وكان من بنود صلح الحديبية أن من أراد الدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت قبيلة “خزاعة” في عهد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ودخلت “بنو بكر” في عهد قريش.

ولئن كانت الحديبية بوابة لفتح مكة؛ فإن البوابة الأسرع إلى الفتح كانت نقض قريش للميثاق الذي واثقهم به النبي صلى الله عليه وسلم، حينما قاموا بمشاركة قبيلة بنو بكر في العدوان على قبيلة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.

عمرو بن سالم.. يستثير نخوة المسلمين وميثاقهم

استحرّ القتل في خزاعة حتى داخل الحرم، فخرج شيخ خزاعة عمرو بن سالم إلى المدينة المنورة ليُبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بجريمة قريش.

جاء عمرو بن سالم في مشهد مهيب، وفي جمع من قومه، وأنشد قصيدته التي يصف فيها كيف قتل القرشيون والبكريون شباب وكهول خزاعة غيلة وغدرا، وكيف قتلوهم ركّعا وسجدا.

يوم فتح مكة هو أحد أبرز أيام الإسلام، فُتحت مكة بالرعب وقوة الإيمان لا بالسلاح

استنهض ابن سالم الهمم المسلمة، وحرك أوتار العلاقات التاريخية بين خزاعة وبني هاشم، وحرك بنود العهد الوثيق.. فتحرك المسلمون في يوم 10 رمضان سنة 8 هجرية لفتح مكة بجيش قوامه عشرة آلاف جندي يقودهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وطلب من القبائل المسلمة حول المدينة (أسلم، ومزينة، وجهينة، وغفار، وسليم) الخروج معه، فلحق به منهم ألفا رجل، فصار مجموع جيش المسلمين 12 ألف جندي.

وبين الجيش مئات -إن لم يكن آلاف- القرشيين، وفيه أشتات من قبائل العرب كلها، جمعها الإسلام.. ها هي قريش تشرب من نفس الكأس، ألم تجمع العرب قبل ثلاث سنوات لا أكثر لتقضي على الإسلام؟ وها هم العرب الآن يجتمعون تحت راية التوحيد ويسيرون نحو مكة في كتائب تحمل أعلى سمات النبل والشرف في الحرب والسلام.

أحست قريش بالخطأ والخطيئة، فانطلق زعيمها السياسي أبو سفيان بن حرب إلى المدينة لينقذ الوضع ويحاول ترقيع الاتفاق الذي مزقته سيوف الغدر التي مزقت أجساد الخزاعيين.

وجد أبو سفيان الأمر مختلفا، لا أحد يستجيب له أو يتجاوب معه، لا أحد.. ولم يجد بدا من البحث عن جوار أو مُجير، ولكن الأحوال قد تغيرت والجيش الإسلامي قد عزم على الحسم.

وأخيرا حصل أبو سفيان على شيء يحفظ به ماء وجهه “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن”.. وهكذا يكون التأمين أولى خطوات الجيش الإسلامي وهو يسير بخطا تهتز لها الأرض.

بقيادة عكرمة بن أبي جهل، خرج شباب ورجال من قريش يحملون سيوفهم لمواجهة جيش المسلمين الفاتح

ولأن مهمة السلام والأمان كانت أبرز ما يسعى له الجيش الفاتح، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بلجم غضب سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يُعد لمذبحة في قريش انتقاما مما فعلوا به قبل ثماني سنوات من الضرب والإهانة والعذاب.

وتحكي لنا الروايات التاريخية أنه لَمَّا مَرَّ عَلَى أَبِي سُفَيْان، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ سَعْدٌ إِذْ نَظَرَ إِلَيْهِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةِ الأَنْصَارِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ؟ فَإِنَّهُ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرَّ بِنَا أَنَّهُ قَاتِلُنَا، أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ، فَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَرْحَمُهُمْ وَأَوْصَلُهُمْ.

وَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا”.

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الراية من سعد بن عبادة وأعطاها لابنه قيس.. وهكذا هدأت نفوس القرشيين من المسلمين، ولم يُثر الأمر نفسية سعد بن عباد، فالراية منه وإليه، من يمينه إلى يمين ابنه العبقري.

يوم الخَنْدَمَة.. مقاومة فاشلة

عاد أبو سفيان إلى مكة يحمل معه الأخبار المؤلمة؛ محمد وأصحابه على بوابة مكة ولا أمان لكم إلا “المسجد الحرام وبيوتكم وبيت أبي سفيان”. استفز الأمر زوجة الزعيم السيدة هند بنت عتبة وهي الموتورة يوم بدر بقتل أبيها وعمها وأخيها، وهي التي تحملت كل شيء من أجل أن تَقتل حمزة وتقتطع كبده الشريفة.. ها هي اليوم تسخُر من زوجها وتدعو قريشا إلى الحرب.. لكن بعد فوات الأوان.

خرج شباب ورجال من قريش يحملون سيوفهم لمواجهة جيش المسلمين -بقيادة عكرمة بن أبي جهل- رفضت الأمان وأرادت التصدي للمسلمين بالقوة، وعند المدخل تلقتهم كتيبة بقيادة خالد بن الوليد وحسمت أمرهم بسرعة بعد اشتباك محدود قُتل فيه أفراد قلائل من الجانبين، ثم انتهى بفرار فلول مجموعة قريش إلى بيوتهم ليأمنوا من القتل.

وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد قسم جيشه إلى ثلاثة أقسام: قسم أمّر عليه خالد بن الوليد وأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقسم أمّر عليه الزبير بن العوام -ومعه راية النبي محمد- وأمره أن يدخل مكة من أعلاها، وقسم أمّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره أن يسلك بطن الوادي. ووجّه الرسول أمراءَ الجيش الثلاثة بأن يكفّوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

وبعد الاشتباك الأولي المحدود عاد أكثر مقاتلي قريش إلى بيوتهم في مكة، ومن بينهم ذلك الذي كان يَعد زوجته بأنه سوف يجلب أسرى عديدين من جند محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا به يدخل البيت مرتاعا ويقول لها أغلقي عليّ الباب.. تساءلت ساخرة أين الأسرى؟ فردد بلسان الرعب:

إنكِ لو شاهدتِ يوم الخَنْدمَةْ
إذ فرّ صفوانُ وفر عكرمة
واستقلبتنا بالسيوف المُسلمة
يقطعن كلَّ ساعد وجمجة
لهم نَهِيتٌ خلفنا وحَمْحَمة
لم تنطقي في اللوم أدنى كَلِمة

وتدفق الجيش النبوي على مكة، وأشرقت جنبات البطحاء بيوم وعهد جديدين. دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راكب على ناقته القصواء، وقد أحنى هامته تواضعا لله.. ينظر إلى مكة التي يعرفها وتعرفه، عرفته الصادق الأمين كما عرفته النبي المرسل الذي كذب به قومها.. واليوم تعرفه الفاتح النبيل.

بدأت معركة التحرير والتطهير؛ بتكسير الأصنام المحيطة بالكعبة. كانت 360 وثنا يتوزع عليها قبائل العرب، يرونها أربابا من دون الله.. يعلقون عليها الآمال والهدايا والتعاويذ والبركات.

طُهرت مكة من الأصنام وأرسل النبي صلى الله جنوده إلى مراكز الأوثان الكبرى ليحطموها واحدا تلو الآخر، قُطع دابر اللات والعزى وهبل ومناة وسائر الأوثان التي عبدت في جزيرة العرب لمئات السنين، وحُرّمت الأصنام على تلك الجزيرة المطهرة أبد الآبدين.

دخلت مكة والرايات خافقة.. لو شئت أسلمتها للحرق والعدم

عفوت لما رأيت العين دامعة.. أخ كريم وأذروا عبرة الندم

يا منقذ الكون من جهل أحاط به.. لولا الهداية ما ثُرنا على الصنم

العفو النبيل.. لوشئت أسلمتها للحرق والعدم

كانت قريش تتوقع أن تتم معاملتها على سجلها الطويل من الإرهاب والعنف ضد المسلمين، أن تُفتح لها صفحة المحاسبة لعشرين سنة من الإرهاب، أن يعود المهاجرون لينتقموا ممن ظلمهم وحرّم عليهم هواء مكة وحر صيفها ونسيم ربيعها.. لكن شيئا من ذلك لم يقع.

نادى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أهل مكة: ما تظنون أني فاعل بكم؟
تغيرت اللهجة وجاء جواب جديد: خيرا.. أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء..
وهكذا جاء الفتح مرحمة لا ملحمة، ومكرمة لا عذابا، وعفوا لا انتقاما ولا إرهابا.

وزال الرعب وآبت القلوب إلى هدوئها، في مصالحة نبيلة بين التحرير والعفو، والفتح والإنسانية.

أخ كريم وابن أخ كريم

اذهبوا فأنتم الطلقاء

وضع النبي صلى الله عليه وسلم مكة ضمن سياقها الإسلامي؛ فأمّر عليها شابا من أبنائها اسمه عتاب بن أسيد، وأعاد إلى أهلها مكانتهم الاجتماعية وأدوارهم التاريخية.. أعاد إلى بني عبد الدار مفتاح الكعبة وقال “خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينازعكم فيها إلا ظالم”.. وعادت مكة إلى قداستها أرض النور التي لا يدخلها العنف ولا تأوي إليها الظلمة.

وعاد الجيش آئبا سالما غانما مآثر الحمد، كاتبا صفحات أخرى من الفتوح المحمدية التي رسمت في التاريخ كيف يجتمع السيف والإباء والرحمة في آن واحد وفي قلب واحد، وتحت راية واحدة.

يوم فتح مكة هو أحد أبرز أيام الإسلام، فُتحت مكة بالرعب وقوة الإيمان لا بالسلاح، لأن صوت الأذان كان أقوى من رهج الخيل، وكانت قوة الحق وعدالة الفاتحين أقوى من ركام سنوات الظلم.

ومنذ الفتح في العشرين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة، استقرت مكة منارة الإسلام وقبلته الأولى ومركزه الخالد، أول الحرمين وقطب الأرض وكعبة الإسلام.


إعلان