انتفاضة الحجارة.. حكايات تُروى إلى الأبد

يتوفر لدى مخرجي الأفلام التسجيلية مجموعة كبيرة من خيارات الشكل للتعبير للمشاهدين عن صحة ما يعرضونه لهم وأهميته. هذا ما تثبته المخرجة مريم شاهين عبر جزأين من فيلم “حكايات من انتفاضة الحجارة”، والذي عُرِض على شاشة الجزيرة في برنامج “فلسطين تحت المجهر”.

يمتلك الفيلم مقومات نجاح وتميز لا يمكن إغفالها، منها وجود شهود عيان معاصرين يمنحون الفيلم روحا مختلفة، وذلك بعيدا عن التنميط الإخباري والأصوات المعلبة في التعليق، فضلا عن توافر مواد أرشيفية بكثرة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه عند مناقشة هذه الأفلام التي تعالج أحداثا تاريخية ذات أثر في حياة أصحابها والآخرين؛ هل يستمد الفيلم بقاءه من صدق رواية الأحداث والحقائق الواردة فيه، أم أن الحكايات الإنسانية هي ما تُسهم ببقائه في ذاكرة المشاهد لفترة أطول؟

تقدم مريم شاهين الطرحين في جزأي الفيلم، فجاء الأول يميل إلى الحقائق الواضحة، وعدد ضخم من الضيوف تجاوز العشرين في 48 دقيقة، بالإضافة إلى صوت المُعلق الحاضر منذ الثانية الأولى.

جنرال إسرائيلي.. وجهة نظر الآخر

تكاد تختفي شهادات الشهود، فهي قليلة مقارنة بعدد الضيوف، حيث تعتمد شاهين في الجزء الأول على تحليلات الضيوف والتعليق المصحوب بالمواد الأرشيفية.

تسعى المخرجة لتقصّي وجهة نظر الطرف الآخر، فتستضيف جنرالا من الجيش الإسرائيلي كان أحد المسؤولين عن وحدة عسكرية خلال فترة الانتفاضة، ولا تأتي الأسئلة لدفعه إلى الحكم عليها، وإنما ليحكي كيف كان يفكر المسؤولون في جيش الاحتلال إبان هذه الفترة.

الإعداد والبحث كان أكثر من متميز في هذا الجزء، والتنسيق مع هذا العدد الكبير من الضيوف، وتوفير مواد أرشيفية ثرية وبجودة متميزة تجعل الفيلم يمتلك مقومات النجاح والتميز، لكن يبرز السؤال المشار إليه سابقا؛ هل يكفي أن يقدم الفيلم حقائق وتحليلات لحادثة هامة حتى يبقى في ذاكرة المشاهد؟

يبدو الجزء الأول باهتا خاليا من الحياة، فالوقائع يربطها صوتُ المعلق، وهو الصوت المحايد الإخباري

حكايات يرويها أصحابها

يبدو الجزء الأول باهتا خاليا من الحياة، فالوقائع يربطها صوتُ المعلق، وهو الصوت المحايد الإخباري، فلا يمكن أن تجد انحيازا ما في صوته، فهي محاولة لتكثيف أسباب اشتعال انتفاضة الحجارة، ووصف لكثير من أحداثها.

تتدارك شاهين هذا الأمر في الجزء الثاني من الفيلم، والذي يتواصل بثه 48 دقيقة أخرى، فعلى الرغم من أنها تبدأ هذا الجزء بتعليق يُنوّه بالقادم من الأحداث، فإن روحا جديدة يتم بثها في الفيلم، فالحكايات من أصحابها تصنع حالة من التآلف بين المشاهد -خاصة البعيد عن قلب الأحداث- وبين ما يُروى على الشاشة.

حكايات عديدة عن ممارسات المحتل؛ إغلاق المدارس ومصادرة كل الرموز الوطنية، وكل ما يحمل علم فلسطين حتى لو كان وسادة أو منديلا، الاعتقال العشوائي وفرض الضرائب، وإلزام الفلسطينيين في الضفة الغربية بضرائب جديدة، ومصادرة الأشرطة السمعية والسيارات.

بين أم المعتقلين والعملاء المتخابرين

حكايات نسمعها من أصحابها، يروون ما مروا به. سيسمع المشاهدُ الشاهدة عزيزة طاهر وهي أم لأحد المعتقلين تحكي كيف كانت تهرّب الرسائل من السجون، وسنعرف كيف كان المعتقلون يكتبون رسائلهم، صانعين أوراق الرسائل من ورق لفّ التبغ وفق الطريقة العربية.

تمنح مثل هذه الحكايات روحا مختلفة للفيلم، فتجعله أقرب إلى الدراما منه إلى فيلم يقدم حقائق مجردة، ومعلومات مرتبة في سياق زمني.

لا تكتفي شاهين بهذه الدفقة الدرامية داخل فيلمها، وإنما تشير الحكايات إلى وجود عملاء وخونة بين الفلسطينيين كان لهم دور في الإيقاع بالنشطاء في زمن الانتفاضة، فتنتقل شاهين لمقابلة تلفزيونية مع أحد هؤلاء الذين تعاونوا مع المحتل ضد الأهل والأصدقاء.

هذا العميل الذي يظهر ليُعلن فخره بتعاونه مع العدو، والذي يحكي عبد القادر الرجوب عن أحد من حاولوا اغتياله، ويصفه بكونه صديقا له، لكنه يوضح أن هذا الشخص قد مات وأنه (عبد القادر) حي.

تحليل الخطاب في هذا اللقاء له دلالة بالغة، فلا يعني بقاء العميل على قيد الحياة أن الخيانة فعل يمكن تبريره.

تمنح مثل هذه الحكايات روحا مختلفة للفيلم، فتجعله أقرب إلى الدراما منه إلى فيلم يقدم حقائق مجردة

رموز ودلالات

تحتشد الرموز والدلالات في الجزء الثاني من الفيلم، فلا تتوقف عند تحليل مضمون المقابلات التلفزيونية، وإنما تمتد إلى مشاهد ومواد أرشيفية، فعقب المقابلة مع العميل الذي وشى بأبناء وطنه، نجد لقطة تستمر على الشاشة لثوان، وهي عربة جيش إسرائيلية تضم معتقلين أيديهما مقيدة خلف الظهر، لكن كفي اليدين متماسكتان وقويتان، بينما ينظر كل معتقل إلى أعلى وإلى الأمام، في حين يجلس الجندي الإسرائيلي مُصوّبا بندقيته لظهريهما، ويده الأخرى تمسك سيجارة، وعيناه شاردتان.

سيحتفظ المشاهد في ذاكرته كيف فتح الفلسطينيون بيوتهم كمدارس لتعليم أبنائهم، وذلك حين أغلقت إسرائيل المدارس عقابا لهم بعد اشتعال الانتفاضة، وسيفكرون في قصة باكزة الجعبري وهي تقصّ كيف دخل متطرفون يهود إلى ساحة الأقصى، فقد كانت تُطل من شرفتها وشاهدت الفلسطينيين يدافعون عن الأقصى ضد هذه الفئة المتطرفة. سيمتلئ المشاهد غضبا من فخر خائن بخيانته، وسيفرح بصمود أمّ كان جُلّ أولادها معتقلين وهي تقضي أيامها بين السجون لتزورهم.

أنحاز إلى الجزء الثاني من فيلم “حكايات من زمن الانتفاضة”، فالحكي روح البقاء، فبينما يمكن تأويل الوثائق والوقائع وإعادة سرد الحدث وفق وجهة نظر مختلفة، تأتي روايات شهود العيان أمرا لا يُمكن تجاهله، وتواصلا ذا حسّ مميز، لعل ذلك ما يترك أثرا في النفوس عند سماع حكايات الجدة، يبقى طويلا ومميزا لدى الكثيرين عن قراءة الحكاية نفسها في كتاب.


إعلان