الربيع النبوي.. وُلد الهدى فالكائنات ضياء

إن الذي جاءه بالوحي جبريل

نال الربيع به فخرا وإبريل

ومنه قد نالت البطحاء منزلة

فرُدَّ عنها على أعقابه الفيل

جاءت أبابيل قوم المَلْك أبرهةٍ

فشُردت بهم طير أبابيل

ومنه طيبة قد طابت جوانبها

وشب فيها من النور القناديل

كانت تلك أنشودة الميلاد وأغاريد المديح التي أنشدها في ذكرى المولد الشاعر الموريتاني محمد ولد أحمد يوره (1845 – 1925)، ليطوي بها آماد الحدث الذي أشرق له جبين الزمان، وانفتحت له أبواب التاريخ، ولبس الكون له حلة جديدة من لباس التقوى وزاد الإيمان.

كعبة إبراهيم.. بيت الله الذي دنسه عمرو بن لُحي

لم يكن الربع الأول من سنة 57١ الميلادية فصلا عاديا في تاريخ البشرية، فقد تهيأت السيدة آمنة بنت وهب للمخاض، وتهيأ موعد جديد مع التاريخ لميلاد آخرِ وأعظم أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام.

كانت مكة تمور بالرجال والأوثان والقيم الحائدة عن الملة الإبراهيمية، وكانت العرب تبعا لمكة في أديانها، وكانت تتراص حول الكعبة المشرفة مئات الأوثان، وكل وثن هو رب قبيلة أو معبود عشيرة تهدي إليه من أموالها وتتمسح به في حجها وتسدي إليه القرب والنذور.

كانت الكعبة أول بيت وضع للناس، حيث وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾. (آل عمران، 96).

غير أن بيت الهداية هذا قد حولته العرب لقرون من الزمان إلى محطة للأصنام، منذ أن جاء الزعيم العربي عمرو بن لُحيَ الخزاعي بأصنام من الشام، بعد أن أعجبته التماثيل التي رأى الشاميين عكفا حولها يطوفون بها ويهدون لها.

تتحدث المصادر الإسلامية بإزراء وتوبيخ عظيم عن عمرو بن لحي الذي كان أول من أدخل الشرك بالله ونقض عروة التوحيد بعد أن كانت جزيرة العرب قرونا على ملة أبيها إبراهيم عليه السلام دينا خالصا قيما، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مصير عمرو بن لحي وسوء عاقبته، بقوله: رأيت عمرا بن عامر الخزاعي يجر قصبه -أمعاءه- في النار، فكان أول من سيّب السوائب.

عبد الله ثاني الذبيحين.. قصة الفداء الكبير

عندما عاد شيبة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي إلى مضارب قومه أهل البطحاء سادة مكة رفقة عمه المطلب بن عبد مناف، نادته قريش بعبد المطلب لسمرة لونه مثل أخواله آل النجار من الخزرج الأزديين، وهم سكان المدينة المنورة التي كانت تحمل يومها اسم يثرب.

وسرعان ما أبان الفتى عبد المطلب عن مقدرة وسيادة، ولم يزل يعظم قدره ويثير حسد أبناء عمومته من سائر قبائل قريش، ورغم ذلك لم يزل يسمو صعدا حتى نال سيادة البيت العتيق.

نذر عبد المطلب بعد ما مر عليه من صعاب إن رزقه الله عشرة أولاد ليذبحن أحدهم عند الكعبة قربانا لله، وقد توالت سلسلة الأبناء الأماجد من سلالة عبد المطلب، حتى إذا اكتملت الرجال العشر والبنات الست، دعا عبد المطلب قريشا كلها إلى البيت العتيق لكي يشهدوا وفاءه بالنذر.

حين ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، صاح يهودي في يثرب يا معشر يهود ظهر نجم أحمد

ثارت ثائرة قريش رفضا لهذا القرار، وبعد لَأي قرروا فداء الذبيح بعشر من الإبل، ووضعت القداح وبدأ الاقتراع، وكلما ضربت قداح الاقتراع خرج اسم عبد الله، فيخرج عبد المطلب عشرا من الإبل فداء له، وفي الدورة العاشرة وبعد أن اكتملت مئة الإبل، خرج السهم على الإبل ونجا عبد الله من الذبح، ثم استقرت بعد ذلك دية الإنسان المقتول خطأ في تعاليم الإسلام على أنها مئة من الإبل أو ما يعادل ثمنها.

“ذهب النور الذي كان عليك”.. حمل في البيت السعيد

خرج عبد الله بن عبد المطلب من معركة القداح منتصرا، وعاد إلى سرب الحياة بعد أن كادت مدية عبد المطلب أن تقضي عليه بسبب نذر جاهلي، وأصبح كما أمسى أحد أشهر وأهم وأجمل فتيان قريش.

كان عبد الله أزهر الوجه لألاء الجبين، ينساب بين عينيه نور النبوة، وقسيم آلاء العتاقة والجلال، فقد رسمت الأقدار على وجنتيه هالة من بريق البهاء، فخلب ألباب فتيات قريش، وتمنت كل واحدة منهن أن يكون زوجها المنتظر.

من خلال البرمجيات الفلكية، يمكن التحقق من دقة الحوادث الفلكية التاريخية

حتى إن إحدى فتيات مكة دعته إلى الزواج صراحة، فاعتذر لها بأن والده قد خطب له فتاة من أرومة المجد والفضل من بني زهرة القرشيين، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وكانت سيدة فتيات المدينة في عصرها جمالا ومكانة ونسبا.

وقد جرى العرس البهيج في مكة، فتداعت إليه السادات وجرى العقد على وفق الملة الإبراهيمية السمحاء، وتداعت النسوان إلى العروس الرزان يزينها لزوجها الوسيم القسيم، وتداعى أطفال البطحاء وفتياتها يرافقن موكب العروس بالأغاريد والأهازيج، والكون ينشد معهم مهيب التراتيل إيذانا ببناء بيت النبوة ومهاد العظمة، وجلال الأخلاق الذي سينجب بين قواعده وأركانه محمدا بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مضت أيام العرس البهيج، وعاد عبد الله بن عبد المطلب إلى سربه من أعمال مكة ومجالس شبابها، ولقي الفتاة المكية من جديد، فاستفسرها عما دعته إليه من زواج قبل ذلك، فأعادت النظر كرة أو اثنين إلى جبنيه الوضاء، ثم قالت له: ذهب النور الذي كان معك.

عام الفيل.. “أنا رب الإبل، وللبيت رب سيحميه”

لم يكن لطموح أبرهة الحاكم الحبشي لليمن أي حد ولا سقف، ولذلك قرر ضمن طموحاته المجنحة أن يحول العرب عن حج الكعبة المشرفة إلى كنيسته التي بناها وسماها القليس، وقد ضجت فورة العز في عروق الإنسان العربي في مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وقرر أحد الأعراب أن يلوث البيت المقدس الجديد، فملأه رجيعا وعذرة.

انتفض أبرهة انتقاما لكنيسته المدنسة، وسار بجيش من الفيلة المدربة على القتال، باتجاه مكة، ولم تصمد أمامه بعض المفارز العربية التي سارت لتصده عن مكة، وعند مكان اسمه المغمس بين مكة والطائف، استولى أبرهة على إبل لسيد مكة عبد المطلب بن هاشم، ولم يطل الانتظار فقد جاء ابن هاشم يريد استعادة إبله، ودار حوار غير طويل بين الرجلين، أظهر فيه أبرهة تفاجأه من مطالب عبد المطلب المنحصرة في استعادة الإبل، فرد عليه ابن هاشم: أنا رب الإبل، وللبيت رب سيحميه.

كانت قوة أبرهة أقوى وأشد من قوة قريش وسائر العرب، وعندما أحس عبد المطلب بعجزه أمام جبروت الطاغية الحبشي، وقف بالبيت يرتجز ويدعو:

لاهُمَّ إن العبد يمـ ** ــنع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصليـ ** ــب وعابديه اليوم آلك

حاول أبرهة الأشرم هدم الكعبة بفيل عظيم، فجاء عذاب الله من السماء بالطير الأبابيل

تدخلت القوة الكونية الأعلى، فرفض الفيل الكبير -واسمه محمود- أن يتجه إلى البيت العتيق كما تروي كتب السيرة النبوية، وكان كلما توجه إلى جهة أخرى سار إليها صعدا إلا جهة الحرم، فقد كان مصرا على أن لا يكون شريكا في مسعى هدم البيت الحرام.

ولم يطل الانتظار فقد حمى رب البيت بيته، ودارت على أبرهة دائرة الموت الزؤام، بعد أن فتحت السماء أبوابها بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، وفق ما خلدته سورة الفيل التي جعلت تلك القصة الخالدة ذكرى نبوية تتلى آناء الليل وأطراف النهار.

ومع تلك الهزيمة المدوية لجيش أبرهة الذي تناثرت أشلاؤه وتطايرت تحت قصف الطير الأبابيل، حمل تلك الذكرى اسم عام الفيل، وكانت أياما قليلة لا تتجاوز الخمسين قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفق ما أثبته التاريخ وحساب الفلك والأيام بعد ذلك.

خمود النار وإشراق النور.. إرهاصات ميلاد عظيم

صاحبت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أحداث جسام قرأتها القوى الدينية في عهده على أنها مبشرات بميلاد النبي الموعود الذي كان العالم على موعد مع بزوغ نجمه.

كان إيوان كسرى على عظمته ومكانته على موعد مع زلزال عظيم، أسقط أربعة عشر شرفة من شرفات القصر المنيف، ومع ميلاد الدولة الإسلامية تساقط أيضا عبر الحكم أربعة عشر كسرى من ملوك فارس، وكان آخرهم يزدجر الذي قتله المسلمون، وبه أنهوا حكم مملكة فارس.

ولم تكن نار فارس التي يعبدونها بمنجى من إرصاهات الحدث العظيم، فقد خمدت فجأة بعد أن استمر شعاعها واتقادها طيلة ألف سنة قبل ذلك، وغاضت بحيرة ساوى في العراق بعد أن كانت لقرون عتيدة ملتقى أمواج ومجرى سيول دائمة.

نار المجوس التي كانت تعبد في بلاد فارس ولا تزال لها طقوس حتى يومنا هذا، لم تنطفئ إلا يوم مولد النبي

أما لحظة مولده صلى الله عليه وسلم فقد كانت لحظة فارقة كما تروي كتب السيرة النبوية حيث يروى عن أمه آمنة أنها قالت: رأيت لما وضعتُه نورا بدا مني ساطعا حتى أفزعني ولم أر شيئا مما يراه النساء.

كان النور مرافقا للبدر المنير صلى الله عليه وسلم، فقد حدثت أمه قائلة: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى لأقول: لتقعنّ علي.

ولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كاملا معذورا مسرورا محلقا إلى السماء، يشير بأصبعه السبابة كأنه يسبح بها، ولم يكن غريبا أن يكون ميلاد منقذ البشرية وخاتم الرسل مختلفا عن بقية ما عرفه الناس أو ألفوه في ميلاد البشر، فقد كان صلى الله عليه وسلم مختلفا عن العالم وصرخة في التاريخ تدعو إلى إنقاذ البشرية من وحل الخطيئة والضلالات الآسنة.

“ذلك يوم ولدتُ فيه”.. بداية رحلة أعظم الأيتام في التاريخ

لم يضبط مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بدقة متناهية، فثمة أقوال متعددة بشأن يوم ميلاده، ولا شك أنه كان يوم الاثنين قطعا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ذلك يوم ولدت فيه.

لكن المؤرخين وكتاب السيرة النبوية نقلوا كثيرا من الأقوال في الشهر واليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، فروى ابن كثير أنه ولد يوم اثنين من ربيع الأول، وقيل في اليوم الثاني عشر من نفس الشهر، وهو اليوم الأكثر شهرة بين المسلمين على أنه يوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.

بينما يرى محققون من أهل الفلك والحساب الزمني، أن الراجح بالفعل أن يكون قد ولد يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول الموافق للثاني والعشرين من أبريل/نيسان 571 ميلادية، وفق ما حققه العلامة المصري المرحوم محمود باشا الفلكي المتوفى سنة 1885 وتابعه بذلك عدد كبير من الفلكيين، وكان مولده في دار عمه أبي طالب بشعب بني هاشم.

ولم تكتحل عينا عبد الله برؤية ابنه الذي سيغير العالم، ولا اكتحلت عينا النبي الوليد برؤية والده عبد الله الذي تخطفته المنون شابا عند أخواله في الطريق إلى المدينة المنورة.

ثم لم تلبث أمه أن توفيت هي الأخرى في طريقها لزيارة قبر زوجها الراحل، فدفنت بالأبواء على طريق المدينة المنورة، وبهذا فقد النبي الكريم الوالدين وهو في عامه السادس وذاق طعم اليتم، وكأن القدر يهيئه لأن يكون أبا اليتامى وثِمال الأرامل والمساكين.

عيد المولد النبوي.. صُنع في العراق وترعرع في مصر

يحتفل المسلمون منذ قرون بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أولى الاحتفالات في عهد الفاطميين على أحد أقوال التاريخ الإسلامي، بينما يرى الإمام السيوطي أن البداية كانت من مدينة أربيل العراقية، حيث جعل أحد حكامها الاحتفال بيوم الميلاد عيدا يتنافس فيه الناس بتمجيد الذكرى والاحتفاء بصاحبها المعظم صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان بعض العلماء المسلمين قد شكك في شرعية الاحتفال بهذا اليوم باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحتفلوا به، فإن علماء آخرين كثر من مختلف الأقطار والأجيال الإسلامية رأوا فيه أعظم مواسم الفرح الإسلامية وأسمى مقامات الذكرى النبوية.

ومن هؤلاء العلماء مفتي تونس وعالمها الكبير محمد الطاهر بن عاشور الذي رأى أن “ما يملأ قلوب المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام من ناموس المحبة العلوي، وما يهز نفوسهم من الفيض النوراني المتدفق جمالا وجلالا، ليأتي إليهم محملا من ذكريات القرون الخالية بأريج طيب ينم عما كان لأسلافهم الكرام من العناية بذلك اليوم التاريخي الأعظم، وما ابتكروا لإظهار التعلق به وإعلاء تمجيده من مظاهر الاحتفالات، فتتطلع النفوس إلى استقصاء خبر تلك الأيام الزهراء والليالي الغراء، إذ المسلمون ملوك وسوقة يتسابقون إلى الوفاء بالمستطاع من حقوق ذلك اليوم السعيد”.

هو إذن اليوم السعيد والذكرى الآسرة للقلوب وعنوان المحبة الأزلي، ومن صدف الأيام وغرائب الموافقات أن يأتي المولد اليوم متزامنا مع حملة الإساءة الواسعة التي انطلقت من صحيفة فرنسية، قبل أن تأخذ شكلها الرسمي في إساءة باسم الدولة والنظام إلى أمة تزيد على المليارين، وإلى أعظم رجل لهج التاريخ بذكره، وتحولت الأيام إلى كتاب لتمجيده بعد أن مجده القرآن الكريم بمديح رباني خالد ﴿وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (الآية 4، سورة القلم)، وبعد أن ضمخ الزمان نشيد المحبة الخالد:

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناء


إعلان