تحرير الجزائر.. تخبطات عنيفة لأفعى تحتضر
تفتح الجزيرة الوثائقية ملف احتلال الجزائر في سلسلة من ثلاث حلقات تعرض فيها وثائق هامة وتوثق شهادات شهود عيان للمذابح والمجازر التي اقترفها الفرنسيون بحق أصحاب البلاد والتي قادت إلى الثورة ومن ثم الاستقلال في يوليو/تموز 1962.
وتبحث الحلقة الثانية منه مجموعة من الوثائق السرية والشهادات التي وثّقت لانطلاق جبهة التحرير الوطني وصدور بيانها الأول، ثم مؤتمر الصومام وأهم مخرجاته، وتفتح ملف التعذيب والاعتقال والتغييب القسري أثناء معركة الجزائر وأخيرا الإضراب الكبير.
بيان الثورة الأول.. انطلاق شرارة التحرير
“لا شيء سيوقف حركتنا الثورية التي بدأناها”. بهذه الكلمات الحاسمة، أطلق أحمد بن بلة الشرارة لحرب التحرير الشاملة التي ستتوج بعد ثماني سنين قاسية بالنصر والتمكين وجلاء المحتل الفرنسي وتحرير كامل التراب الجزائري.
وكان أبرز ما جاء في بيان جبهة التحرير الوطني الصادر في الأول من نوفمبر/تشرين ثاني عام 1954 ما يلي:
الهدف: الاستقلال الوطني
الهدف الداخلي: تجميع وتنظيم كل الطاقات الجزائرية السليمة من أجل تصفية النظام الاستعماري.
الأهداف الخارجية: تدويل القضية الجزائرية.
وسائل الكفاح: سنواصل الكفاح بكل الوسائل المتاحة حتى تحقيق أهدافنا.
ليلة الثورة الأولى.. تهديد جدي للوجود الفرنسي
وفي أول ليلة للثورة، شهدت خمس مناطق تحركات منظمة للمقاومة الجزائرية وثلاثين عملية ضد القوات الفرنسية، وكانت كلمة السر “خالد وعُقبة”، وهذه المناطق هي:
1- الأوراس بقيادة مصطفى بن بوالعيد.
2- الشمال القسطنطيني بقيادة بدوش مراد.
3- منطقة القبائل بقيادة كريم بلقاسم.
4- منطقة الوسط بقيادة رابح بيطاط.
5- الغرب الوهراني بقيادة العربي بن مهيدي.
يقول المؤرخ الفرنسي “بنجامين ستورا”: ما ميز ثورة الأول من نوفمبر/تشرين أول 1954 هو شمول كافة مناطق البلاد وكافة أطياف الشعب في ثورة منظمة، وقبل ذلك كانت هنالك ثورات مناطقية غير منظمة، ولكن في هذه المرة أراد القادة أن يقولوا للعالم إن كل الشعب الجزائري يرفض استمرار الاحتلال.
في وثيقة سرية فرنسية صدرت في ديسمبر/ كانون الأول 1954 كانت عبارة عن تقرير عسكري يُجمِل الأوضاع في مستعمرات شمال أفريقيا: ما زلنا لا نعرف العدد الحقيقي لهم، لكننا نجري تقييما للأوضاع بناء على التحركات التي تجري على الساحة، وبفضل ردود أفعالنا المدروسة خفضنا التهديدات التي تستهدف وجودنا في الجزائر، ولكن هذا التقدم لا يكفي حتى نقضي على الخصوم كلهم.
وهذا التقرير يثبت أن فرنسا كانت على دراية تامة أن هذه التحركات الثورية الشاملة لا تشبه ما قبلها من التحركات المحدودة.
ويصف العربي الزبيري بيان نوفمبر/تشرين ثاني 1954 أنه كان حوصلة ذكية لأدبيات الثورة التي ستصبح فيما بعد بمثابة الدستور الذي ستجتمع عليه الأمة بكل أطيافها، وقد ارتكز البيان على الأسس الجوهرية التالية:
– تطوير وسائل الكفاح، وعلى رأسها التسلح.
– تدويل القضية الجزائرية.
– المفاوضات على أساس السيادة الجزائرية.
مصادر التسلح.. مصر تُلقي بثقلها
بالعودة إلى “ستورا” يوضح المؤرخ الحاجات الملحة للجبهة بعد إعلان معركة التحرير قائلا: كان الشغل الشاغل بعد إعلان الثورة هو البحث عن مصادر التسليح، فقبل الثورة كانت التحركات على شكل احتجاجات ومظاهرات ومفاوضات، أما الآن فقد اختلف الوضع، من هنا كان لا بد من وضع الأحداث في سياقها التاريخي، فليست الجزائر وحدها هي التي اختارت طريق العنف في النضال، فقد عاصرتها كذلك الثورة الكوبية في أمريكا الوسطى، والثورة الفيتنامية في آسيا.
وحول الدعم المصري للجبهة فقد صدرت وثيقة سرية فرنسية في أكتوبر/تشرين الأول 1956، وهي تقرير شامل بتدخلات مصر في شمال أفريقيا، وقد جاء فيها: في يناير/كانون الثاني 1956 اعترضت القوات الفرنسية قافلة محملة بالأسلحة والذخائر متوجهة من قفصة في تونس إلى مناطق الأوراس الجزائرية، وقد أكدت التحقيقات أن مصر هي مصدر هذه الذخائر.
وتعلّق “سيلفي تينو” مسؤولة الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية، على الدعم المصري فتقول إن ما يدفع دولا بعينها لدعم الثورة الجزائرية هو أغراض سياسية، وقد تكون أيديولوجية، فعبد الناصر الذي كان يسوّق للقومية العربية، كان يطمع أن يكون الزعيم الأوحد لكل الدول العربية التي ستنضوي تحت رايته القومية، بينما الاتحاد السوفياتي لم يدعم الثورة، بل كان حانقا من كمية الدعم التي تتلقاها الثورة من الولايات المتحدة، وهذا كان يُغضب فرنسا من باب أولى، كما أن الصين كانت تدعم الثورة أيضا.
وقد أقدم الفرنسيون لاحقا على إغلاق الحدود بين الجزائر وتونس للحدّ من تهريب السلاح المصري إلى الأوراس والقبائل، واستمرت عمليات القرصنة الفرنسية، ففي وقت كان فيه آية أحمد وبوضياف وبن بلة في طريقهم من المغرب إلى تونس على متن طائرة مغربية، نفذت ثلاث طائرات فرنسية عملية قرصنة لاختطاف الطائرة المغربية واعتقال الزعامات التي عليها، وظلوا رهن الاعتقال حتى وُقعت اتفاقية وقف إطلاق النار في آذار 1962.
العدوان الثلاثي.. نكاية الفرنسيين بمصر
أثارت ردود الفعل الدولية على هذه العملية غضب فرنسا، ففي وثيقة من الممثل الفرنسي في منظمة الأمم المتحدة إلى وزير الخارجية “بينو” في أكتوبر/تشرين الأول 1956 توضح فرنسا تداعيات اعتقال هؤلاء القادة بما نصه: إن البيان الصادر عن مجموعة الدول الأفريقية الآسيوية وصف الفعل الفرنسي بأنه عمل استبدادي سيؤدي إلى تعكير إضافي للسلام وإلى زعزعة الأمن في شمال أفريقيا، كما أن ردود الفعل الأولية ليست في صالح فرنسا، ومن شأنها أن تعيق تقدم الجزائريين في الحصول على حقوقهم المشروعة.
ونلقي نظرة على الأوضاع في مصر، فبعد أسبوع فقط من اختطاف الطائرة، صدر قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، وعلى إثرها انطلق العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة فرنسا وبريطانيا وإسرائيل المحتلة في نوفمبر/تشرين ثاني 1956.
وقد يتساءل البعض عن سبب مشاركة فرنسا في هذا العدوان، والواقع أن ما كان يؤرق الفرنسيين من مصر، هو أنهم كانوا لا يريدون من الجزائريين الشعور بأي انتماء وطني أو قومي، وكانت الدعاية المصرية تؤجج فيهم هذه المشاعر، ولذلك فقد دعم الفرنسيون عدوان 1956 بقوة ضد مصر.
معركة الجزائر.. أولى نتائج مؤتمر الصومام
عقدت الجبهة مؤتمر الصومام، في أغسطس 1956، وأفرز هذا المؤتمر الهام توجهات مفصلية في مسار الثورة، وكان ذلك باجتماع ممثلين من قيادة الثورة، وكان من أهم ما صدر عن هذا الاجتماع:
– توحيد القيادة بعد القيادة الجماعية حسب المناطق.
– المجلس الوطني للثورة، ولجنة التنسيق والتنفيذ.
– توحيد الرتب العسكرية.
– إعادة تقسيم المناطق جغرافيا وأسموها الولايات.
كان من أهم ثمرات مؤتمر الصومام، ما أطلق عليه فيما بعد “معركة الجزائر” التي تشمل كل أعمال المقاومة منذ تاريخ المؤتمر وحتى سبتمبر/أيلول من عام 1957. يقول “ستورا”: معركة الجزائر ذات أهمية خاصة لكونها نقلت المعركة إلى داخل المدن، وخصوصا الجزائر العاصمة، وهو ما أغضب السطات الفرنسية وأحرجها أمام الرأي العام في ذات الوقت، فكان لزاما عليها أن تخوض المعركة أو تخسرها.
ويتابع “ستورا”: دخل الفرنسيون هذه المعركة بطريقة عنيفة ومتطرفة، وقاتلوا جبهة التحرير ممثلة بقائدها الميداني ياسف سعدي آنذاك، كانت المعركة مروعة جدا، وفضحت وجه الاحتلال البشع للقوات الفرنسية، ليس بسبب موجات التعذيب الجماعي التي كان يتعرض لها المواطنون فحسب، بل كذلك بسبب الاختطاف والإخفاء القسري لآلاف الجزائريين، والإعدام الجماعي خارج نطاق القانون.
معركة الجزائر والإضراب الكبير.. الوحشية الفرنسية بدون ماكياج
يصف عمرو عبد القادر أحد مجاهدي معركة الجزائر ما حدث معه خلال معركة الجزائر وما تبعها من أحداث قائلا: كنت في الجزائر العاصمة حينها، وكان عمري 19 عاما، وقد أوقفتُ من قبل الجيش الفرنسي، ونُقلت إلى مراكز التعذيب، وكان بن مهيدي لا يبعد عني أكثر من 200 متر، وكان كذلك ياسف سعدي وعلي لابوانت، وكان هناك قيادة منظمة، ولولا ذلك لما نجح الإضراب.
يقول المحامي “جاك فيرجيس”: دخلتُ الجزائر أثناء المعركة، وكان قد قُبض على جميع المحامين الجزائريين، وكانوا يسمونهم المحامين المسلمين، وتم تعيين محامين من اليسار الفرنسي، كان كل همنا أن نوقف عقوبة الإعدام، فهؤلاء قضاة عسكريون لا يهمهم موضوع الرأي العام، ولا سبيل إلى التفاهم معهم على شيء، فعملنا على إثارة الرأي العام ضد الحكومة حتى نمنع الإعدام، وهذا ما دعّم موقفنا.
قتل الثائر ومحاميه.. تسريبات في مذكرات الضباط
يقول المحامي “جاك فيرجيس”: كانت هنالك أوامر صريحة من رئيس الحكومة الفرنسية بتصفية المحامين، وهذا ما حدث للمحامي “أنقران ولد أوديه”، فقد قتلوه بطريقة سرية كما يفعل قطاع الطرق واللصوص، أما علي بومنجل فقد عُذب وأُلقي به من الطابق السادس، وادّعوا أنه انتحر، ولكن الضابط الذي عذّبه كتب في مذكراته أنه ألقى به من النافذة، وغيرهم العشرات من المحامين، وهذا يدعو إلى ذاكرتي ثلاثة محامين قُتلوا في ظروف مشابهة، كانوا يدافعون عن صدام حسين.
في الوقت نفسه، كان الجنود الفرنسيون يحطّمون أبواب المحال التجارية ويفتحونها عنوة، ويدهمون البيوت لإجبار التجار والعمال على التوجه إلى أعمالهم، ويعتقلون كل من تحوم حوله أدنى شبهة بأنه يباشر أعمالا عدائية ضد المحتل.
كان الهدف الرئيس من معركة الجزائر، والإضراب العام، هو أن تتقدم جبهة التحرير خطوة في مجال تدويل القضية الجزائرية، فهي تقدم نفسها على أنها الممثل الشرعي للشعب، وأنها المسيطرة على زمام الأمور في الشارع الجزائري، وقد كان لها ما أرادت، كما سنرى في الحلقة القادمة.
قرية بوسيف.. مجزرة كبرى في صفوف العزّل
وجد إعلان حرب التحرير الشاملة في 1954 صدى في كل مناطق الجزائر، واشتبك المجاهدون مع جنود المحتل على أكثر من جبهة، نذكر منها:
– الولاية الأولى: معركة جبل آرقو في يوليو/تموز 1956.
– الولاية الثانية: معركة واد بوكركر سبتمبر/أيلول 1956.
– الولاية الثالثة: معركة قرية ملّوزة مايو/أيار 1957.
– الولاية الرابعة: معركة جبل باب البكوش في مايو/أيار 1958، ودامت 3 أيام وانتهت بانتصار الثوار.
– الولاية الخامسة: معركة جبل عمّور أكتوبر/تشرين أول 1956.
كانت فرنسا تحارب التسلح الآتي من جميع جهات العالم، ودمّرت قرى حدودية عن بكرة أبيها لمجرد شبهة مرور الأسلحة عبر أراضيها، وشهدت قرية سيدي يوسف على الحدود مع تونس في فبراير 1958، واحدة من أبشع المجازر فقد دُمّرت بالكامل وأودى الدمار بحياة 79 مدنيا أعزل، بينهم 11 امرأة و20 طفلا، هذا المجزرة التي غيرت مجرى الأحداث، وفاقمت غضب الرأي العام العالمي على انتهاكات الجيش الفرنسي.
التفاف الجزائريين حول الثورة.. هزيمة معنوية في فرنسا
على الرغم من كل هذا القمع الذي مارسه الجيش الفرنسي فقد صدرت وثيقة فرنسية، توضح أن “الجبهة استكملت تسليحها إلى حد كبير عبر التهريب، وأن دولا عديدة شاركت في التسليح مثل ليبيا وتونس والمغرب ومصر وروسيا ويوغوسلافيا والصين وايطاليا وألمانيا الغربية”.
ويُجمل المؤرخ “ستورا” نتائج معركة الجزائر قائلا: كان يظهر أن النصر العسكري فرنسي، غير أن معنويات الجزائريين والتفافهم حول قضايا التعذيب والمخطوفين والمعتقلين جعلهم يلملمون جراحهم ويعودون بقوة مرة أخرى في عام 1960 من خلال مظاهرات ديسمبر/كانون الأول، بينما في فرنسا كانت الروح المعنوية في أدنى مستوياتها بسبب انتهاكات وفضائح الجيش في الجزائر، وكان هناك صراع مستعر بين الطبقات السياسية بعد الصورة المشينة التي ظهرت بها فرنسا دوليا.
وفي الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة، سوف نسلط الضوء على مرحلة تدويل القضية الجزائرية، ومن بعدها إعلان الاستقلال وجلاء المستعمر، بعد أن قدّم الجزائريون على مدى 132 عاما زهاء مليون ونصف من الشهداء، ودمارا مخيفا في كافة مرافق الحياة الجزائرية.