“المغنّي”.. شَدْوٌ حزين في كنف حَجّاج العصر
لما مات عبد الملك بن مروان وقف الحجاج بن يوسف في الناس ساعة يتفحص الوجوه ثم قال في خطبة شهيرة “من تكلم قتلناه ومن سكت مات بدائه غمّا”. ومن سخرية الأقدار أن الحجاج لم يكن واليا متغطرسا تقلد حُكم العراق في ظل الدولة الأموية أواخر القرن الأول للهجرة فحسب، بل إنه تحول إلى دور ظل يتقمصه حكام عديدون تفنّنوا في الاستبداد على مر تاريخ العراق، وظل المحكومون يتكلّمون فيقتلون، كما ظل الصامتون يموتون بغمّهم حتى جاد التاريخ بنسخته الأخيرة منه. لقد كان “المنصور بالله” صدام حسين المجيد آخر متقمصي هذا الدور، وتقمص أبرياء يُعدّون بالملايين دور الضحية.
وكأن المبدع العراقي استعذب الحكاية فنقل اللعبة من الواقع إلى الخيال والقص الأدبي، والنماذج أكثر من أن تحصى، وكان للسينما نصيبها من اللعبة، كيف لا والأمر يتعلق بلعب وتقمص حكايات تؤلم وتدهش وتستفز عناية المتقبل؟ فجعل فيلم “المغني” بشار البصري آخر ضحايا حجاج العصر الحديث، ولكن بشّارا هذا تكلم على خلاف السابقين ولم يقتله حجاجنا.
لقد جعله يموت بدائه غمّا، فقد صدرت أوامر المنصور العليا بأن يغني ووجهه إلى الجدار، فكان يشدو على إيقاع الرصاص، وعلى ضفاف برك من دماء، في حكاية يختلط فيها الواقع بالخيال على نحو لا يحسن حياكته إلا المخرج العراقي قاسم حول.
صحبة السلطان خطر عظيم
لا شك أنّ وصفنا لقاسم حول بالرجل الرحالة لا يحتاج إلى إثبات، فهو يرتحل بين الفنون بلا تأشيرة سفر، فيكتب السيناريو ويُخرج الفيلم ويكتب النص المسرحي ويخرجه ويمثل ويكتب الرواية وينقد الأعمال الفنية.
يرتحل في عالم السياسة فيصطدم بنظام البعث، ويستشعر رغبة في تدجينه ليكون بوق دعاية له فيهرب خارج الحدود وينضمّ إلى الجبهة الشعبية ويعمل إلى جانب غسان كنفاني بعد أن يستقرّ في لبنان، ثم يرتحل إلى اليمن فليبيا، وهناك يصطدم بمحاولة حاكم آخر لاستقطابه.
يقول في حوار مع الجزيرة الوثائقية: لست بهاو للسياسة، ولكن للضرورة أحكام. عندما رفَضت دكتاتورية صدام حسين، أبدلتها بحلم الثورة الفلسطينية وأخرجت فيلم “عائد إلى حيفا” وأنشأت قسما للسينما في مسار الثورة، ولعبتْ أفلامي دورا في حلم لست وحدي الذي أعيش جماله، ثم وجدت نفسي في موقع إقامة القذافي بمنطقة العزيزية.
ويتابع: جلست معه وبعد دقائق طلب القذافي من وزير الثقافة أن يتركنا وحدنا نتحدث، جلست معه ساعة ونصف الساعة، واعترف لي بأنه كاتب القصة، وأنه يقترحني أن أحولها إلى فيلم سينمائي طويل، وأن أكون أنا مخرجها بميزانية مقدارها ثمانية عشر مليون دولار.
لم يعدم قاسم حول الحيلة هذه المرة ليتخلص من التدجين، وغادر ليبيا وأقام في هولندا وحصل على جنسيتها، ولعل صدى الترحال بين الفنون والترحال في عالم السياسة كان مقدرا له أن يتجلى في فيلم “المغني” فتجتمع السينما بالمسرح وبالموسيقى والغناء في قاع سياسي حالك متدهور.
صحبة السلطان.. هجاء سياسي
تُصَور أحداث الفيلم في أحد منتجعات صدام بمجمع قصور البصرة، احتفالا بعيد ميلاد رئيس عسكري لا نعرف اسمه، يجلس المدعوون إلى طاولات تسلط عليها كاميرات تنقل تفاعلاتهم لغرفة مراقبة تحصي عليهم حركاتهم وسكناتهم، لكن بشار البصري المطرب الذي يعشق الديكتاتورُ صوته ويرشحه لإحياء الحفل يتأخر لعطب طرأ على سيارته، ولا يصل إلا بعد مغامرات.
ولأن هذا العسكري رئيس رحيم عاشق للفن ولصوت بشار يعاقبه عقابا لطيفا، فيأمره بأن يغني متجها إلى الجدار تاركا الجمهور وراءه، ويأمر بألاّ يذاع إلا في محطات الراديو، وأن يحرم من التلفزيون حتى لا يرى صورته، فللحلم حدود، وغضبه عليه يجعله لا يرغب في رؤية وجهه، وتحفّ مغامرات كثيرة بهذا الاحتفال فتؤكد المقولة الشهيرة أن “صحبة السلطان خطر عظيم”، وتبرهن على أن صحبة هذا الرئيس خطر أعظم.
لا نعرف لهذا الرئيس اسما، ولكن مؤشرات كثيرة منها حروب الخليج وحصار الأمم المتحدة وبرنامج النفط مقابل الغذاء تستدعي إلى الأذهان صورة الرئيس العراقي صدام حسين، وتُنزل الفيلم ضمن الهجاء السياسي وتستدعي إلى الأذهان في الآن نفسه فيلم “الدكتاتور العظيم” لشارلي شابلن”، ذلك الفيلم الذي يعرض حكاية ديكتاتور اسمه “أدنويت هنكل” والاسم قريب من الجرس الصوتي لاسم أدولف هتلر، يحكم دولة تومانيا والجرس قريب من اسم “ألمانيا”. ففي الفيلمين يبدو الحاكم مستبدا لا حدود لحكمه، مهرجا يرتكب الحماقات وهو يخطب أمام ضباطه وجنوده ويفاجئهم بما لا يتوقعون.
التقاء في الثلث الأخير.. فصول المأساة
تعتمد أفلام كثيرة ثلاثة خطوط للقصّ، فتبدأ في عرض ثلاث حكايات متباعدة منفصلة ثم تأخذ في الاقتراب شيئا فشيئا حتى تلتقي في نهاية الأثر، فيكتشف المتفرج ما بينها من الصلات، ويشار إلى هذا البناء بشكل الدلتا، واستعارة دلتا النيل جلية في هذه التسمية.
أما بناء فيلم “المغني” فيقوم على خطين متباعدين فحسب وتظل المسافة بينهما تتقلص إلى أن يلتقيا في النهاية. فيهيمن على الخط الأول الرئيس العسكري، يصل في موكبه البهيج إلى مجمع القصور الرئاسية، ويأخذ في الاستمتاع بفقرات الحفل، برقصة الفلامنكو الإسبانية وبالعرض التراثي احتفاء بنبوخذ نصر (ويعرف أيضا باسم بختنصر)، وتأخذه الحماسة فيخطب حول إحسان نبوخذ لليهود، وفضله عليهم ويتألم لتنكرهم للعراقيين اليوم، ومعلوم أنّ الرئيس العراقي صدّام حسين يعتبر نفسه امتدادا لهذا القائد.
يستأثر الخط الثاني برحلة المغني بشار، فلسوء حظه تتعطل سيارته وهو في الطريق إلى مكان الحفل، وبعد تشويق يشد أنفاس المتفرّج تعاطفا معه في محنته، يتطوع أبو زرزور لإيصاله بسيارته القديمة، ولا يشفع له ما بذل من الجهد، فقد أفسد وصوله المتأخر مزاج الرئيس وكان لا بد أن يعاقب فيعنف من قبل رجاله ثم يغني وهو ينظر إلى الجدار.
يكاد الخطان يتوازيان، ولا يكاد أحدهما يؤثر في الآخر لولا ذلك الالتقاء في الثلث الأخير من الفيلم، وحالما يلتقيان تتسارع فصول المأساة، وترتكب جرائم كثيرة لا يحاسب مرتكبوها. ينتحر العقيد سيف بعد أن يكتشف مشاركة الرئيس له في جسد زوجته، ويتبجح بذلك أمامه إمعانا في إذلاله.
تُعدم زوجة الشاعر المدّاح لتعبيرها عن رفض الاستبداد، ويصيب قناصة القصر العالمَ وصياد السمك لمّا أبديا أسفهما لتلوث مياه الأهوار بالمواد المُشعة نتيجة للحروب المتهورة، ويطلق الرئيس بنفسه الرصاص على المرأة الحالمة بعالم الأضواء، بعد أن تعرض تحت وقع السُكر الشديد، جسدها رشوة له حتى تظهر على شاشة التلفزيون.
شط العرب.. قدر العراق الدامي
يكون لقاء خطي الأحداث في مجمع القصور الرئاسية في البصرة، في شط العرب حيث يتقاطع دجلة مع الفرات مع الشرايين النازفة، ففيه تسيل دماء الصيادات الآمنات في زوارقهن مطلع الفيلم، فيقنصهن رجال الرئيس عقابا لجرأتهن على اقتحام مجال لا يملك النفاذ إليه غير الرئيس وحاشيته، وفي نهايته تنكبّ عاملة على غسل البلاط مما خلفه الاحتفال من دماء، إيذانا بانتهاء العرض القاتل. فقد غادر الرئيس منتجعه وآن لأصوات الرصاص أن تهدأ في انتظار احتفال جديد.
ولم يتحولّ شط العرب إلى مستنقع دماء وركام جماجم في الحكاية والخيال فحسب، فالواقع أشد غرابة وأشد دموية. فالحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) التي كانت حصيلتها مئات الآلاف بين قتيل وجريح من الطرفين تعود إلى إلغاء صدام (وقد سقط حكم الشاه) لاتفاقية الجزائر التي يمنح العراق بموجبها لإيران حق الملاحة في شط العرب مناصفة ومن عبث السياسة أنّ صدام نفسه هو من وقعها سنة 1975، ثم عاد للاعتراف بها عام 1990 إبان غزو الكويت خوفا من فتح إيران جبهة شرقية عليه بينما هو يقاتل بالجنوب كأن حربا لم تكن، عاد يغسل الدماء من شط العرب هو بدوره إيذانا بانتهاء العرض القاتل، ولم يكن يعلم أن عروضا أخرى أشد وطأة ستعقبه.
يستمد الفيلم إذن بناءه من التقاء دجلة والفرات، وتغمر الدماء الفضاء ثم تفيض فتغرق كلّها، هل أراد قاسم حول أن يغيّر شكل الدلتا في بناء الأفلام بشكل شط العرب، هل كان يعي بهذا التشابه الخفي بين قدر العراق الدامي عند هذا الشط، وقدر الفيلم الدامي بدوره في المكان نفسه؟ لا يعتقد عاقل أن المخرج كان على وعي بهذا القياس، وأنه كان يصمم شكل عمله بناء على تضاريس البلاد، ولكن للصدف قانونها الذي لا نعلمه بعد، وللنصوص سلطانها الذي تفرضه على المبدع من حيث لا يعلم، وكما يقول “ميلان كونديرا”: الروايات العظيمة هي أذكى إلى حد بعيد من مؤلفيها.
صدّام المفترض.. جنون العظمة العادل
لا يصدر ما في الفيلم من الأعمال الفظيعة عن شخصية متوازنة، وبالفعل يجعل الفيلم شخصية الرئيس العسكري أو صدام المفترض، شخصية مريضة نفسيا تعاني جنون العظمة، وتغرق في نرجسية مدمرة، ومن سمات الشخصية السيكوباتية أن لا تخضع لغير الولاء لذاتها دون أن تراعي مشاعر الآخرين أو تأخذ احتياجاتهم بعين الاعتبار، فلا تحترم القيم ولا النظم ولا القوانين، ولا تجد حرجا في خرقها لأنها تعتبر نفسها فوق الرقابة والمحاسبة، ولهذا لا تعود على نفسها باللائمة أو تضعها موضع مساءلة، ولا تشعر بالذنب ولا تتعظ ولا تتعلم من أخطائها.
من منطلق هذه السمات كان الرئيس يطلق رجاله ليقتلوا من لا يروق له دون محاسبة، ويستأثر بالملذات فيستخدم قشور ملايين أطنان البيض لبناء قصره مثلا، غير عابئ بجوع شعبه وموت الأطفال بسبب الحصار وسوء التغذية، ومن هذا المنطلق أيضا كان شخصية قاسية لا تشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم.
نرجسية شريرة تزج بها قسوتها في أتون الصراع مع كل محيطه، فيعيش مفتقدا للأمن أسيرا لخوف المرض، متوقعا انتقام أعدائه منه، ومُعذبا بخيالات جرائمه.
تُضحي هذه السمات سوط عذاب لضيوفه الذين يشاركونه حفل عيد الميلاد، فحتى يدخل الواحد منهم القصر مهما كانت مكانته في الدولة، لا بد أن يخضع للتفتيش الدقيق، ولا بد أن تصل أجهزة التفتيش إلى المواطن الحساسة من جسده وأكثرها حميمية، فيجبر على غسل يديه بالمواد المعقمة إذا ما أنعم عليه جلالته بمصافحته.
وتزرع آلات التصوير والتسجيل في كل مكان ليكون الجميع تحت المراقبة المُشددة، وتستغل العلاقات مع روسيا في هذا الظرف العصيب لتوريد مزيد من هذه الأجهزة، فمن يدري؟ فذرة من الأسلحة البيولوجية يمكن أن تلحق الدمار بالعالم بأسره، والرئيس حازم ورجاله خدم مخلصون.
يمثّل جنون العظمة أبرز سمات هذه الشخصية، ومثل هذا الجنون ينشأ عن نوع من الاضطراب في الأداء العقلي، وتبعاته كثيرة متضاربة أحيانا من ذلك الشعور المستمر بالاضطهاد والتهديد والكبرياء والمبالغة في تقدير الذات تقديرا لا يتحقق إلا بالحطّ من قيمة من يحيطون به، فيرى نفسه شخصا لا نظير له، وهو العظيم الخالد الملهم، وعن هذه السمات تنشأ نزعة الأفراد الديكتاتورية الاستبدادية. كذا كان يتصرّف على مدار الفيلم، وكذا كان يقول لسناء زوجة العقيد سيف حين تخاف على زوجها من الإيذاء إذا ما علم بهذا بتفاصيل اللقاء: “لا توجد مشاعر فوق مشاعري” أو لحظة الاغتصاب المقنّع: “ما انخلق بعد الشخص الي يقدر يصعد فوقي”.
هموم العراق.. كوميديا مُرة راقية
تشعر وأنت تتابع الفيلم بأنّ المخرج يريد منك أن تكون متفرّج مسرح بشكل ما، فلظروف العرض المسرحي نقبل بالمبالغات ونتواطأ لنُسَلم بأنها ممكنة الوقوع، فيركب الممثل الخشبة ونصادق على أنه جواد، ويرسم مهندس الديكور خطوطا ومربعات ونصادق على أنها المدينة تظهر في الخلف، وكثيرا ما جمعت الحكاية المسرحية بين شخصيات عديدة تلتقي بمحض الصدفة في فضاء ما، فيكون اجتماعها القادح لأحداث تأخذ في التصاعد.
وفق هذا القانون نفسه ينبني الفيلم، فيشتمل على مبالغات لا نُسَلم بإمكان حدوثها إلا عبر تواطئنا مع المخرج، فكيف لنبوخذ نصر أن يدخل القصر الرئاسي على حصان، وكيف يجمع هذا الرئيس بين الغناء البدوي ورقصة الفلامنكو، وكيف تلتقي شخصيات من عامة الشعب لا يعرف بعضها البعض في القصور الرئاسية، فيعرض كل منها حكايته وتنتهي كلها إلى هلاك يرضي نرجسية الرئيس ويستجيب لتعطشه للدماء؟ فيجمع الفيلم بين الكوميديا والتراجيديا فلا نعرف هل نأسى لحال بشار البصري وهو يغني باكيا ناظرا إلى الجدار أمام تمثال صدام حسين الذي يراقبه في جمود، أم نضحك لهذه المهزلة خاصة أنها تجسيد لحادثة حقيقية، فقد صادف أن تأخر مطرب عن حفل ابن صدام حسين -فيما يروي قاسم حول- فعاقبه بأن جعله يغني ووجهه إلى الجدار، ومنع عنه شاشة التلفزيون وسمح للراديو بإذاعة أغانيه.
نجد الكثير من بلاغة المسرح في أعطاف الفيلم، ولا عجب فتكوين قاسم حول مسرحي بالأساس، وهو واعٍ بهذا التفاعل بين الجماليات المختلفة تماما، فعن اختياراته الجمالية في هذا الفيلم وفي سائر أعماله يعرض في الحوار سالف الذكر، ما يؤكد زعمنا هذا، فيقول: “فإني من عشاق الكوميديا الراقية التي يطلق عليها الكوميديا السوداء أو الكوميديا المُرة. وفي المشاهد السينمائية وفي رواياتي وقصصي التي أكتبها، فإما أن تكون من الكوميديا المُرة، أو أن أخفف من التراجيديا الفاجعة فأحولها إلى ما يطلق عليه التراجيديا الإبداعية أي التراجيديا المتسمة بالشاعرية.
ويتابع: العسل المر هو العسل الذي يشفي الإنسان من الأمراض، القهوة المرة هي المذاق الشهي في كل صباح، الحب المُر هو الذي يتغنى به الشعراء والمطربون.. لا أسقط أفلامي ولا رواياتي في الكوميديا الفجة، ولكن كثيرا من المَشاهد في أفلامي تحتاج لمثل هذه القهوة المرة أو العسل المر الذي فيه شفاء للناس.. للمشاهدين، وأكثر منها هموم العراق وعسلها أشد مرارة.
نرجسية الرئيس.. اختزال لحالة معقدة
هل يستطيع متأمل تاريخ العراق في الأربعين سنة الأخيرة أن لا يختزله في الإفساد في الأرض، وقطع النسل والاستئثار بالمال العام، وتبديد ثروة المجموعة الوطنية في حروب لا معنى لها؟ الحقيقة أيضا أن أكثر أنصار صدام ولاءً له وتشيعا لسياسته لا ينكرون أنه كان بالفعل شخصية مرضية أصابت سائر العالم العربي بانتكاسة جراء نرجسيتها وتهورها. فحرب الخليج الأولى كانت مدمرة لأكبر بلدين إسلاميين، والدمار الأكبر هو أن يتنازل من بدأ الحرب وأنفق فيها ثمانية أعوام وخرج منها منتصرا، عما حققه من مكاسب في كلمة لا تتجاوز الأربع أسطر.
أما غزو الكويت فقد جعل العالم العربي يفقد توازنه ويسقط في أتون الإرهاب والحروب الأهلية المدمرة والتآكل الداخلي في كل حي وزاوية تقريبا من أراضيه، ولمتفرّج الفيلم أ-إن شاء-ن يجده مقصرا في عرض ما عاشته العراق من فظاعات ومن انتكاسة حضارية في ظل حكم الرجل، ولكن سياسة الدولة شأن أكثر تعقيدا، وأزمة العراق مُوزعة بين فاعلين كثر محليين وإقليميين ودوليين، واختزالها في نرجسية الرئيس وجنون عظمته وعقده النفسية لا يخلو من تراخٍ في تشخيص حالتها العراقية المعقدة وتساهل في تقدير الاستنتاجات.
إنجاز فيلم حول شخصيته فرصة فنية نادرة لمقاربة انحراف العقل السياسي العراقي أو العربي، ولمناقشة فشل الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال في توفير الكرامة لمواطنيها، وسقوط أغلب الأنظمة الحاكمة في معضلة الاستبداد، وللأسف فالمعالجة الفنية التي اختارها قاسم حول من التصنّع في الأحداث وعدم قدرتها على الإقناع، وافتقاد شخصية الرئيس للجاذبية والقدرة على التحكم في الأمور، وهو الذي يدير أخطر الدول وأصعبها شكيمة؛ جعلت الفيلم يتحول إلى ضرب من الهجاء السياسي الذي يضع الغاية الانتقامية على رأس أولوياته.
نموذج الطاغية.. رائحة المخيال الشعبي
صحيح أنّ معاناة قاسم حول كانت شديدة فقد أجبر على الهروب من بلاده والعيش غريبا، وضاعت نسخ أفلامه، أو أحرقت بتدبير من نظام البعث، ولكن تسامي المخرج عن الهاجس الانتقامي كان كفيلا بأن يُنزّل الفيلم ضمن تصور كوني يجعل صدام حسين نموذجا لكل طاغية جبار، فيرى فيه التونسي صورة من زين العابدين بن علي، ويجد فيه التشيلي شيئا من “أوغستو بينوشيه”، ويجد فيه الروماني صورة من “تشاوشيسكو”.
على عكس ذلك جعل فيلم “المغني” من شخصية صدام “حجّاجا” بشكل ما، فاستسلم إلى المخيال الشعبي في تشكيل شخصيته، كما استسلم المسعودي في مروج الذهب، وهو يصف حجاجه، فيذكر أنه ولد “مشوها لا دبر له، فنقب عن دبره” أو أنه “أبى أن يقبل ثدي أمه أو غيرها فأعياهم أمره”… حتى قيل “اذبحوا له تيسا أسودا، فأولغوه دمه واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، ففعلوا به ذلك، فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في بدء أمره” ونكّل به هذا المِخيال في تصوير موته، فجعله يصاب بمرض الأكلة فيغزو الدود بطنه ويقضم أمعاءه وهو حي بعد.
لا يوافقنا قاسم حول في هذا الرأي ويحاول أن يدفعه، فيقول “فيلم “المغني”: كتبته والدكتاتور في سدة الحكم وكنت أريد أن أنفذه وهو حي، مع أن الفيلم لا يتحدث عن دكتاتور بذاته، وكما قلت الفن والسينما موقف فكري وفني، وليس موقفا لتصفية الحسابات مع هذا الشخص أو ذاك، ولكن ظروف الإنتاج لم تكن لتسمح بالتنفيذ حتى سقط الدكتاتور”.
كانت هذه إجابة قاسم حول ولكن الفيلم الآن ملك للمتفرّج، ولا يمكن للمبدع أن يمنع فهمه على النحو الذي يراه المتفرّج مقنعا.