كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف

“البشر غير شاكرين، وهم متقلبون وكاذبون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروري للحاكم أن يتعلم ألّا يكون صالحا معهم”. هذه العبارة تلخِّص ما ورد في كتاب “الأمير” للمفكر والفيلسوف الإيطالي “نيكولو مكيافيلي” الذي أثار الجدل على مرّ العصور، وسيبقى.

وقد خصصت قناة الجزيرة الفضائية حلقة مميزة من برنامج “خارج النص” لمناقشة هذا الكتاب الهام، واستضافت في المناقشة ثلّة متميزة من الأكاديميين والسياسيين، نطرح آراءهم من خلال هذا التقرير، وننسب الأقوال إلى قائليها، ونقتطف فقرات مثيرة للاهتمام من هذا الكتاب.

بين المؤلف والكتاب.. عندما تنصهر الخبرة في بوتقة السطور

ألف “نيكولو مكيافيلي” كتاب “الأمير” عام 1513، وقد كتبه بعد عزله عن منصبه كمستشار لحكومة فلورنسا، مع استلام “لورنزو ميزيتشي” الحكم، حيث أمر بسجن “مكيافيلي” وتعذيبه، ثم أطلق سراحه ونفاه إلى خارج فلورنسا.

لجأ بعدها “مكيافيلي” إلى منزله الريفي، على بعد أميال خارج حدود فلورنسا، وكان يجلس إلى العمال والفلاحين في النهار، ثم يعتكف ليلا لكتابة تجربته في بلاط السياسة والحكم والعسكرية. موجها كتاباته إلى “لورنزو”، آملا أن يعود إلى خدمته من جديد.

يقول “جوناثان باول”، كبير موظفي مكنب “توني بلير” سابقا: كان “مكيافيلي” يشارك في الإدارة الساسية للدولة عندما كان “سولجوريني” حاكما، وكان يحاول إعطاء الدروس عبر تجربته، كان قد سافر إلى فرنسا وكان سفيرا عند ملكها، وكان عسكريا قويا دافع عن حدود فلورنسا وغزا مدنا كثيرة حولها، وتفاوض مع البابا والإمبراطور، وبذا حصل على تجربة حقيقية ليصبح رجل دولة.

مات قبل نشر كتابه

وعن الكتاب يقول فاروق الراوي، وهو أكاديمي ودبلوماسي سابق: ذكر الكثير من الأمثلة التاريخية، وأسماء كثير من القادة، لكنه كان يركز على الصالح والخبيث في الإنسان، والجيد والسيء في هذا الحاكم.

كتاب “الأمير” لـ”نيكولو مكيافيلي”، تم تأليفه عام 1513، وكأنه يتحدث عن عصرنا

وعن مؤلفاته يقول “جيوفاني جورجيني” أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة بولونيا: الملفت للنظر أن “مكيافيلي” لم يقم بنشر الكتاب في حياته، فقد توفي عام 1527، حيث كان له مؤلَّفان هما “الأمير” و”المطارحات”، أما “المطارحات” فقد نشرت عام 1531، بينما نشر “الأمير” عام 1532، وقد نُشر الكتاب بموافقة البابا، إلا أنه وبحلول 1559 كانت كل كتبه محظورة.

أما عن رأي الكنيسة في الكتاب، فيقول محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية بجامعة حمد بن خليفة: موقف الكنيسة من الكتاب مربك، فقد أباحت نشره في البداية ثم منعته، وهذا عائد إلى مزاج الباباوات ومدى انفتاحهم على الأفكار، بعضهم رأى أنه غير أخلاقي، وبعضهم رأى فيه طعنا للدين، وأنه يعطي وزنا للتراث الوثني على حساب الدين.

تنوع المضامين.. قراءتان مختلفتان والنص واحد

ورد في الكتاب النص التالي: “ينبغي أن يعامل الحاكم الناس بلطف، أو بعكس ذلك تماما، فهم ينتقمون للإساءة الصغيرة بينما يصعب عليهم الانتقام للإساءة العظيمة”. وقد علّق عليه قارئان بفهمين متضادين:

الأول كان “جوناثان بأول” إذ قال: لو أخذنا بشار الأسد مثالا، لوجدنا أنه يطبق النظريات الواردة بشكل مقلوب وخاطئ تماما، فهو يدمر الدولة التي يريد أن يحكمها كليا، والأصل أن تبني دولة مستقرة وأكثر عدالة حتى تستطيع حكمها، وبدلا من ممارسة العنف ضد شعبه، وإثارة العنف المضاد، كان يجب عليه أن يقرأ “مكيافيلي” بشكل أدق.

قراءتان متناقضتان لنفس النص: أيعدل الحاكم ام يظلم؟

والقراءة الثانية كانت للشنقيطي، إذ يقول: أن يكون الشر ساحقا ماحقا، وأن يكون الخير بالقطّارة حتى لا ينساه الناس، وهي من أهم القواعد التي يسعى المستبدون في العالم العربي لتطبيقها اليوم، فالسيسي لم يكن بحاجة لمجزرة رابعة من أجل فض الاعتصام، وكان يمكنه تفريقه بخراطيم المياه، ولكنه أراد قصدا هذه المجزرة ليردع الناس عن مجرد التفكير برد فعل.

وعلى هذا يعلق “جورجيني” بقوله: يمكن أن يُقرأ الكتاب بطريقتين مختلفتين، إحداهما الجانب المأساوي للسياسة وكيف أن على الأمراء أن يفعلوا الشر، ومن ناحية أخرى كيف يخبر الطغاة أنهم يمكن أن يستخدموا جميع الطرق من أجل الاستمرار في الحكم. من هنا وجد كل الحكام والطغاة ضالتهم في نظريات مكيافيلي، وأنا أرى أنهم قد أخطأوا قراءته.

قوة الأسد ودهاء الثعلب.. خلطة الحاكم الناجح

يوصف “مكيافيلي” بالجرأة في وضع حلول للمشاكل التي تواجه الحاكم، لدرجة أن كثيرا من النقاد وصفوه بأستاذ الشر، ولذلك يقول عنه “جوناثان بأول”: مكيافيلي أخلاقي وغير أخلاقي في نفس الوقت، أحيانا يقول على الأمراء ألا يرتكبوا الشر، وفي ذات الوقت عليهم فعل كل ما يمكن للبقاء في السلطة، وإرضاء غالبية الناس، ومن هنا يمكن أن يُساء فهمه، أو أن يقرأه كلٌ على هواه”.

يقول مكيافيلي: “أبرز سمات رجل الدولة أن تتوفر فيه صفات الشجاعة والدهاء معا، وعليه أن يكون أسدا وثعلبا في ذات الوقت، فالأسد لا يحمي نفسه من المصائد، والثعلب لا يقوى على مقاومة الذئاب”. ويعلق “بأول” على هذه العبارة بقوله: كتبها “مكيافيلي” عن أميره “سولجريني”، وكيف أنه متردد ولا يستطيع اتخاذ قرار، ولذا فقد احتُلَّت فلورنسا في عهده.

طبقت بريطانيا فهمها لكتاب مكيافيلي فزرعت الكيان الصهيوني ورعته على حساب أهل فلسطين

ويتفق “باول” والمرزوقي على تصرف الحكام العرب تجاه قضية فلسطين، والتطبيع مع اليهود من تحت الطاولة في البداية، مستخدمين دهاء الثعلب، ثم لمّا تم لهم سحق شعوبهم بمخالب الأسد وبين فكيه، صار التطبيع جهارا نهارا، وبيعت فلسطين كلها بالمزاد.

يقول “مكيافيلي”: “أعمالٌ مثل اغتيال المواطنين، ونقض العهود وغدر الأصدقاء، والتجرد من التدين والرحمة، قد توصل إلى السلطة ولكنها لا تورث المجد”. يتحدث الشنقيطي عن هذه النظرية قائلا: “مكيافيلي” واقعي بامتياز وسياسته كذلك، ولكن هل تخلو السياسة من المبادئ؟ ليس بالضرورة، فالحاكم يمكن أن يكون مثاليا وواقعيا، عنده مبادئ ويعتني بالمصالح، ولذلك نرى أن معظم الساسة الأوروبيين قد تخلوا عن “مكيافيلي” في القرن الثامن عشر.

“الغاية تبرر الوسيلة”.. شماعة مصالح الدولة العليا

يقول “جيورجيني”: يشاع عن “مكيافيلي” أنه قال “الغاية تبرر الوسيلة”، والغاية هنا حفظ مصالح الدولة العليا، وقد أُسيء استخدام هذه العبارة، وإن لم تكن ظهرت في أي من كتاباته نصا، بل ورد في الفصل الثامن عشر ما نصه “إن الحاكم يجب أن يكون صالحا، ولا يستخدم الشر إلا في حالة واحدة؛ أن يحفظ مصالح الدولة”، ولذلك لا أرى مبررا لاستخدام نظريات “مكيافيلي” لأي غرض سوى مصالح الدولة.

“مكيافيلي” كتب كتابه “الأمير” ففهمه المستبدون من الحكام فهما مغايرا لفهم المقسطين منهم

يقول “مكيافيلي”: على الحاكم أن يتظاهر بالرحمة والوفاء والنزاهة والتدين، وإن كانت فيه حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهبا للتخلي عن كل هذه الصفات والعمل بضدها إذا اقتضى الأمر، والتحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة.

وهو ما أيده “جورجيني” بقوله: مكيافيلي ينصح الحاكم المرتقب، أنه وإن كان صالحا فيجب أن يكون مستعدا في ظروف محددة أن يتخلى عن الأخلاق والتدين في سبيل المصالح العليا للدولة، وبذلك يكون من الصعوبة أن تجمع بين أن تكون حاكما وأن تكون مسيحيا في نفس الوقت.

بين الجيش والمرتزقة.. خيار السيادة أو الانصياع

يقول مكيافيلي: إذا طلب حاكم من دولة قوية مجاورة أن تتدخل لمساعدته فهذا أمر جيد، ولكنه يكون في غاية الخطورة إذا ذهبت قوة هذه الدولة، لأنها ستجره معها إلى الهاوية، وإذا انتصرت فإنه يصبح تحت رحمتها، وباختصار فإن سلاح الغير إما أن يسقط عن كتفيك، وإما أن يثقل كاهلك ويشل حركتك. وهو ما يراه “جورجيني” أيضا إذ يقول: إن خيار الجيش الشعبي للدولة في صد العدوان أفضل بكثير من المرتزقة.

ويؤيده “باول” بقوله: انظر الآن إلى اليمن أو ليبيا فالميليشيات المتصارعة تتلقى دعما من دول وقوى مختلفة، وبالتالي فالوصول إلى سلام قد يبدو في غاية الصعوبة، وانظر إلى سوريا: برأيك هل تقبل الميليشيات الإيرانية أن تخرج دون قطعة من الكعكة؟ لو قرأ حكام الشرق الأوسط “مكيافيلي” قراءة دقيقة لما احتاجوا للاستعانة بالمرتزقة.

رؤية مكيافيلي من الاستعانة بالدولة القوية.. تنبأت بما آلت إليه المنطقة العربية

وهذا هو ما ذهب إليه المرزوقي إذ يقول: يمكن إسقاط هذه النظرية على الدولة الإسلامية، فقد هوت في أول سقوط ذريع لها يوم استعان المعتصم بالمرتزقة.

يقول ميكافيلي: عندما يحتل الأمير مستعمرة جديدة تختلف عن دولته في العادات واللغة والتشريعات، فسيجد صعوبات للاحتفاظ بها، وتحتاج إلى حظ وكفاءة، فيجب أن يقيم الأمير شخصيا في المستعمرة، ثم يجب عليه أن يقيم مستوطنة أو اثنتين في مناطق حيوية، ثم يوطِّن جاليات في مناطق مناسبة، بحيث لا يتضرر من هذا الإجراء إلا من صودرت أرضهم أو بيوتهم.

وخير مثال على هذه النظرية هو استيطان اليهود لفلسطين قبل قيام الدولة برعاية بريطانيا، وهذا من أخطر أنواع الاستعمار، وقد يحصل مثله الآن في العراق وسوريا، كما يقول فاروق الراوي.

حُكّام العرب وديموقراطيات أوروبا.. أسوأ ما في الكتاب وأحسنه

يقول “مكيافيلي”: الحكم الوراثي أسهل بكثير من الحكم الجديد، فيكفي الأمير الخلف أن يراعي سياسات أسلافه، والزمن كفيل بإخفاء الهفوات، أما إحداث ثغرة في الحكم، أو استحداث حكم جديد فهذا في غاية الخطورة، لأنه بالضرورة سيولد استحداثا آخر للحكم، والجديد يقتضي ما هو أجد.

ويرى بعض النقاد العرب أن هذه النظرية -على صحتها- لا تنطبق في الحالة العربية، فالعرب يتنفسون السياسة من رئة واحدة، وإذا حصل تحرك سياسي في بلد تداعت له سائر البلدان الأخرى بالثورة والحراك، ما يستدعي مثال “أحجار الدومينو” في هذه الحالة.

الظالمون المستبدون قرأوا الجانب المظلم من كتاب مكيافيلي ولم يقرأوا الجانب المنير منه

يقول “باول”: لا يعتبر كتاب “مكيافيلي” دليلا للحكومة، لأن الحكومات بشكلها الحالي مختلفة تماما عن حكومة فلورنسا في القرن الخامس عشر، ولكنه دليل جيد للسلطة والحكم في كل العصور.

ويضيف: في أول يوم استلم “توني بلير” فيه حكومة بريطانيا، قال لي: “أتعلم يا جوناثان؟ لو أنني تعلمت شيئا في الجامعة يعينني على إدارة البلاد، خير لي من تضييع عمري في دراسة القانون، كان عليّ أن أقرأ شيئا من التاريخ لاستخلاص العبر”، وهذا ما كان يدعو إليه مكيافيلي.


إعلان