“آيا صوفيا”.. انتصار مئذنة الجامع على الكنيسة والمتحف

خبر عاجل يتصدّر عناوين الأخبار، مفاده أن الأشرار هاجموا متحف “آيا صوفيا”، فيسارع البطل “هاكان” سليل أسرة “المحافظين” لإخراج قدراته الخارقة لحماية الكاتدرائية السابقة، ومن خلالها يقوم بإنقاذ إسطنبول والعالم من سيطرة الفاسدين.

هذا واحد من المشاهد المثيرة التي قدّمها مسلسل “الحامي” (The Protector) الذي بثّته منصة “نتفليكس” في أول تجربة لها مع الدراما التركية، لكن على غرار جلّ إنتاجات القوة الناعمة الجديدة لتركيا، تتقاطع أحداث هذا المسلسل بشكل كبير مع الواقع، من حيث ارتباط الإنجازات المجيدة الأخيرة لبلاد الأناضول برحلة صعود مثيرة لبطل تركيا الحديثة رجب طيب أردوغان، مستهلا رحلة صعوده هذه من بلدية إسطنبول التي تولى رئاستها قبل وصوله إلى الحكم.

هكذا بدا المشهد يوم الجمعة 10 تموز/يوليو 2020، حين وضع الرئيس التركي خاتمه الرسمي فوق مرسوم يحوّل متحف “آيا صوفيا” إلى مسجد، مُنهيا بذلك وجود مرسوم آخر لمجلس وزراء مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، صدر يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1934.

تماما مثل “هاكان” بطل مسلسل “الحامي” الذي جسّده الممثل “شاتاي أولسوي”، حيث يؤكد أردوغان مضيّه في خيار التحدي والمجابهة مع القوى الغربية قائلا: لم نكترث لما يقوله الآخرون، بل ركزنا على ما هو حق لنا وما يريده شعبنا، كما فعلنا ذلك في سوريا وليبيا وفي مواقف عدة. سنواصل المسير في طريقنا لبناء تركيا القوية والكبيرة[1].

الرئيس التركي طيب رجب أردوغان يسجل موقفا تاريخيا في حق مسجد آيا صوفيا

رحلة إلى السماء.. أعجوبة الزمن تسترجع هويتها

يوم الجمعة 10 يوليو/تموز 2020 أصدرت المحكمة الإدارية العليا التركية قرارا بإبطال القرار الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1934 بتحويل آيا صوفيا إلى متحف، مؤذنة بإعادة فتحه مسجدا وإنهاء فصول من الجدل الطويل حول المبنى الذي صُمم في البداية ليكون كنيسة مسيحية في القرن السادس للميلاد، واعتبر أعجوبة العالم الثامنة بقبته المميزة التي بلغ قطرها 31 مترا، وشبه البيزنطيون دخولها برحلة إلى السماء[2].

وقد قال أردوغان في خطابه الأول عقب صدور هذا القرار: في الواقع لم يكن هذا القرار الذي اتخذ خلال فترة الحزب الواحد عام 1934 خيانة للتاريخ فحسب، بل أيضا ضد القانون؛ لأن “آيا صوفيا” ليست ملكا للدولة ولا أي مؤسسة، فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح[3].

وأضاف أردوغان أن فتح إسطنبول وتحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد صحفة من أنصع صفحات التاريخ التركي، لكونه وقع بعد حصار طويل انتهى بدخول السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول فاتحا في 29 مايو/أيار 1453، وقد توجه مباشرة إلى “آيا صوفيا”، وعندها ساور السكان البيزنطيين الخوف والقلق بانتظار مصيرهم داخل “آيا صوفيا”، لكن الفاتح أعطاهم الأمان على حياتهم وحرياتهم.

وشدّد الرئيس التركي على أن السلطان محمد الفاتح حصل أيضا على لقب الإمبراطور الروماني بعد تمكنه من فتح إسطنبول، وأصبح بذلك مالكا للعقارات المسجلة باسم الأسرة البيزنطية، ومن بينها كنيسة آيا صوفيا.

وإمعانا في إثبات شرعية قراره ذكّر أردوغان بما جرى في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان التي اضطر العثمانيون إلى الانسحاب منها، قائلا: لم يبق إلا عدد قليل من الأعمال التي بناها أجدادنا طيلة قرون قائمة، وانطلاقا من عبارة لا يمكن أن يكون مثالا، فإننا لا نعير أي اعتبار لهذه الأمثال السيئة، حيث نحافظ بحزم على موقف حضارتنا المبنية على التشييد والإحياء[4].

وحدة مسيحية الشرق والغرب.. حروب أردوغان

كثيرا ما تعرّضت القرارات السيادية التي اتخذتها تركيا في العقدين الأولين من الألفية الثالثة لردود فعل غاضبة، خاصة من القوى الغربية والمسيحية وتكتلاتها، فمعارك تركيا الأردوغانية مع أمريكا “ترامب” والاتحاد الأوروبي وروسيا على عهد “بوتين” لا تعدّ ولا تحصى، لكن قرار إعادة فتح متحف آيا صوفيا أمام الصلاة الإسلامية أثار أقوى ردود الفعل هذه وأكثرها توحيدا للعالم المسيحي بشرقه وغربه، حيث أجمعت على مهاجمته أوروبا وأمريكا وروسيا، إلى جانب بعض الأصوات الشاردة هنا وهناك.

فالصراع حول وضعية آيا صوفيا هو في عمقه صراع حول الهوية، لأن عودتها إلى وظيفة المسجد التي قامت بها طيلة قرون، يعني في حقيقة الأمر عودة بشكل أو بآخر إلى ما قبل أتاتورك الذي حوّل هذا المسجد إلى متحف، وهي عودة ترمز إلى نوع من التطلّع الجديد إلى عهد سابق لمرحلة التفكك الشامل للعالم الإسلامي، وتفكّكه بين دويلات مستعمرة وأخرى خاضعة.

ويعود الجدل حول وضع آيا صوفيا إلى أكثر من قرن، وتحديدا إلى فترة وقوع منطقة الأناضول ومنها إسطنبول تحت الاحتلال الغربي، حيث حطت وحدة احتلال مجهزة عند باب “آيا صوفيا”، وقال القائد الفرنسي لهذه الوحدة العسكرية للضابط العثماني حينها إنه يريد التموضع في المكان، وعلى الجنود الأتراك مغادرة المسجد، حسب الرواية التي استعرضها أردوغان نفسه بعيد إصداره قرار تحويل المتحف إلى مسجد من جديد[5].

في مقابل هذا المشهد الذي يوحي بالانهزام الإسلامي أمام المدّ الاستعماري، شكّلت “آيا صوفيا” طيلة تسعة قرون من وجودها ككنيسة مسيحية مركزا للمسيحية الشرقية ومقرا للبطريرك الأرثوذكسي، أي ما يقابل بابا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. في 28 مايو/أيار 1453 دخل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر كنيسة “الحكمة الإلهية” ليقوم بصلاته الأخيرة، فقد كانت القسطنطينية تحت الحصار، ليعود إلى أسوار المدينة، حيث نسّق جهود الدفاع ضد جيش محمد الثاني الذي سيصبح الفاتح مع نهاية ذلك اليوم[6].

يعد مسجد آيا صوفيا رمزا تاريخيا لمدينة إسطنبول حتى بعد أن تم تحويله إلى متحف في عام 1934

أيقونة إسطنبول.. قلب العالم الذي تتصارع الحضارات عليه

لا ينفصل موقع “آيا صوفيا” في الصراع الحضاري الذي فجّره قرار إعادتها إلى وظيفتها الدينية المعلقة منذ 86 عاما، عن الموقع الجيوستراتيجي لإسطنبول نفسها، فحتى الفتح الإسلامي للمدينة لم يتخذ طابعه الحاسم إلا بعد دخول السلطان محمد الفاتح إلى هذه الكاتدرائية واستبداله الصليب بالمحراب بداخلها.

كما تشغل إسطنبول ورموزها الدينية والحضارية موقعا مركزيا في الصراع الذي تخوضه تركيا ضد قيود القوى الغربية التي فرضت عليها قبل نحو قرن من الزمن، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وظلت هذه الحاضرة تقفز إلى الواجهة كلما استعر الصراع.

يقول أردوغان مخاطبا الإرهابي “تارنت” الذي استهدف مسجدين في “كرايست تشيرش” بنيوزيلندا يوم 15 مارس/آذار 2019: لقد جاء أجدادك، لكن بعضهم عاد في توابيت، وإذا جئت مثل أجدادك فتأكد من أن رحيلك سيكون مثل رحيل أجدادك، فهذا ليس سهلا.. إنه كالكتابة على السلاح.

وقد كان الإرهابي “تارنت” كتب فوق الأسلحة التي استعملها في عمليته الإرهابية الدموية عبارات تقول: يمكنكم البقاء شرق المضيق (البوسفور) ولكن لا تبقوا غربه، سنأتي ونهدم مآذن “آيا صوفيا” ومآذن كافة المساجد في إسطنبول.

يومها تحدّث أردوغان بلهجة حادة مسترجعا ذكريات انتصار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى على أساطيل الحلفاء التي كانت تحاول اختراق مضيق الدردنيل، وقال: “ستكتب تركيا التاريخ مرة أخرى إذا وقف أي شخص ضد الأتراك والمسلمين وجميع المظلومين”، مشيرا في حديثه هذا إلى معركة “غاليبولي” التي قادتها قوات بريطانية وفرنسية وأسترالية ونيوزيلندية مشتركة عام 1915 بهدف احتلال العاصمة العثمانية إسطنبول، وباءت بالفشل وقُتل فيها نحو مئة ألف جندي من قوات التحالف والأتراك، بالإضافة إلى سقوط مئات آلاف الجرحى من الطرفين[7].

كل شيء يدل على استمرار هذا الطابع الحيوي لمدينة يمتد شطراها بين قارتي أوروبا وآسيا، وتحوّلت اليوم إلى واحدة من أكثر مدن العالم نشاطا في الاقتصاد والسياحة، بعدما كانت لقرون عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، وتحوّلت بعد فتحها إلى عاصمة للخلافة العثمانية، وشكّل سقوطها تحت الاحتلال الفرنسي البريطاني عام 1918 إيذانا بسقوط آخر خلافة إسلامية، كما شكل استرجاعها عام 1923 إشارة ميلاد الدولة التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك[8].

محمد الفاتح هو القائد الذي بشر به رسول الله بأنه سيفتح القسطنطينية وأنه نعم القائد ونعم الجيش جيشه

بيزنطة قسطنطين.. عاصمة روما الجديدة إمبراطورية الشرق

يعود تاريخ إسطنبول إلى العام 330 للميلاد، حين قرّر الإمبراطور الروماني “قسطنطين” اتخاذ عاصمة جديدة لدولته اسمها “روما الجديدة”، وقد حملت المدينة اسمه بعد وفاته وأطلق عليها لقب القسطنطينية، وكان هذا القرار تتويجا لمسار طويل من الصراعات الداخلية والخارجية التي حسمها قسطنطين لصالحه، ليقرر جعل بيزنطة عاصمة جديدة لحكمه، فهذه الحاضرة التي كانت قد تأسست قبل نحو ألف عام من ذلك -أي في القرن السابع قبل الميلاد- تتميّز بإطلالتها المباشرة على مضيق البوسفور، وتحكّمها بالتالي في مدخل بحر مرمرة المغلق.

بعد الانشقاق الشهير داخل الإمبراطورية الرومانية الذي أدى إلى انقسامها بين إمبراطورية الغرب وإمبراطورية الشرق، أصبحت إسطنبول عاصمة للإمبراطورية الشرقية المعروفة تاريخيا باسم بيزنطة. وعلى مدى القرنين المواليين شقت المدينة طريقها لتصبح أكبر وأهم مدن الإمبراطورية، ليخصها الإمبراطور “جستينيان” بمَعلم ذي رمزية خاصة، وهي كنيسة “آيا صوفيا”[9].

لذلك جاء الفتح الإسلامي لإسطنبول بطعم خاص، حيث تطلّب الأمر ثمانية قرون كاملة قبل أن تتحقق البشارة النبوية الواردة في الحديث الذي يقول: لتُفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش[10].

وبينما تعود المحاولات الأولى لفتح القسطنطينية إلى عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ومحاولات أخرى جرت في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وذلك في نهاية القرن الهجري الأول (719 ميلادية)؛ فإن الفتح تحقق على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح، وذلك استكمالا لمسار بدأه أجداده.

ويجسّد هذا الحدث في ذاكرة القوى المسيحية الغربية، لحظة وقوع ميلان واضح في ميزان القوى لصالح المسلمين، وقد سعت القوى الأوروبية جاهدة في عصر هيمنتها الحديثة التي مكّنتها من استعمار جل المناطق الإسلامية، إلى محوه دون أن تفلح في ذلك[11].

القسطنطينية كانت رمز أوروبا المسيحية وحاميتها التي صمدت عقودا قبل سقوطها أمام محمد الفاتح

“لقد تفوّقتُ عليك”.. تحفة معمارية تنافس بناء النبي سليمان

بالإضافة إلى كونها ترمز إلى مدينة إسطنبول الإستراتيجية، فإن “آيا صوفيا” تنطوي على أبعاد تجعلها في قلب تقلبات الأوضاع الإقليمية والدولية، وتعرف البناية بسقفها الخشبي وهيكلها الذي تعرّض للاحتراق عام 404 للميلاد خلال مواجهات مرتبطة بصراعات سياسية اندلعت في عهد الإمبراطور “أركاديوس” بين نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس للميلاد.

وقد أعيد بناء الكنيسة في عهد الإمبراطور الموالي، وهو “ثيودوسيوس” الثاني، وانتهى ذلك عام 415 للميلاد، حيث أصبحت آيا صوفيا في هيئة أكثر فخامة، وأضحت مكونة من خمس بلاطات ومدخل بهي مغطى بسقف خشبي[12].

بعد نحو قرن واحد تعرّضت “آيا صوفيا” للحرق من جديد، وذلك في سياق صراعات سياسية تعرف تاريخيا باسم “ثورات نيكا” التي اندلعت ضد الإمبراطور “جستنيان الأول” الذي حكم النصف الأوسط من القرن السادس للميلاد.

اختار هذا الإمبراطور أن يكون مهندسو الكنيسة الجديدة من شرق القسطنطينية لا من غربها الذي يغلب عليه الطابع اللاتيني، فجاء شكل المعلم المعماري الجديد مختلفا تماما عن معظم الأشكال المعمارية السائدة في الإمبراطورية البيزنطية، مما أنبأ بطفرة معمارية كبيرة في تاريخ بيزنطة. وقد استمرت أشغال البناء خمس سنوات وانتهت عام 537 للميلاد، فكانت النتيجة أن أطلق الإمبراطور “جستنيان” قولته الشهيرة مخاطبا نبي الله سليمان الذي كان يسخّر الجن لتشييد بنايات عظيمة، قائلا: لقد تفوّقت عليك[13].

اسم الجلالة الله، واسم نبينا محمد وأسماء الخلفاء الراشدين نقوش زينت مسجد أيا صوفيا حتى أثناء عهده بالمتحف

قطع معمارية من كل الأرجاء.. كنيسة الوحدة البيزنطية

نظرا لصعوبة ترميم “آيا صوفيا” بسبب الأضرار البليغة التي أصابتها، أمر “جستنيان” بهدم الكنيسة بالكامل وبناء أخرى جديدة لم يكتمل بناؤها سوى عام 537 للميلاد، وكانت البناية الجديدة مصدرا أساسيا للفخر والمجد بالنسبة لهذا الإمبراطور، ذلك أنه حرص على جعلها تمثل الإمبراطورية البيزنطية بكاملها، حين طلب من جميع المناطق التابعة لحكمه إرسال أفضل ما لديها من القطع المعمارية لتستعمل في بناء آيا صوفيا[14].

فالرخام الذي استعمل في أرضية الكنيسة وسقفها أتى من منطقة الأناضول الواقعة شرق تركيا الحالية وشمال سوريا، بينما جيء بقطع الأحجار التي استخدمت كلبنات لبناء الجدران وأجزاء من الأرضية من مناطقة بعيدة مثل شمال إفريقيا. أما الأعمدة الـ104 التي قامت عليها الكنيسة، فجاءت من مدينة “إفسس” الإغريقية التاريخية الواقعة في غرب الأناضول على سواحل بحر إيجة، وبعضها أتى من مصر[15].

بعدما اختار لها شكلا مختلفا عن السائد في العالم الغربي، مضى الإمبراطور “جستنيان” في نهجه القائم على تمييز البناية الجديدة عن بقية الكنائس القائمة في العالم المسيحي وقتها، وقرر ألا يطلق عليها اسم أي من القديسين كما هو الحال مع باقي الكنائس، بل أطلق عليها في البداية اسم “الكنيسة الكبرى”، ثم تطوّر هذا الاسم ليصبح “الحكمة المقدسة”، وهو معنى اسم “آيا صوفيا”[16].

استطاع المهندسون إعادة الكشف عن الرموز الدينية المسيحية في كنيسة آيا صوفيا من أجل تحويلها إلى متحف

نقوش أسماء الله الحسنى.. أسلمة قبلة الروم الأرثوذكس

بما أن البيزنطيين كانوا يعتنقون ديانة الروم الأرثوذوكس، فقد أصبح المكان الذي بنيت فيه “آيا صوفيا” بمثابة مركز روحي ومكان إقامة الإمبراطور البيزنطي بشكل دائم، واحتفظت “آيا صوفيا” بهذا الدور المحوري في بيزنطة طيلة 900 عام من وجودها في العهد المسيحي لإسطنبول.

ورغم تعرضها لبعض الأضرار خلال وقوعها تحت السيطرة الرومانية، فإنها خضعت للترميم بعد استعادتها من طرف البيزنطيين، قبل أن تكون “آيا صوفيا” على موعد مع أكبر تغيير تاريخي في وظيفتها بعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية على يد السلطان العثماني محمدة الفاتح، وذلك عام 1453 للميلاد.

فبما أنها كانت تلعب دورا محوريا في العهد البيزنطي، من خلال تجسيدها القلب النابض للمرجعية الدينية الرسمية للدولة، فقد احتفظت “آيا صوفيا” بهذه الوظيفة بعد الفتح الإسلامي، وصارت مسجدا بعد خضوعها لتعديلات معمارية استبدلت الرموز والرسومات المسيحية بكتابات ونصوص إسلامية من قبيل أسماء الله الحسنى.

كما عوضت الفسيفساء التي كانت تزين القبة الكبرى -ويعتقد أنها تجسد المسيح عليه السلام- بخط ذهبي مرصع، كما ركب محراب يشير إلى اتجاه القبلة، بينما أضيف إلى الشكل الخارجي للبناية أربع منارات لإضفاء طابع إسلامي على البناية، وفي الوقت نفسه دعمت لتصمد أمام الزلازل المتكررة التي تعرفها المنطقة، وفي عهد السلطان العثماني عبد المجيد الذي حكم الإمبراطورية منتصف القرن 19، خضعت “آيا صوفيا” لتجديد معماري شامل، وذلك على يد مهندسين سويسريين هما الإخوة “فوساتي”[17].

الإرهابي النيوزلندي قال:”يمكنكم البقاء شرق المضيق ولكن لا تبقوا غربه” حالما بعودة أسطنبول إلى حضن الكنيسة

حقبة الفاتح.. شرعية التاريخ والقانون

في الزمن الذي فتحت فيه القسطنطينية -أي منتصف القرن الخامس عشر- كانت القواعد الدولية المعمول بها في الصراع الطبيعي الذي يجري تاريخيا بين الدول فيجعلها تتمدد وتتقلص حسب موازين القوى؛ يقضي بهدم الرموز والمؤسسات الدينية التي ترمز للدولة السابقة، أو تحويلها إلى ديانة الدولة المسيطرة الجديدة، وذلك في حال كانت هذه السيطرة بقوة السلاح وليس عبر اتفاقية، وهو الأمر الذي جعل جلّ مساجد الأندلس تتحوّل وقتها إلى كنائس، بعد سيطرة المسيحيين على الإمارات الإسلامية التي كانت قائمة في شبه الجزيرة الأيبيرية[18].

لم تشمل هذه القاعدة كنيسة “آيا صوفيا” وحدها، بل شملت جلّ الكنائس التي وجدها المسلمون قائمة في القسطنطينية، ولا يرتبط الأمر بالضرورة بالحجة القانونية التي يدفع بها البعض لتبرير هذه الخطوة، والمتمثلة في شراء السلطان العثماني لكنيسة “آيا صوفيا” وتسليمها إلى الوقف الإسلامي.

وحتى إذا كان ذلك صحيحا فلا يعدو أن يكون جزءا من معاملة السلطان العثماني لمسيحيي المدينة ورجال دينها بالرفق والحسنى بعدما استعطفوه للإبقاء على بعض كنائسهم، بل إن بعض المصادر التاريخية تقول إن الأمر جرى باتفاق بين السلطان ووفد من رجال الدين المسيحيين واليهود الذين اعترفوا له بأحقية تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد، مقابل الاعتراف لهم بحقوقهم الدينية، وهو ما أقره السلطان العثماني بقبوله استمرار عدد من الكنائس، وتنظيمه انتخابات اختيار البطريرك الجديد ومنحه السلطة الدينية على مسيحيي الدولة العثمانية كلها[19].

وقد عمل هذا الإمبراطور البيزنطي على تحقيق التعايش بين الطوائف الأرثوذكسية المتنازعة داخل الكنيسة الشرقية، ونظم القانون الروماني في مدونة لا تزال مؤثرة في القوانين الحديثة، وقد انعكس المعتقد الفكري والديني للإمبراطور “جستنيان” في إبقائه بناية “آيا صوفيا” خالية من الأيقونات التي تزيّن بها الكنائس المسيحية عادة، إلى أن صعد نجم التيار المسيحي الذي يمجّد هذه الأيقونات في القرن التاسع للميلاد، لتزين قبة كنيسة “آيا صوفيا” وجدرانها برسومات من بينها تجسيد للمسيح عليه السلام[20].

لكن هناك من يذهب أبعد من ذلك، ويطعن في قانونية قرار تحويل آيا صوفيا إلى متحف في عهد أتاتورك، فالرئيس السابق لمؤسسة التاريخ التركي “يوسف هالاج أوغلو” يعتبر أن مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك لم يوافق على تحويله إلى متحف أبدا، ويشددّ هذا المؤرخ التركي على أن الجريدة الرسمية للقوانين التركية لا تتضمن أي مرسوم يحول “آيا صوفيا” إلى متحف كما ينسب إلى أتاتورك، لسبب واحد هو أن أتاتورك لم يوقّع على القرار. وتذهب بعض الروايات إلى أن توقيع أتاتورك تعرّض للتزوير لاحقا، لمنح الشرعية لقرار تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف[21].

 

المصادر

[1] shorturl.at/lmoWX

[2] shorturl.at/kABT0

[3] shorturl.at/vwMN5

[4] shorturl.at/djHN6

[5]shorturl.at/GKY46

[6] shorturl.at/aBEN7

[7] shorturl.at/hHNR4

[8] shorturl.at/uGIUY

[9] shorturl.at/jGJ89

[10] https://www.herodote.net/11_mai_330-evenement-3300511.php

[11] shorturl.at/kosEO

[12] https://www.history.com/topics/ancient-greece/hagia-sophia

[13] https://www.youtube.com/watch?v=ih0GgwPH5IQ

[14] https://www.history.com/topics/ancient-greece/hagia-sophia

[15] https://www.history.com/topics/ancient-greece/hagia-sophia

[16] https://www.youtube.com/watch?v=ih0GgwPH5IQ

[17] https://www.history.com/topics/ancient-greece/hagia-sophia

[18] https://www.youtube.com/watch?v=ih0GgwPH5IQ

[19] https://www.youtube.com/watch?v=ih0GgwPH5IQ

[20] shorturl.at/ajtJS

[21] https://www.turkpress.co/node/59457


إعلان