مذكرات “حرب أكتوبر”.. معركة حروف الشاذلي التي استغرقت 30 عاما
غالبا ما تتسم العلاقة بين الطغمة الحاكمة وكل من يعارضها في الرأي والفكر بالتوتر والريبة، ويحتدم الصراع عند صدور مقالة أو منشور أو كتاب ينطق بما لا تشتهي السلطة، ومن الأمثلة الواضحة على هذا الصراع ما مثّله نشر كتاب مذكرات الفريق سعد الشاذلي عن حرب أكتوبر1973، إذ لم ترحب به السلطة متمثلة في السادات ولم تهضمه، وانبرت له اتهاما وتشكيكا، حتى بلغت ذروة الصراع أن منعته السلطة من النشر والتداول.
ولم يقتصر الأمر على السادات وحده، بل سار خلفه مبارك على نفس النهج، فلم يكتب لهذه المذكرات أن ترى النور إلا بعد ثورة 25 يناير 2011، حينها عرف الناس الكثير من أسرار حرب 73.
وقد أفردت الجزيرة الفضائية حلقة خاصة من برنامج “خارج النص” لمناقشة هذا الكتاب وعرض الآراء التي تؤيد الفريق الشاذلي، والآراء الأخرى التي تعارضه.
سعد الدين الشاذلي.. رجل الحرب الذي أقصاه رجل السلام
يعتبر الفريق سعد الدين الشاذلي أحد ألمع الأسماء العسكرية في تاريخ مصر الحديث، وقد تولى رئاسة أركان الجيش المصري قبيل حرب أكتوبر 1973، وكان مهندس خطة الحرب التي خاضت بها مصر حرب التحرير، ولكنه لم يلق التقدير الذي يستحقه من القيادة العليا للجيش ولا من القيادة السياسية، سواء أثناء خدمته أو حتى بعد إقالته في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه 1973.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الرئيس السادات أمر بإزالة كافة صور الشاذلي من بين صور الحرب، في محاولة لطمس دوره في الانتصار الكبير، بل وفي لحظة من لحظات ما بعد الحرب قام السادات بتجريده من سلاحه الشخصي، في إشارة إلى عدم رضا القيادة عنه.
كان الفريق الشاذلي شخصية رائعة، وكانت ذهنيته الحربية المتوقدة تثير أحقاد الكثيرين من أقرانه، ولذلك تعرض لظلم كبير وشوهت صورته وبخَسه الذين حوله حقه، ورغم أنه لم يكن بينه وبين السادات قبيل الحرب ما يثير الانتباه إلى وجود خلافات، فإن الأمر لم يبق على حاله بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
ومن مظاهر هذه الخلافات أن السادات تجاهله ولم يكرمه كما كرم زملاءه قادة الحرب في 1974، وتمثل أوج هذا الصراع في صدور كتاب مذكرات الشاذلي عن الحرب.
“البحث عن الذات”.. رواية السادات المغشوشة للحرب
كانت قصة الكتاب ردا على القصة التي أراد السادات نشرها عن الحرب، من خلال كتابه “البحث عن الذات” الذي صدر عام 1978، ولم يُذكر فيه الشاذلي إلا في أربعة سطور ألقى فيها باللائمة عليه في كل الأخطاء التي وقعت أثناء المعارك.
فما كان من الشاذلي إلا أن رد عليه بهذا الكتاب “حرب أكتوبر.. مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي” الذي صدر عام 1979، وقد كشف زيف قصة السادات وكذبها، وحكى فيه وقائع الحرب كما هي، وكواليس غرف العمليات الحربية، والأخطاء الإستراتيجية القاتلة التي يتحملها السادات نفسه بصفته القائد الأعلى للجيش.
جاء الكتاب في ثمانية فصول أرخ فيها الشاذلي لفترة الإعداد للحرب، مرورا بكل العمليات الحربية والتحركات العسكرية وكواليس غرف العمليات طيلة فترة الحرب.
وقد انقسم الناس حول محتويات الكتاب ما بين مؤيد ومعارض، فبينما ذكر المؤيدون أن الكتاب كان أحسن ما كتب عن حرب 73، وأوثق الشهادات على يوميات الحرب وأخطائها، فقد كان المعارضون للشاذلي يقولون إن الكتاب جاء انتصارا للذات من خلال تقزيم الآخرين، وتحجيم دورهم وإظهار أخطائهم.
عبور القناة وتدمير بارليف.. خطة المآذن العالية
كانت نقطة الخلاف الكبرى بين الشاذلي والسادات أن الشاذلي كان مقتنعا إلى درجة الإيمان أن الحرب يجب أن تكون محدودة، وأن أهدافها يجب أن تكون عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف والتقدم شرق القناة 10 إلى 12 كيلومترا فقط والتموضع الدفاعي هناك.
وضع الشاذلي تصوراته عن الحرب في خطة أسماها “خطة المآذن العالية”، ولكن لم يرد ذكر هذه الخطة في أي من المراجع العسكرية المتوفرة، وكذلك الأمر بالنسبة للخطط الأخرى مثل “بدر” و”شرارة” اللتين وردتا فقط في مذكرات الشاذلي، مما يوحي بمحاولة طمس هذه الخطط.
أحمد إسماعيل.. عدو عدوي صديقي
أفرد الشاذلي في كتابه فصلا خاصا عن تعيين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية، ووصف هذا التعيين أنه كان قراراً خاطئا لا يخدم مصالح مصر، بل يخدم مصالح السادات الشخصية وطموحه فقط، إذ يقول: وكان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل بكثير مما حقناه في هذه الحرب لو كان هناك قائد عام أكثر قوة وأقوى شخصية وحضورا من الفريق أحمد إسماعيل.
ويُرجِع كثير من المراقبين الخلاف بين أحمد إسماعيل والشاذلي إلى أيام مشاركة الشاذلي في حرب الكونغو ضمن قوات الأمم المتحدة، حيث حصلت مشادة قاسية بينه وبين إسماعيل، وقد استغل السادات هذه الحادثة بذكاء حين عين أحمد إسماعيل قائدا للشاذلي حتى يضمن ولاء الجيش له.
ثغرة الدفرسوار.. خطأ سياسي يقلب موازين الحرب
ظلت كفة الحرب في صالح المصريين بعد العبور، حتى أصدر السادات أوامره بتوسيع جبهة القتال شرقا والتوغل في سيناء، وهو قرار عارضه الشاذلي بشدة واعتبره من أكبر أخطاء القيادة السياسية التي ستغير مجرى الحرب.
وظهر هذا جليا في يوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر حين استدرج العدو الصهيوني الدبابات المصرية إلى مناطق اختارها بعناية في وسط صحراء سيناء، وهناك كانت مجزرة مدرعات فظيعة خسر فيها الجيش المصري 250 دبابة دفعة واحدة، وهو رقم أكبر بكثير مما خسره طيلة أيام الحرب الثمانية الفائتة.
لم يكن تطوير خطة الحرب لصالح القوات المصرية، فقد أرسلت الدبابات خارج إمكانيات الدفاع الجوي مما سهّل اصطيادها. لقد كان قرارا سياسيا بامتياز، بحجة معلنة مفادها تخفيف الضغط على الجبهة السورية، ولكنه كان خاطئا، وكان يمكن مشاغلة القوات الصهيونية دون التضحية الكبيرة هذه.
وكانت حجة خطة التوغل المعلنة أنها دعم للجبهة السورية في الظاهر، أما غير المعلن الذي كشفه الشاذلي في مذكراته، فهو أن السادات كان يحضر لإلقاء خطاب في مجلس الشعب، بحيث يصل صوته من موقع قوة إلى أمريكا وإسرائيل، وأنه يريد سلام الشجعان.
طلب الشاذلي من وزير الحربية سحب ما بقي من القوات المدرعة إلى غرب القناة، لسد ثغرات كانت قد نتجت عن خطة تطوير الحرب، ولكن الوزير رفض العودة، وهنا استغلت القوات الصهيونية ما سمّي “ثغرة الدفرسوار”، واخترقت القناة ثانية باتجاه الغرب. وبينما كان السادات يلقي “خطاب النصر”، كانت “غولدا مائير” رئيسة وزراء العدو تعلن أن قواتها “تقاتل في قلب أفريقيا”.
تهمة المساس بأمن الدولة.. محاكمة عسكرية مرفوضة
حاول السادات إلصاق التهمة بخصوص ثغرة الدفرسوار بالفريق الشاذلي، وهو ما دحضه الشاذلي بشدة في مذكراته، بل وختم كتابه ببلاغ إلى النائب العام، يطالب فيه بمحاكمة السادات بعدة تهم على رأسها الإهمال الجسيم، والأخطاء الفادحة التي أدت إلى حصول الثغرة، وتحجيم قيمة النصر للقوات المصرية.
لم يكتف السادات بمنع طبع الكتاب في مصر والدول الشقيقة والصديقة، بل طلب أن يحاكم الشاذلي بمحكمة عسكرية في عدة تهم منها المساس بأمن الدولة، غير أن المحكمة العسكرية رفضت الدعوى بحجة أن الكتاب ليس فيه أسرار عسكرية تعرض أمن الدولة للخطر.
خلف القضبان.. ظلم العسكر وإنصاف الثورة
وقعت محاكمة الشاذلي عسكريا سنة 1983 في عهد حسني مبارك، وقضى في السجن الحربي مدة عام ونصف، تنفيذا لحكم عسكري كان القضاء المدني قد ألغاه، وخلال فترة سجنه كان رجال مبارك يتصلون بالشاذلي من أجل إقناعه بتقديم التماس رئاسي للعفو عنه، إلا أن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل، فأفرج عنه بعفو عام شمل كثيرين غيره.
انتظر الشاذلي طويلا قبل أن يعرف الناس الحقيقة، وطافت مذكراته الآفاق في كل البلاد إلا في مصر المحروسة، حتى جاءت ثورة يناير لتنصفه، ومات قرير العين في العاشر من شباط/ فبراير 2011، بعد أن تنحى الذين ظلموه وسجنوه عن الحكم، وأنصفه الدكتور محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب بعد الثورة، فكرم ذويه وأعاد له هيبته بعد وفاته.