“تدمير أمة”.. قصة العراق الذي أنهكته الحرب 40 عاما

كم من قنابل هبطت من سماء العراق على رؤوس أهله خلال أربعة عقود؟ إن تاريخ العراق المعاصر حافل بالحروب، وتروي لنا قصة تدميره على مدار الأربعين عاما الماضية سلسلة وثائقية من أربعة أجزاء هي “العراق.. تدمير أمّة” (Irak, Destruction d’une Nation)، إذ توثّق الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية عام 1980، وحتى سقوط داعش عام 2017.

إنه فيلم وثائقي تاريخي للفرنسي “جان بيار كانيه”، وقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات، ويسرد في حلقات أربع مدة كل منها 55 دقيقة تسلسل أحداث ذات تركيبة معقدة “اختلطت وتشابكت مع الزمن، وتتجلى فيها رؤية العالم القصيرة المدى”، وذلك في فترة “يتسارع الزمن فيها وتضعف الذاكرة”، كما يقول المخرج في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية.

عُرض الفيلم في المحطة الفرنسية الخامسة العامة بأجزائه الأربعة في أمسية واحدة (225 د)، فيها سرد تاريخي دقيق للأحداث، مع الربط بتحليلات وتبريرات هؤلاء الذين ساهموا فيها وأولئك الذين عانوا منها، وكشف بالأدلة والشهادات والاعترافات عن كذب القادة الأمريكيين الذين بدأوا الحرب، وصور أرشيفية وأخرى ملتقطة بالدرون لعراق مُدمّر، ولا سيما الموصل.

شهادات استثنائية.. شخصيات من الصفّ الأول

هو فيلم يمكن ترقب ما فيه ومعرفة خطوطه العامة، لكن متابعته تفرض نفسها من الجزء الأول، وذلك لأسلوبه الإخراجي المُحفز للمتابعة، واستعانته بشهادات غير مسبوقة واستثنائية لشخصيات من الصف الأول، منها شخصيات أمريكية مثل “بول برايمر” و”لورنس ويلكيرسون” مدير مكتب وزير الخارجية السابق “كولن باول”، والجنرال “ديفيد بتريوس” المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، إضافة إلى شخصيات فرنسية مثل “فرانسوا هولاند” و”برونو لامير” و”رولان دوما” و”جان بيار شوفنمان”.

كما استعان الفيلم بشهادات سياسيين محليين مثل نوري المالكي ومسعود البرزاني رئيس كردستان العراق بين (2005 و2017)، وأسامة النجيفي الزعيم السني ونائب الرئيس العراقي (2016 – 2017)، ومواطنين عراقيين من فئات وانتماءات مختلفة، منهم شيخ قبيلة السبعاوي، ومواطن جندي سابق من الموصل.

وكانت شهادات هؤلاء تأتي كردّ على ما كان يقوله السياسيون، كعينات من الواقع تكذّب ادعاءات البعض عن الطائفية والاهتمام بتحسين أمور الشعب، كما شرح بعضهم دوافع تأثر محيطين بهم بداعش أو آخرين بالقتال ضد الأمريكيين.

كيف سيبرر المساهمون ما جرى؟ وكيف ينظرون للأمر الآن والعراق نتيجة سياساتهم مدمر بالكامل؟ وكيف يكشف المعارضون عن كواليس السياسات تجاه العراق ورحلته في الهبوط إلى الجحيم؟

يتنقل الفيلم بين المناطق، ويعتمد أسلوب التحقيق والكشف، فالمخرج كان مدير تحرير برنامج تلفزيوني شهير في فرنسا هو “مراسل خاص” (Envoyé Spécial).

في الفيلم تُروى الأحداث بتسلسلها التاريخي، مع الإحاطة بأهم العوامل التي دفعت باتجاهها، وتأتي عناوين أجزائه على صلة بمصير صدام حسين، إذ اختار المخرج شخصية الرئيس صدام كخيط مشترك لاستعادة الأربعين عاما، مع حربين وحصار وحكمين ديكتاتوريين، فتلك عوامل أدت كلها إلى الفوضى في العراق، وقد جاء ترتيب الأجزاء تحت عناوين “الحليف” و”الخصم” و”المُدان” و”الشبح”.

“الحليف”.. حلف الغرب والطاغية لكبح إيران

كانت البداية مع اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ولا سيما في محيط ملعب فرنسا في “سان دوني”، حيث فجّر ثلاثة رجال أنفسهم، وكان أحدهم عراقيا. يتابع الجزء الأول من السلسلة المعنون بـ”الحليف” التذكير بالعلاقات العميقة التي ربطت في السابق بين العراق وفرنسا، عبر النفط والنووي والتسلح، وهذا بعد سرد سريع لوصول صدام حسين للحكم، وطُرقه الدموية للحفاظ عليه.

يتابع الوثائقي أحداث الثمانينيات والتوتر الذي صار بين العراق وإيران بعد ثورتها، حيث يعتبر صدام من وجهة نظر الغربيين حاجزا مهما وأساسيا ضد تصاعد نفوذ إيران، وذلك مع سياساته العلمانية مقابل التوجهات الدينية لحكام إيران.

كانت الحرب “خطأ تاريخيا”، هنا يكشف الفيلم أسرار إعارة فرنسا للعراق طائرات فرنسية مقاتلة في الحرب، ويربط بينها وبين تفجير ضد الجنود الفرنسيين والمارينز في بيروت عام 1983، وهي الحادثة التي كانت إيران خلفها وفق شهادات المخابرات.

لقد اعتُبر صدام الطاغية في فرنسا حليفا، لدرجة أنهم أغمضوا الأعين عن استخدامه للأسلحة الكيميائية، مما جعله يثق أكثر بمكانته لدى الغربيين، وبأنه محمي منهم.

“الخصم”.. عاصفة الصحراء التي مزقت وهم الحليف

عند هذا التحوّل المصيري تنتهي الحلقة الأولى، ليتحول صدام خصما في الحلقة الثانية، وهو الذي اعتقد بعد الحرب ضد إيران أنه لا يمكن المساس به، ها هو يغزو الكويت في 1990، وذلك في قرار ستكون له نتائجه المدمرة على النظام وعلى البلد ذاته.

في “الخصم” يعود المخرج مطوّلا إلى عملية عاصفة الصحراء التي نفّذها الأمريكيون وحلفاؤهم عام 1990 لمواجهة غزو الكويت، وجاءت شهادات “رولان دوماس” (وزير الشؤون الخارجية الفرنسي من 1988 إلى 1993) الذي كان يؤيد الحرب على العراق، و”جان بيير شوفنمان” (وزير الدفاع بين 1988 و1991) الذي كان يرفضها، ليبين مدى الارتباك الفرنسي أمام التدخل في العملية.

كما كشف الأكاذيب العديدة التي نظمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتواجه رأيا عاما عالميا برفض الحرب، ومنها ما أشار له “شوفنمان” من ادعاء ابنة سفير الكويت في واشنطن أمام الأمم المتحدة بأنها ممرضة رأت الجنود العراقيين يسرقون حاضنات الأطفال الخُدّج ويتركونهم يموتون.

كانت الحرب مذبحة، وبات البلد مدمرا من شماله إلى جنوبه، وجاء الحصار ليكمل على العراق من أنهار ملوثة -بسبب منعه من استيراد الكلور- وأراضي جافة وأدوية معدومة، “لقد أدار العالم ظهره للعراق”.

كما يعود الفيلم مطولا إلى استقالة مسؤولين في الأمم المتحدة احتجاجا على قتل أطفال العراق، واتهامهم من قبل الأمم المتحدة بمخالفة قوانينها، ويشير إلى توجه إسلامي لصدام مثل وضع “الله أكبر” على العلم، وانتقام صدام من الشيعة.

أطفال العراق الذين فقدوا طفولتهم وكبروا قبل أوانهم بسبب الحروب المتتالية على العراق

“المُدان”.. أكذوبة عالمية لإسقاط صدام

في هذا الجزء يعود الفيلم إلى أحداث 11 سبتمبر/أيلول كفرصة للحكومة الأمريكية لإسقاط صدام، لكن لماذا وليس بين أفراد الهجوم أي عراقي؟

استعاض الأمريكيون عن ذلك بتوجيه اتهامات عدة للعراق منها العلاقة مع القاعدة، وذلك على الرغم من معارضة الأمم المتحدة وجزء من المجتمع الدولي وعلى رأسه فرنسا، وقد انتقدت شهادات المسؤولين الفرنسيين في الفيلم الأكاذيب المقدّمة من واشنطن لإعلان الحرب على العراق، فالعراق لم يكن يشكل تهديدا ولا علاقة له مع القاعدة، كما أنه لم يشتر اليورانيوم من النيجر، وهذا في ردّ على وثيقة مزورة بهذا الخصوص قدمتها واشنطن.

لكن المسؤولين الأمريكيين “جورج بوش” و”دونالد رامسفيلد” و”ديك تشيني” لم تكن تهمهم غير أمريكا، وكما قال “تشيني” فإن “أمريكا هي رقم 1 و2 و3 ولا شيء آخر يهمني”. كما كشف الفيلم بالتفصيل كيف دفع “كولن باول” ليلقي في الأمم المتحدة خطابه الشهير الذي اعتبره فيما بعد “خطأ خطيرا”.

لقد سقط النظام وانتشرت الفوضى ووصل “بول برايمر”، لكن لم تكن هناك أية سياسة حقيقية وخطط لما بعد الحرب، واعتبرت شهادات أن الخطأ الكبير كان في حلّ الجيش العراقي وإبعاد البعثيين (كثير منهم كانوا كذلك غصبا)، وهنا بدأت داعش بالتشكل.

جندي أمريكي يقوم بإزالة صورة الرئيس العراقي السابق صدام حسين من إحدى المدارس في العاصمة بغداد بعد سقوطها

“الشبح”.. فوضى ما بعد سقوط بغداد

انقسم العراق غداة إعدام صدام كما لم ينقسم من قبل. وفي هذا الجزء الأخير من الوثائقي المُعنون بالـ”الشبح” تعريف بالشيعة وقادتهم، وإشارة إلى الحرب الأهلية مع السنة عام 2007، فالعراق بات فخا للأمريكيين وهم عاجزون أمام انتشار الإرهاب، وسرد لمحاولتهم تغيير خططهم عبر تمويل مقاتلين سنة للوقوف أمام القاعدة.

ومع وصول الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” انتهت عملية “العراق حرّ”، فقد سحب القوات الأمريكية عام 2011 بدون تفكير بانعكاسات ذلك، وقد سمح لإيران بتمديد نفوذها وسمح لداعش بالانتشار.

“ولكن، ماذا ننتظر من الأمريكيين؟” يقول مواطن عراقي في الفيلم “هم يسعون لمصلحتهم فقط، ليسوا إنسانيين، يدّعون ذلك في أفلام هوليود، حيث البطل الأمريكي هو المنقذ للإنسانية”. وها نحن بعد ثلاثين عاما من حرب الخليج و”لسنا إلا في بداية عدم الفهم الكامل لتاريخ العراق الحديث”، كما يقول مخرج الفيلم ويتابع “لم نتساءل بما فيه الكفاية عن دور الغزو الأمريكي عام 2003 في الأحداث اللاحقة، وتلك التي قادت إلى انهيار الجيش العراقي بالتوازي مع صعود داعش”.

مدينة الموصل العراقية التي تحوّلت إلى منطقة مدمرة بالكامل بسبب الحروب التي تتالت عليها

خراب العراق.. آثار الغرب على العالم

يقول “جان بيار كانيه” في حوار مع مجلة “أوبس” الفرنسية “إن العراق خلال أربعين عاما تحوّل من دولة واعدة وحديثة إلى منطقة مدمرة بالكامل، وقد شهد عدة حروب بينها حرب أهلية وحصار صارم لمدة 12 عاما، وولادة داعش “التداعيات كانت عالمية وأثرت على حياتنا، خاصة في فرنسا، بهجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015”.

لهذا السبب اختار المخرج افتتاح المسلسل بهذا الحدث، لقد كان أحد الإرهابيين الذي فجر نفسه في ملعب فرنسا عراقيا من الموصل، كما أنه قبل بضعة أشهر كانت “الشبكة العراقية” متورطة بالفعل في الهجمات على “شارلي إبدو” والمتجر اليهودي، ويتابع المخرج “بدون التقليل للحظة واحدة من مسؤولية الإرهابيين، هذه هي النتائج المباشرة للسياسة الغربية في العراق على مدى العقود الماضية”.