“صوت البحر”.. سفينة السلام والإذاعة المبحرة في المياه الدولية

تضمن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكل شخص حرية الرأي والتعبير، وهذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، كما تضمن حرية وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، وعلى الرغم من وجود هذا الإعلان، فإن الحكومات في كثير من دول العالم احتكرت البث الإذاعي، وصادرت أصوات المواطنين، لكن بعضهم رفض ذلك الأمر وتمرد عليه، وقرر أن يسمع صوته للعالم، حتى لو اضطر لاستخدام السفن كمنصات للبث.

منذ العام 1925، أصبحت الإذاعات أداة مؤثرة، وأدركت الحكومة البريطانية خطورة توفرها في أيدي الشركات الخاصة والأفراد كما يقول “بيتر مور” مالك إذاعة كارولاين، لذا قامت بمنع أي جهة باستثناء هيئة الاذاعة والتلفزيون البريطاني “بي بي سي” من الحصول على إشارات إذاعية، وأصبحت هي الجهة الوحيدة القادرة على البث، وفرض مسؤولوها على الناس ما يجب أن يسمعوه.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “صوت البحر”، نتعرف على اثنتين من هذه الإذاعات التي قررت عدم الاستسلام، وهما راديو كارولاين البريطاني وراديو صوت السلام الإسرائيلية.

“رونان راهلي”.. بداية في ذكرى في الثورة

في بداية الستينيات من القرن الماضي طرقت فكرة إنشاء إذاعة خاصة ذهن المؤسس “رونان راهلي” الذي فكر في تخطي الحظر المفروض على الإذاعات من خلال الالتفاف على القانون والبدء من خارج أراضي بريطانيا، وكانت الفكرة أن يجعل محطة البث سفينة تبحر خارج المياه الإقليمية البريطانية.

لم يكن هدفه الربح المادي، لكن نشأته أثرت عليه، وكان هدفه تحقيق ما يرنو إليه، فقد كان والده جمهوريا أيرلنديا، أما جده فقتل في ثورة عيد الفصح عام 1916 حين انتفض ضد البريطانيين، ومن هنا نشأت الفكرة.

بيتر مور صاحب راديو كارولاين الذي بث أول مرة من البحر بعيدا عن قوانين السلطات البريطانية

أطلق “رونان” البث في عيد الفصح عام 1964 في ذكرى الثورة التي استطاع فيها الثوار السيطرة على مدينة دبلن بشكل مؤقت، وكان يقول: تعادلنا الآن مع الحكومة بطريقة سلمية.

الجميع يعرفون أن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه الحكومة، فالسلطة ستتغلب في النهاية، لكن “بيتر مور” يرفض هذا الواقع ويقول: كان موقفنا أننا لن نسمح للحكومة بذلك، وأننا لن نعيش حياتنا بقوانين غيرنا، كان “رونان” عازما للغاية ومن الصعب إيقافه، فلم يكن تقليديا مثل معظم الناس.

كان مقدم البرامج في الإذاعة “جوني لويس” في ربيعه السابع حين بدأ الاستماع لها، وبعد أعوام قليلة انضم للعمل مع طاقمها، وكان عمره آنذاك 16 عاما. أبحر راديو كارولاين في جميع أنحاء المملكة وشاركهم لويس نشاطاتهم، وعمل في مجال الهندسة، حيث كان الفريق يواجه مشاكل في المولدات، وعمل معهم في فحصها كان ذلك قبل أربعين عام وما زال يفعل الشيء نفسه، بالإضافة إلى أنه مذيع فيها.

“كنا رجالا مجانين لا نقبل الاستسلام”.. عالم الماء السري

يتحدث مقدم البرامج “راي كلارك” عن تجربته بقوله: نشأت منذ الصغر على الاستماع للموسيقى الرائعة التي تبثها الإذاعة، كان جميع العاملين فيها من الشباب، لقد عملوا على متن سفينة صدئة متحملين الصعاب ليحضروا للجمهور أغاني البيتلز.

ويتابع: أتيحت لي فرصة لزيارة المحطة، وكنت من المعجبين بها ودعيت للعمل فيها، كان الأمر يشبه مجتمعا سريا في محطة كارولاين، فالجميع يحمل اسما مستعارا لأسباب قانونية، ويشترط للعمل فيها وجود الثقة بين أعضاء الفريق، فمجرد تسرب أخبار عن الأعضاء ربما تتسبب لأحدهم بالسجن.

“مي أميغو” السفينة الأصلية لإذاعة كارولاين، والتي غرقت عام 1980

حمل “راي كلارك” اسم “ميك ويليامز” على مدى سنوات خلال عمله في الإذاعة، بينما كان اسم “جوني لويس” المستعار في سبعينيات القرن الماضي “ستيفان بيشوب”، لكن حدثت معه طرفة، فالشخص الذي كان موجودا قبله عندما عاد إلى سفينة كارولاين كان يعرفه أثناء عمله في إذاعة الجمهورية الإيرلندية، وقدمه باسمه الحقيقي على الهواء، ووقتها قرر التخلي عن اسمه المستعار.

يقال إن البريطانيين يحبون مساندة الأشخاص المستضعفين، وكان راديو كارولاين مؤسسة من هذا القبيل كما يقول “بيتر مور”: لدينا عدد من الأشخاص ذوي العزيمة، كنا رجالا مجانين لا نقبل الاستسلام، حتى عندما كنا نعمل في ظروف مروعة ونواجه خطر الموت كنا نبث أغاني “الرولنغ ستونز”، وهذا ما يدلل على أهمية تلك الأغاني في ذلك الوقت.

“ليزر 558”.. حرب الحكومة على إذاعات البحر

في عام 1985 حدث ما يسمى بحصار اليورو، فقد حاولت الحكومة إغلاق الراديو. يقول “جوني لويس”: كان معنا في نفس المنطقة البحرية محطة أخرى اسمها “ليزر 558″، وقد أرسلت الحكومة عدة مرات قاربا لتهديدنا، لكننا لم نهتم، كانوا يتحدثون عنا في كل المحطات الإخبارية حول العالم التي غطت محاولة الحكومة إيقافنا، لذا بدا الأمر وكأننا أنفقنا عشرين مليون باوند على الإعلان والترويج، وكان للإجراءات الحكومية ضدنا رد عكسي على الحكومة، إذ كانت لصالحنا.

ومع وجود محطة “ليزر 558” التي كانت لها شعبية، فكرت الحكومة بأن وجود محطتين ناجحتين سيكون دافعا لوجود محطات أخرى، فقررت وقفهما، في الوقت الذي كان فيه قطاع الإذاعة البريطاني يقول للسلطات إن الجميع يستمع إلى هؤلاء القراصنة بينما لا يستمعون إلينا، ونحن ندفع لكم المال حتى نتمكن من البث، عليكم فعل شيء حيال ذلك، وكان الإجراء المناسب هو منع وصول المساعدات إلى السفينة مثل الطعام والماء والوقود، بمعنى العمل على تجويعهم ليستسلموا.

لم تتجرأ الحكومة البريطانية على إيقاف بث راديو كارولاين، فأوعزت إلى حليفتها هولندا التي قرصنت بجنودها كل ما على متن السفينة وتركتها خالية

لم تكن السنوات الأولى لكارولاين على درجة عالية من المهنية، لكن لم يسبق لأحد الاستماع إلى هذا النوع من الإذاعات، وقد حظيت بحب الجمهور في الأشهر الأولى من البث، فكان لديها جمهور أكثر من جميع شبكات بي بي سي مجتمعة، وهذا ما أشعل المعركة مع الحكومة.

حاولت الحكومة بشتى الطرق إغلاق المحطة، لكنها لم تنجح، وجرت بينها وبين فريق الإذاعة عدة مواجهات في الماء أشبه بلعبة القط والفأر، لكنهم في النهاية فشلوا في المهمة، وتركوها تعمل.

كان من الممكن للإذاعة أن تنخرط في السياسة كما في عام 1965 إذ فعلت ذلك لفترة قصيرة، لكن طاقمها فضل لمعظم الوقت بث الموسيقى فقط، إذ أن العمل بالسياسة سيضطر الحكومة لوقفها بأي وسيلة.

“كانت مغامرة كبيرة”.. غزو هولندي للمحطة

كان على متن السفينة محطتان إحداهما تبث باللغة الإنجليزية والأخرى تبث باللغة الهولندية، وكانت المساهمة الهولندية بإحضار كل شيء على متن السفينة مثل الماء والطعام والوقود والمال، ولم تكن الحكومة الهولندية ترغب بذلك، وفي عام 1989 خرجت سفينة من إنجلترا وتحدثوا إلى الطاقم وطلبوا منهم التوقف عن العمل، وأخبروهم أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فسيحدث أمر أكثر شدة، لكن قانون البحار كان يحمي المحطة وطاقمها، فلا يمكن الصعود إلى ظهر سفينة في المياه الدولية دون أن يطلب طاقمها ذلك.

في اليوم التالي قدمت سفينة أكبر من هولندا هذه المرة واصطفت بجانب سفينة المحطة، وصعد عناصر الشرطة الهولندية وخفر السواحل وهم يحملون أسلحتهم على متن السفينة واستولوا عليها، لقد قاموا بتدمير كل شيء في السفينة في وضح النهار، وصادروا جميع المعدات.

جوني لويس مقدم برامج على متن سفينة إذاعة كارولاين

يقول “راي كلارك”: كانت مغامرة كبيرة، نعم كنت أخالف القانون ولست معتادا على ذلك، لكن إذا كان أسوأ ما فعلته في حياتي أن أجلس على متن السفينة وأقوم ببث أغاني البيتلز، فليست لدي مشكلة وضميري مرتاح، فإذا كان الناس يدفعون المال من أجل رحلة بحرية، فنحن كنا نعزف الموسيقى ونستمتع مع أصدقائنا الذين أرادوا أن يكونوا جزءا من راديو كارولاين.

تأثير الجمهور.. خطوات تسبق الإذاعات الحكومية

اعتاد طاقم المحطة مناقشة الموسيقى التي كانت تبث، فالأمر مختلف عن العمل على الأرض، حيث يأتي شخص ينجز عمله ثم يعود إلى منزله، فقد كان الطاقم يجلس في مكتبة أرشيف الأغاني يتحدث حول الموسيقى.

وبفضل الجمهور الكبير للمحطة، فقد كانت شركات التسجيل ترسل تسجيلات الأغاني الحديثة، وكان للمستمعين مجال في اختيار الأغاني المفضلة، وهذا أمر لم تفعله محطات الراديو في بريطانيا، لقد كان للمستمعين تأثير على الإذاعة، وهذا مكمن جمال الموضوع.

تم تحديث إذاعة كارولاين بشراء سفينة جديدة أطلق عليها المذيعون لقب “السيدة” لقوتها ومتانتها

في عام 1990 نفد المال من محطة كارولاين، ولم تتمكن من البث، وكان هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لمحطة إذاعية. يقول بيتر مور: كانت الظروف سيئة، لم نتوقع أن نعيش تلك اللحظات.

ويتابع: لقد أثر عدم وجود المال على أعمال الصيانة في السفينة، مما تسبب في غرقها وأنقذنا بفضل تدخل القوات الجوية البريطانية، وكان ذلك حظا كبيرا، إذ سبق أن غرقت سفن عديدة في هذا الجزء من الساحل ولم يجرِ إنقاذ أي منها.

تتمتع محطة كارولاين اليوم بترخيص، وأصبحت تبث من النهر وليس من المياه الدولية، لكن الفرق بينها وبين بي بي سي أن كارولاين لا تزال تبث من سفينة على الماء وهم على اليابسة.

“في الأيام الأخيرة في البحر أصبحت الحياة لا تطاق”

على متن السفينة الأصلية لكارولاين “مي أميغو” التي غرقت عام 1980، كان من بين الأمور الأكثر تحديا أن السفينة قديمة جدا، وأخذت المياه تتسرب داخلها، وكان الفريق يقوم بتفريغ المياه عن طريق ضخها في البحر، وفي أحد الأيام العاصفة كان الفريق في الطابق السفلي وأخذ الماء يرتفع، فبدأوا بضخ الماء إلى الخارج، لكن بعد ذلك تسرب مرة أخرى، فاستخدموا قطعا خشبية لسد الثقوب، لكنهم مع انشغالهم لم يدركوا خطورة الموقف، وكانوا أقرب إلى الموت في تلك اللحظات.

يقول “بيتر مور”: في الأيام الأخيرة في البحر أصبحت الحياة لا تطاق، كنا في منطقة بريدجبورت، ولم يعد باستطاعتنا أن نبقى قراصنة بعد اليوم، فكرنا مليا: ما هي العناصر الأساسية لكارولاين؛ بث موسيقى جيدة، ووجود سفينة، وأن تكون مستقلا وغير مدين للبنوك، ببطء وبصعوبة أعدنا بناء أنفسنا مع الحفاظ على الاستقلال.

إذاعة “صوت السلام” على متن سفينة تبث من البحر المتوسط على سواحل فلسطين المحتلة

ويقول “راي كلارك”: الآن نعمل بشكل مرخص، لم نكن جواسيس ولا إرهابيين ولا أشخاصا سيئين، كل ما أردناه هو بث الموسيقى، بعض السياسيين يجدون صعوبة في فهم ذلك إلى حد اليوم.

ويعلق “جوني”: لو استطاعت الجدران التحدث فلن تتوقف عن الكلام، ستروي كثيرا من القصص عن كارولاين. لقد أبحرت في غودوين في بحر الشمال، ودخلت في رمال بحرية ونجت، ورغم الأجواء القاسية فإنك تشعر بالأمان على متنها، لذا فنحن ندعوها بالسيدة.

“عندما تبث من البحر فأنت طائر حر”.. صوت السلام

لم يكن راديو كارولاين الوحيد الذي اختار البحر للبث، بل تبعته محطات أخرى كراديو صوت السلام الذي ركز على السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين. يقول الصحفي والمؤرخ الإسرائيلي “جدعون ليفي”: فكرة البث على متن قارب كانت نابعة من الحاجة لذلك، لأنه لم يستطع الحصول على ترخيص هنا من السلطات الإسرائيلية.

ويضيف: عندما تبث من البحر فأنت طائر حر تفعل ما تشاء، بينما يحتاج إنشاء محطة في ذلك الوقت إلى الالتزام باللوائح والإجراءات.

جاءت فكرة إذاعة صوت السلام من صاحبها الطيار “أيبي ناثان” الذي كان يقصف الفلسطينيين في حرب 1948

كان “أيبي ناثان” مؤسس هذه المحطة متأثرا جدا بما قام به في حرب 1948، حين كان يقصف القرى الفلسطينية، ويقتل فيها المدنيين الأبرياء أثناء تطوعه في سلاح الجو الإسرائيلي، ويقول إن الشعور بالذنب رافقه طوال حياته، وكان حافزا له لتغيير طريقه للبدء بنهج مختلف، فقد أدرك أن ما قام به كان خطأ، وأراد التكفير عن ذلك، “كنت أتمنى أن يشعر الكثير من الإسرائيليين بنفس الشعور بالذنب”.

“أيبي ناثان”.. صهيوني أغضب إسرائيل بحديثه إلى العرب

كان “أيبي” صهيونيا في بداية حياته، لكنه وبشكل تدريجي أصبح معارضا وناقدا، ولم يكن يؤمن بالشعار الإسرائيلي القائل إنه لا يوجد من يمكننا الحديث معه من العرب، وباعتباره طيارا فقد قام بمبادرة فردية منه وطار إلى مصر ثلاث مرات، لكن المصريين لم يأخذوا ذلك على محمل الجد، وأعادوه مباشرة بعد هبوطه في الإسماعيلية لمرتين، وفي إحدى المرات غادر عبر الطيران المصري إلى لارنكا.

يقول المؤرخ والكاتب الإسرائيلي “إيلان بابه” إن هذه المبادرة أثارت غضب الإسرائيليين، لكن هذا كان جزءا من محاولته لتقريب المسافة بين مصر وإسرائيل، واعتقد أن هذه الخطوة الأولى حولته من صهيوني متشدد إلى ناقد للدولة اليهودية.

يروي مرافقه “نعوم تال” أنه كان يجلس في غرفة فندقه ويراقب البحر، ويستمع إلى الراديو والمتحدثين عن النزاع والحرب القادمة، وفكر أنه لا بد من التحدث مع الناس وتحذيرهم من عواقب الحرب، ولكن من غير الممكن التحدث من إسرائيل أو من دولة عربية، لذا قرر البث من محطة على متن سفينة، وسماها صوت السلام ليتمكن من الحديث إلى الشعوب وتهدئتهم.

“السلام هو الكلمة والصوت”.. تبرع الشعب الهولندي

قام “أيبي ناثان” بشراء سفينة بتبرع سخي حصل عليه من الشعب الهولندي، ثم توجه إلى نيويورك لتحويلها إلى محطة، وعمل خمس سنوات لتحقيق حلمه وتحويل السفينة إلى محطة، وفي مايو/أيار 1973 جاء بها إلى البحر الأبيض المتوسط وبدأ بثه الإذاعي.

سُجن “أيبي ناثان” بسبب تواصله مع بعض أعضاء منظمة التحرير بحثا عن السلام

يقول “نعوم تال” إن “أيبي” شعر بأنه لو استمر في الحديث عن السياسة فلن يستمع إليه أحد، ولذلك ركز على بث الموسيقى، ولكنه كان يمرر رسائل عبر الأغاني، فيقول من خلالها “لا للحرب، لا لسيل الدماء، السلام هو الكلمة والصوت، والسلام هو المحطة”.

ويحكي “إيلان بابه” أن الذين استمعوا لصوت السلام لسنوات مثله، كانوا أقل عرضة للتلقين العقائدي الذي تقدمه المحطات الإسرائيلية، فحتى لو لم تكن الإشارة السياسية واضحة ومباشرة في صوت السلام، فإنها ستكون أقل عرضا للرواية الصهيونية، وبالتالي “يفكر الناس بشمولية، وكذلك القدرة على التفكير خارج الصندوق بعيدا عن النظرة الأيديولوجية الوطنية اليهودية”.

حوض المتوسط.. صوت مغاير للدعايات الحكومية

كان الناس يرون في مشروع “أيبي ناثان” تعبيرا عن نشاطه ورؤيته السياسية، فساعد ذلك في تشكيل رؤية سياسية وإيديولوجية إسرائيلية جريئة.

يقول “أيبي” في تسجيل قديم: جميع محطات الإذاعة والتلفزة في حوض المتوسط تحت سيطرة الحكومات، والنتيجة أن العرب لا يستمعون إلى محطات الإذاعة الإسرائيلية، إنهم ببساطة يرون أنها تبث دعاية مضادة بما أن الحكومة تسيطر عليها، والوضع نفسه من الجانب الإسرائيلي. سيكون الاختلاف في محطتنا أنها لا تحتوي على خطابات ودعايات مضادة، وستكون هناك وجهات نظر من الطرفين، ليتمكن الناس من الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، فمن الممكن أن يتفهموا.

على الرغم مما قدم، إلا أن “أيبي ناثان” انتهى به المطاف مقعدا ووحيدا، في الوقت الذي كانت إسرائيل توقع فيه معاهدة أوسلو مع الفلسطينيين

في حرب أكتوبر أبحر “أيبي” بسفينته بالقرب من بورسعيد، وقام ببث رسائل تدعو للسلام ووقف الحرب والتفكير المنطقي والحوار.

يقول “جدعون ليفي”: دفع “إيبي” ثمنا باهظا في السجن، لقد زرته في المعتقل بعد عدة أشهر، كانت تهمته ليست فقط إذاعة صوت السلام، ولكن بسبب اجتماعه غير القانوني والمزعوم بقادة منظمة التحرير الفلسطينية.

رأى “أيبي ناثان” في وقت مبكر أن السلام مع مصر لم يكن القضية الرئيسية، فالأهم هو السلام مع الفلسطينيين، وعلى الرغم من أن صوت السلام لم تتغير بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، فإن نشاطه أصبح أكثر تركيزا على المستعمرات في الأراضي المحتلة، لقد ساهم بشكل مباشر في السلام، وفهم ما عجز عن فهمه كثير من الإسرائيليين.

“لقد فقدت كل الأموال التي أملكها”.. نهاية تراجيدية

كانت نهاية “أيبي ناثان” مأساوية كما يقول “جدعون ليفي”، فكان مشروعه بمثابة عائلته، لكن نهايته كانت محزنة تراجيداية، كان وحيدا منسيا على كرسي متحرك، فإسرائيل لم تقدر هذا الرجل كما يستحق، وواجهت السفينة مشاكل مالية ولم يساعده أحد، كان الجميع هناك في أوسلو، وقد استسلم وغرقت سفينته بعدما تضاءل عدد المستمعين وقتها، كان كل شيء يموت، قصة كان بداياتها رائعة وانتهت بمأساة.

يقول “أيبي” في تسجيل قديم: لم يعد باستطاعتنا تحمل النفقات وخرق القوانين والذهاب إلى السجن، لقد فقدت كل الأموال التي أملكها، وأنجزت السفينة وظيفتها كمحطة إذاعية، وكان الهدف إحضار الطرفين للجلوس والحوار معا، والآن بما أنهم بدأوا الحديث ندع الحكومة تقوم بعملها.

يقول “جدعون ليفي” إن قصة السفينة تشبه القصص الخيالية الحالمة، فقد كان “أيبي” حالما أحب الناس حفلاته التي كان يقيمها ونمط حياته، كان بوهيميا يحب النساء وإقامة الحفلات والولائم، ويمتلك مطعما، وقد انتخب عضوا في البرلمان، ورغم أنه كان يحظى بعدد كبير من الأصدقاء، فقد انتهى به الأمر وحيدا.


إعلان