“متمردان بين حربين”.. خاتمة الصداقة بين مؤسسي السريالية في مصر وفرنسا

مصر الولّادة، أم الدنيا؛ خرّجت للعالم على مرِّ العصور أصنافا من المتميزين على كافة الأصعدة، من العلماء والكتّاب، من الأمراء والملوك، من الفنانين والمبدعين في كل فنّ ولون، من أصحاب الرؤى الفلسفية والشطحات الصوفية، حتى أن اللامعقوليين والماورائيين لم تخلُ منهم صفحات تاريخ مصر الزاخر. وكان من هؤلاء أبو السريالية المصرية “جورج حِنين”.
والسريالية أو فوق الواقعيّة (Surrealism) هي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تعبر عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، وهي آليّة أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر، إما شفويا أو كتابيا أو بأي طريقة أخرى.
فمن فرنسا، أرض الحرية والجمهورية، وقلب أوروبا النابض بالفن والثقافة والأدب، وبلد اللامعقول وشُذّاذ الآفاق في كل لون من ألوان الاصطفافات الفكرية والاجتماعية؛ خرج علينا الشاب المتمرد بابا السريالية العالمية “أندريه بريتون”.
سطع نجم هذين المتمردَيْن في الفترة التي بين الحربين العالميتين، وجرت بينهما مراسلات مهمة وسجالات فكرية معمقة؛ قامت الجزيرة الوثائقية بتتبعها، وقدمتها في فيلم وثائقي بعنوان: “متمردان بين حربين” ضمن سلسلة وثائقية تحمل عنوان “جسور التواصل”.
“هذا ما أوصلتنا إليه الحداثة”.. مخاض الحرب وميلاد السريالية
نشأت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وخلفت وراءها 9 ملايين قتيل من العساكر و7 ملايين أخرى في صفوف المدنيين، وكانت تلك الفترة من أحلك ما عاصرته البشرية في تاريخها حتى ذلك الزمان، الأمر الذي أحدث عواصف فكرية وثقافية في أوروبا، ثارت على العقل البشري في طريقة تفكيره ومعالجته للأمور، في تحدّ صارخ للمعقول والواقعيّ في الأنشطة البشرية.
تقول “أندريا غريملز” من كلية العلوم الاجتماعية بباريس: كان “بريتون” طالبا في كلية الطب عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وشاهد بعينه كل العنف والدمار، وبعد الحرب قال “هذا ما أوصلتنا إليه الحداثة، ولذا فنحن بحاجة إلى شيء آخر غير العقلانية”، لذلك ناشد السرياليون القوى غير العقلانية للتمرد على مجتمع فرنسي برجوازي تقليدي، وإظهار الوجه الآخر للوجود الإنساني.

عانت أوروبا كلها في ذلك الوقت من آثار الحرب المدمرة على كافة الأصعدة، مما دفع الشاب “أندريه بريتون” الذي ترك دراسة الطب في 1921، للانفصال عن الحركة الدادائية التي أنشأها “تريستن تازارا” في سويسرا، فكان ذلك إرهاصا قويا على إنشاء جماعة فنية ثقافية جديدة شرع في تأسيسها “بريتون”، لتكون خير معبّر عن ما يحدث في العالم قبل اندلاع حرب عالمية أخرى في غضون سنوات.
تقول “غريملز”: عندما ظهر أول بيان للسريالية في 1924، كان “بريتون” لا يزال شابا، لكن كانت لديه رؤية، وكان قبلها على اتصال بالدادائيين في سويسرا، ثم انسحب عنهم وحاول تأسيس مشروع جديد، وجمع حوله عددا من الروائيين والفنانين الفرنسيين، مثل فيليب سوكو ولوي أراغون، وكتبوا معا البيان السريالي، لقد كان عملا جماعيا.
“نبتة غير طبيعية في مصر”.. عودة خريج السوربون للوطن
لم تخض مصر الحرب العالمية الأولى بشكل رسمي، ولكنها تأثرت بها كثيرا، واندلعت فيها ثورة شعبية عام 1919 بقيادة سعد زغلول، كنتيجة طبيعية لرفض إنجلترا الوفاء بوعودها والجلاء عن مصر بعد الحرب، ولم يكن تأثير هذه الثورة على الحركة الثقافية والفنية بمصر بأقل من تأثير الحرب العالمية على أوروبا.
وليس أدل على ذلك التأثير من ظهور ذلك الشاب الصغير جورج حِنين على مسرح الحياة الفنية والأدبية في مصر. يقول مدير صندوق التنمية الثقافية الأسبق سمير غريب: كان جورج حنين نبتة غير طبيعية في مصر، ولد مع بداية الحرب العالمية الأولى، وكان أبوه صادق حنين باشا يعمل في وزارة الخارجية.

ويتابع غريب: كان صادق باشا من عائلة ثرية إقطاعية، تزوج من سيدة إيطالية وأنجبا جورج، ونظرا لأنه كان دبلوماسيا فقد عمل في عواصم عالمية منها مدريد، حيث نشأ جورج وتعلم في مدارسها، ولمّا يعرف العربية بعد، فقد تعلمها عن طريق الدروس الخصوصية في البيت.
منذ تلك اللحظة بدأ تشكيل ذلك المواطن العالمي الذي سيكوّنه جورج حنين، وبعد طفولة تنقل فيها بين القاهرة ومدريد وروما، حطّ الشاب حنين رحاله في باريس من أجل دراسة الحقوق في السوربون، ثم الآداب في نفس الجامعة، حيث كانت باريس بشوارعها ومقاهيها المحيطة بالجامعة تعج بالأفكار الفنية والثقافية الساخنة الخارجة من أتون التغيرات السياسية والاجتماعية التي يغلي بها العالم.
لم يدخر حنين وسعا في الانخراط بهذا العالم الجديد الذي يتشكل في فرنسا، حيث كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الثقافة العالمية، وكل جديد في العالم الغربي يجب أن يصدر من باريس أو يمر من خلالها. كان ذلك قبل أن يعود حنين إلى مصر عام 1934، ليستقر فيها بعد إتمام دراسته.
“إن شيطان الفساد موجود في باريس كما هو في القاهرة”
يقول أستاذ الآداب في جامعة أوكسفورد شهاب الخشاب: ولد جورج حنين في 1914، وكان عمره 10 سنين عندما كتب “بريتون” بيانه السريالي الأول، ولذا فهو لم يعش المرحلة الأولى من السريالية حتى عودته إلى القاهرة عام 1934.
وتقول “غريملز”: اكتشف حنين السريالية من كتابات وبيانات “بريتون”، وعن طريق هذه الكتابات اتجه نحو “بريتون” في 1936، وكتب له أول رسالة، وكانت بداية صداقة بين حنين و”بريتون”.

أصبح جورج حنين جزءا من الحركة السريالية العالمية، بمجرد كتابة الرسالة الأولى وردِّ “بريتون” عليها، لينشأ على الفور جسر ثقافي عابر للحدود بين القاهرة وباريس، وتصبح القاهرة للمرة الأولى حاضرة في حدث ثقافي وفكري عالمي إبان حدوثه وتشكُّله لحظة بلحظة، تؤثر فيه ويؤثر فيها مع كل منعطف جديد.
يقول الخشاب: كانت رسالة حنين إلى “بريتون” دون أن يعرفه شخصيا، وقال فيها إنه مهتم بالسريالية ويريد أن يربط بين سريالية القاهرة التي يسعى لإنشائها وسريالية باريس بزعامة “بريتون”. ورد عليه “بريتون” في إبريل/نيسان 1936 وعبّر عن رغبته في التعاون، وأشار إلى التشابه في الظروف بين باريس والقاهرة، واستخدم ذلك التعبير الشهير: “إن شيطان الفساد موجود في باريس كما هو في القاهرة تماما”.
وعن أول رد من “بريتون” على حنين تقول “غريملز”: في أول رسائله إلى حنين عبّر “بريتون” عن فضوله قائلا: “ماذا تفعلون في مصر؟ أريد معرفة ما يحدث، وإذا كنتم ستخلقون مجلة جديدة، قوموا بعمل شيء مختلف عنا، يجب أن تجدوا صيغة جديدة ومختلفة”، فبالنسبة لـ”بريتون” هناك دائما مغامرة في اكتشاف ما يحدث خارج نطاقه.
مقهى فلوري.. سفير السريالية المصرية في ضيافة بابا السريالية العالمية
يقول شهاب الخشاب: في الفترة الأولى للتعارف عندما كان حنين في بداية الشباب يكتب مقالات لاذعة، ويريد اكتشاف العالم الأدبي، كان “بريتون” ذلك الأب الروحي الكبير لحركة عالمية يطمح حنين للانتماء إليها، ولم يكن لحنين -وهو الذي اعتاد الوجود في أوروبا لسنوات- أن يكتفي بهذا الحضور البريدي للحركة السريالية المصرية التي يقوم بإنشائها، ولكنه يسعى إلى حضور أكبر وأكثر تأثيرا.
يصف سمير غريب أول لقاء شخصي بين حنين و”بريتون” بقوله: لما أُعجب حنين بـ”بريتون” قرر أن يتعرف به شخصيا، فحصل على عنوانه في باريس، وبدون مقدمات سافر إلى هناك، وذهب إلى الحي الذي يسكن فيه “بريتون”، وطرق بابه مباشرة دون أي ترتيبات مسبقة، ووجد نفسه وجها لوجه أمام “أندريه بريتون”.

وعن هذه الزيارة يقول شهاب الخشاب: عندما التقى به في بيته، كان “بريتون” في حالة من الانشغال العائلي، يعتني بصغيرته، ويناكف زوجته، وفكره موزع بين أوراقه المتناثرة وأشيائه المبعثرة، فقررا ترك هذه البيئة المزعجة والذهاب إلى “مقهى فلوري”، حيث يجتمع السرياليون. ثم أصبح ذلك المقهى الذي يرتاده “بريتون” وجماعته قِبلة المثقفين في فرنسا والعالم.
بدأت العلاقة ودية بين تلميذ وأستاذه، فاغترف من ثقافته وجماعته من خلال المراسلات ثم الزيارات الشخصية والمقابلات في المقاهي الباريسية مع جماعة السرياليين التي كان فيها ممثلون عن الطيف البشري بجميع أجناسه، ثم ما لبثت أن تطورت هذه العلاقة إلى شبه ندية، فقد كانت لحنين شخصية إبداعية مستقلة لم تتأثر بأي شخص آخر، وإن كان صقل مهنيته بخبرات “بريتون” وغيره.
يقول حنين عن نفسه: اليوم تلقيت “الحب المجنون”، وهو كتاب أساسي لـ”بريتون”، سوف أحتسي كأس اليوم وأشعل شمعة وأقرأ الكتاب، إنها لحظة مهمة بالنسبة لي. لقد كان بينهما تبادل للنصوص، وكان حنين يقول لـ”بريتون”: أعطني رأيك، فرأيك يهمني جدا.
إعلان المكسيك.. صرخة سريالية في وجه الحرب العالمية الثانية
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939، أصبح حنين يواجه صعوبة في تبادل الرسائل والآراء مع “بريتون”، فضلا عن تعذر اللقاءات الشخصية، لكنها استمرت وتطورت بطريقة أو بأخرى، خصوصا بعد أن شارك “بريتون” في مجلة سريالية تصدر في نيويورك باسم (VVV)، حيث كان حنين قد سبقه في نشر بعض إبداعاته فيها.
استغل حنين فترة الحرب في إنشاء مجموعة سريالية أسموها “الفن والحرية” من المصريين والمتمصِّرين، فكان لها صداها المدوي في الحياة الثقافية والفنية المصرية، واستمر تواصل حنين و”بريتون” مع انتقال “بريتون” إلى المكسيك، ولقائه مع “ليون تروتسكي” المنظّر الأشهر في الحزب الشيوعي السوفياتي، والفنان المكسيكي “دييغو ريبيرا”، حيث نشر الثلاثة إعلانا للفن الثوري المستقل، وكان موجها ضد الفاشية.

وعلى الفور أعلنت مجموعة “الفن والحرية” المصرية تضامنها مع هذا الإعلان، ونظمت خمسة معارض فنية في القاهرة للتعبير عن هذا التضامن، وبالمناسبة فإن المجموعة اختارت اسمها تيمنا بذلك الإعلان الثوري الذي نشر في المكسيك.
مع انتشار الدمار والخراب في كل مناطق الكرة الأرضية بفعل الحرب، تعمق إيمان الجماعات السريالية بـ”عدم معقولية العالم”، مما زادها انتشارا واشتعالا، عندها فكّر “بريتون” بإنشاء سكرتارية عالمية للسريالية عرفت باسم “كوز” (CAUSE)، وكان أحد أعضائها بالطبع “جورج حنين”، من أجل جمع شتات السرياليين في العالم، ولضبط التحركات العشوائية لبعض الشباب السريالي في أنحاء العالم.
“أكتب هذه السطور بلا مرح ولا غمّ”.. رسالة الطلاق البائن
بعد الحرب العالمية الأولى شاع نوع من الدفء في العلاقة بين السرياليين الفرنسيين والمصريين، ولكن هذه العلاقة شابها فيما بعد نوع من البرود والإقصاء بسبب تصرفات “بريتون” التمييزية، لدرجة جعلت حنين يقول: “أنتم في خلافاتكم التافهة وإنتاجكم الرديء ونشركم لأي غثاء..”، جاء ذلك في رسالة أخيرة إلى “بريتون” أعلن فيها حنين انفصاله عن المجموعة السريالية الدولية.

وجاء في الرسالة أيضا: أكتب هذه السطور بلا مرح ولا غمّ، فقرار ترك جماعة لمن لم يفقد احترامه لها، والتي ارتبطْتَ أنت بأنشطتها على مدى 12 عاما، ليس بالقرار الذي يُتخذ بقلب مسرور.
وبهذا القلب المكسور يترك حنين الجماعة السريالية، ويقطع علاقته مع “بريتون” الأستاذ والصديق لسنوات طويلة بمنتهى القوة.
مات “أندريه بريتون” في سبتمبر/أيلول 1966 بعد 18 عاما من رسالة حنين الأخيرة، ورغم أنه لم يردّ على الرسالة، فإن كثيرا من النقاد يرون أنه خسر كثيرا بخسارته للسريالية المصرية، وأما من جهة حنين فقد كان له حديث أخير كشف ما كان قد علق بقلبه من بقايا هذه الصداقة، كان ذلك في عام 1968 عندما نعى صديقه “بريتون”، ورغم أنه لم يعتذر عن انتقاداته له، فإنه حفظ له الود والاحترام.