مازن دعنا ونائل الشيوخي.. مصوران فلسطينيان فرقتهما رصاصة أمريكية

أن تكون صحفيا فتلك مهمة شاقة صعبة، أما أن تكون صحفيا أو مصورا في فلسطين المحتلة، فأضف للمشقة والصعوبة أضعافا مضاعفة، فمعنى ذلك أنك تحمل روحك على كفك، وأنك تواجهه رصاص الاحتلال مجردا من أي سلاح سوى قلمك وكاميراتك.

ويأتي هذا الفيلم ضمن سلسلة أفلام “مصورو فلسطين” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية، ويستعرض قصة كفاح لمصوريْن فلسطينيين تقاسما كاميرا واحدة لوكالة رويترز، إنهما الصديقان نائل شيوخي ومازن دعنا اللذان تناوبا على الكاميرا، لكن بمصيريْن مختلفيْن، فكلاهما تعرّض للضرب المبرح من المستوطنين واستُهدف من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، لكن قُدر لمازن أن يكون شهيدا.

“أن ترى أخاك يتلقى الرصاص”.. مشهد دام في الخليل

يبدأ الفيلم بمشهد درامي دامٍ للمصور الفلسطيني نائل الشيوخي وهو يتعرض لهجوم برصاص الاحتلال أثناء تغطية ميدانية في مارس/آذار عام 1998 في مدينة الخليل، ويستذكر المصور السابق لوكالة رويترز بلال الجنيدي المشهد بقوله: اتصل بي نائل الشيوخي، وأخبرني أن المستوطنين اليهود هاجموا المواطنين الفلسطينيين، وحطموا سيارته في منطقة الحسبة القديمة في مدينة الخليل.

وعندما ذهبنا كانت المواجهات منتهية، واتصل نائل ليخبر المكتب بما حدث، لكن ما حدث لم يكن ضمن توقعهم، فقد جاء ثلاثة جنود واتخذوا مواقع لهم وبدأوا بإطلاق النار، جاءت الرصاصة الأولى في جبين نائل، وأخرى في قدمه وثالثة في يده.

أخبرهم المصور حازم بدر من الوكالة الفرنسية بأكثر من لغة بأنهم صحفيون، وكانوا يرتدون سترات صحفية ويحملون الكاميرات، كان الموقف صعبا على الصحفيين جميعا. يقول الصحفي والمصور وائل الشيوخي: كم هو صعب هذا الشعور أن ترى أخاك يتلقى الرصاص الواحدة تلو الأخرى، وأنت تبعد عنه نصف متر ولا تستطيع مد يد العون له وانقاذه.

مازن دعنا المصور الذي ضحى بحياته في سبيل قضيته

كان نائل مضرجا بدمائه، لكنه يحاول النهوض، وعندما يرتفع جسده يطلق عليه الجنود الأعيرة المطاطية مرة أخرى، وحدث ذلك مع كل من حاول إنقاذه، فلقد حاول مازن دعنا ذلك، فتلقى رصاصة بيده.

وفي النهاية استطاع أخوه وائل سحبه من أكتافه ونقله إلى المستشفى، ويتساءل مستنكرا لماذا استُهدف الصحفيون؟ لكنه يعرف الإجابة تمام المعرفة، فهم عين العالم على فلسطين، وهم أقوى من كل الأسلحة، هم صورة ناطقة أو كلمة حرة، وهي حقيقة يدركها المحتل الصهيوني، ويقدر حجم قوتها.

“أصيب أبي أكثر من عشر مرات”.. مازن دعنا

تنتقل كاميرا الفيلم إلى بيت المصور مازن دعنا، حيث تجلس زوجته سوزان وابنه حمزة وابنته بيسان التي لم تتعرف على وجهه إلا بالصور، فقد كان عمرها عاما واحدا حين استشهد.

كانوا يتحدثون عن عدد المرات التي أصيب بها خلال عمله قبل استشهاده. يقول ابنه: لقد أصيب أبي أكثر من عشر مرات، كان عندما ينزل إما أن يصاب أو يضرب من قبل الجيش أو المستوطنين، وكان أخطرها يوم الكاميرا، عندما صوب الجنود سلاحهم تجاهها.

وقفة احتجاجية على مقتل الصحفي مازن دعنا

يتابع الابن: كان يصطحبنا إلى البلدة القديمة في الخليل وخاصة الحرم الإبراهيمي، حيث كانت المواجهات تتواصل، وفي إحدى المرات تركنا وذهب ليصور.

حصل مازن دعنا في العام 2001 على الجائزة الدولية لحرية الصحافة (CPJ) من نيويورك. يقول الصحفي المصور مأمون وزوز: كان مازن رحمه الله مدرسة بالصحافة في الإعلام الفلسطيني، وهو أول شخص أوصل صوت فلسطين للعالم، هو أستاذي، وعملنا معا في الميدان وتعلمت منه الكثير، وغطينا الأحداث، كل ما تعلمته في الصحافة يعود الفضل فيه لمازن دعنا ونائل الشيوخي.

“هنا هاجمني الجنود وقطعوا سلك الكاميرا”.. عودة إلى الوطن

هنا بيت عائلة الشيوخي، فبعد غياب طويل عن أرض الوطن يعود إليها وقد أصبح مدير إنتاج تلفزيوني لوكالة رويترز في السعودية، لكن الشوق غلبه فعاد إلى بيته ومدينته. يقول: قضيت 12 عاما بالسعودية، لكن ما زلت أشعر أن مكاني هنا، ويشير في الشارع إلى نقطة بعينها، هنا هاجمني الجنود وقطعوا سلك الكاميرا.

يقول والده حجازي الشيوخي: تعرض نائل لأكثر من حادث أثناء المظاهرات والمسيرات وأحداث المقاومة، وكأن الصحفي الفلسطيني مستهدف من قبل الجيش، وفي كل مرة عندما أراه لا أصدق أنه ما زال على قيد الحياة.

مواجهات الصحفيين مع جنود الاحتلال.. ممارسات يومية

بعد إصابته عام 1998 (المشهد الذي بدأ به الفيلم)، كانت رحلة علاج نائل طويلة ودقيقة للغاية، فقد تعرض لحالة من فقدان السيطرة جعلت وضعه خطرا على نفسه وعلى من حوله، وقد بدأ العلاج في 13 مارس/آذار عام 1998 من القدس إلى رام الله ثم إلى لندن، وكان يشرف عليه طبيب أمريكي خاص يأتيه في القدس والخليل، وقد خضع في تلك الفترة لعدة جولات علاجية.

تقول زوجته رجاء: كثير من الأحداث كانت صعبة وما زالت محفورة في الذاكرة، أصبح هناك تحول وكان علي أن أقدّر وأستوعب الحالة وأن أتعايش معها، لأن نائل شخص محب وحنون ومتسامح، لكنه في المقابل كان قويا واجتاز المحنة.

“نحن لا نخاف الموت، بل نخاف الفقد والفراق”.. مجزرة الحرم الإبراهيمي

كانت بداية عمله في أحداث مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل 25 فبراير/ شباط عام 1994، يقول نائل: كان الحدث مهولا، أطباء وصراخ واشتباكات، وكنت مبتدئا لكن لم يمهلني الوقت ليكون عملي تدريجيا، وكان الأحداث أكبر من أن أستوعبها.

حصار الجنود الصهاينة لكنيسة المهد 2002

يزور نائل الحرم الإبراهيمي ويرى مقدار التغير الحاصل للمكان، فهناك نظام أمني جديد، وهناك حواجز وكاميرات في كل مكان، ولا يسمح بالدخول إلا بالهوية الشخصية، ثم زار المقهى الذي كان يتناول فيه الصحفيون قهوتهم، وكانت تسمى “مقهى الصحفيين”، يتذكر نائل جلوسهم على المقهى وكيف كانوا ينتظرون ويترقبون أي تطور في الأحداث.

يقول نائل الشيوخي إنه يخشى على أخيه كثيرا، ويتابع تنقلاته في العراق واليمن، “نحن نتألم على أناس غادروا مبكرا، نحن لا نخاف الموت، بل نخاف الفقد والفراق”.

“كانت عودته للبيت بمثابة يوم جديد”.. مواجهات بيت لحم

ينتقل نائل إلى بيت لحم، وهناك تعود له ذاكرة المكان والاشتباكات مع جنود الاحتلال، كان هو وصديقه مازن يأتيان لتغطية الأحداث والمواجهات. يقول: حدث في تلك الفترة انقلاب جذري بحياتي، حين مرض مازن وخرجت أغطي المواجهات لوحدي، عندما أرسلت الشريط للقدس كان المدير جديدا في رويترز، وعندما شاهد الصور التي كانت عنيفة وغير معقولة، قال: أنا أحتاج لهذا الرجل وأريده أن يعمل معي، ووقعت العقد، كان ذلك في العام 1998.

متحديا جنود الاحتلال، يقف الصحفي شامخا لا يأبه لصلفهم ولا لعدوانهم

تقول رجاء زوجة نائل: كنت أعيش حرب أعصاب، وعندما كنت أسمع إطلاق نار أتصل به لأطمئن عليه، وعندما أسمع بإصابة صحفي أتصل عليه، وإن لم يرد أتصل على أصحابه، كانت عودته للبيت بمثابة يوم جديد وحياة جديدة.

وفي بيت لحم أيضا، يتذكر نائل حصار كنيسة المهد. يقول: كان هذا المكان حزينا وكئيبا تملأه الدبابات والسيارات العسكرية، أما الأسطح فقد امتلأت بالصحفيين، كان القتال والمناوشات يحدثان في الليل والنهار، وقد وضع الجيش سلاحا كبيرا على السطح يطلق النار تلقائيا، وقد استمر الحصار 40 يوما، وفي النهاية تمركز الجيش بأعداد كبيرة، وخرج المحاصرون من الكنيسة بشكل منظم، وكانت المنطقة كلها مسرحا للعمليات.

أما فندق ستار القريب، فكان نزلا للصحفيين لأنه مطل على الكنيسة، فقام الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على المدخل والسطح، مما اضطر الصحفيين للتصوير من الطبقات الوسطى له.

“ليس من السهل أن تلتقط الصورة، فأي صورة قد تكلفك حياتك”

في جولته في فلسطين، ذهب نائل الشيوخي إلى بيت صديقه ورفيق كفاحه مازن دعنا في رام الله، وبدأ يسرد نهاية الحكاية التي جمعته بمازن، لقد كان حزينا لأن الكاميرا في البداية كانت معه، ثم أخذها مازن وهكذا كتبت نهايته.

مازن دعنا يفقد حياته في سبيل إنفاذ رسالته الصحفية

يقول مازن دعنا في أحد تسجيلاته: ليس من السهل أن تلتقط الصورة، فأي صورة قد تكلفك حياتك.

يذهب نائل إلى الكلية العصرية في رام الله ليلتقي بطلبة الإعلام، ويطرح عليهم سؤالا جوهريا في صميم المهنة: هل الصحفي مستعد أن يموت من أجل قصته؟ وهل هناك قصة تستحق أن تكلفك حياتك؟

ثم يذكر بصديقه وزميله مازن دعنا قائلا “هو الذي علمني أنه صحفي مميز”.

“طلقة استقرت في القلب”.. قصة مقتل مازن

يقول نائل: كل شيء في البيئة المعادية يمكن أن يواجهك كصحفي، ثم يبدأ بقصته عن فقد مازن ومقتله. الموقع سجن أبو غريب، بغداد. الزمان 16 أغسطس/آب 2003.

يقول نائل: ذهبنا إلى الجسر، وصورنا السجن وأنهينا العمل، كان الجو حارا فغادرنا في تلك اللحظة، فأقبل سرب من الدبابات، وعندما أصبحت أول دبابة بمحاذاتنا وصار الجندي يقابلنا وجها لوجه أخرج سلاحه، وبدأ بإطلاق النار علينا، وكصحفيين تدربنا بأن أي صحفي يتعرض لإطلاق نار يكون هدفا 100% إذا كان واقفا، وإذا نزل على الأرض أصبحت الخطورة 30%، لكن الكاميرا دائما عائق، ومازن يحمل الكاميرا التي لم تجعل حركته سهلة، فالجندي كان يطلق النار بشكل عشوائي، ثم بدأ يركز وأطلق على مازن طلقة استقرت في القلب، فصرخ.

تقول زوجته رجاء الشيوخي: كان نائل دائما يقول: عليّ أن أحمل الكاميرا، ولا أعلم لماذا تركته يأخذها.

بعد أن عاد نائل الشيوخي إلى المكتب اتصل ليبلغ أرباب العمل عن الحادث، لكنهم سبقوه ليبلغوه أن مازن لم يعد موجودا، فقد فقد حياته.

قد تسرق رصاصة طائشة أشخاصا رائعين لهم بصمتهم ووقعهم الخاص لكن الحياة تمضي بحلوها ومرها، وها هو اليوم نائل الشيوخي يقف في بيته الجديد في بيت لحم، ويضع اللمسات الأخيرة عليه.


إعلان