سلا.. أساطيل جمهورية القراصنة تحكم أعالي المحيط الأطلسي
هي مدينة التاريخ والثقافة والحضارة، مدينة الأولياء والصلحاء وعاصمة الطقس المميز في الاحتفاء بذكرى المولد النبوي (موكب الشموع). سليلة حقبة “شالة” الرومانية، وابنة أصيلة للعهود الإسلامية الأولى في المغرب ومعبر الفاتحين والمجاهدين الحتمي نحو الأندلس، وفوق كل ذلك هي منطلق السفن التي بسطت هيبتها على المحيط الأطلسي في وقت كان فيه النشاط البحري الإسلامي لا يخرج عن دائرة الحوض المتوسطي والبحر الأحمر وبحر العرب.
تذبذب تاريخها بين نهوض وركود، اختلطت فيها الأعراق والأجناس، والتقت عند مرفئها الحصين شعوب الشمال والجنوب والشرق والغرب. استوطنت قلب المجال السياسي الحيوي للمغرب عبر العصور، لكنها تمنّعت فلم تشبه غيرها من حواضر الشرق أو الغرب، فلم ترث من ماضيها الطويل بنية عمرانية ولا سكانية شبيهة بباقي المدن المغربية العتيقة. فلا القصر السلطاني مركز بنيانها ولا حيّ اليهود ينعزل بنفسه، بينما يسمى “الملاح” في باقي المدن المغربية، بل بقيت مدينة الانفتاح حدّ تحوّلها إلى دولة لقراصنة الأندلس ومن خالطهم من أعراق الشرق والغرب، وتحصّنت فجعلت بوابتها البحرية تمرّ عبر النهر لاستحالة رسوّ السفن في ساحلها البحري، وهي اليوم تشهد المراحل الأخيرة من أشغال بناء “برح محمد السادس”، أعلى بناية في أفريقيا بطول 250 مترا و55 طابقا.
“جمهورية سلا”.. دولة المنفيين تفرض قانونها على المحيط
هذه المدينة التي تجاور العاصمة المغربية الرباط وتعتبر بمثابة أختها الكبرى، سواء من حيث العراقة التاريخية (تأسست قبل الرباط) أو من حيث حجمها (تعداد سكانها يصل إلى أكثر من ضعف سكان الرباط)؛ تحوّلت في إحدى الفترات التاريخية التي تلت سقوط الأندلس وتفكك الدولة المركزية في المغرب إلى دولة مستقلة تسمى “جمهورية سلا”.
وقد أسسها المنفيون من الأندلس، وحولوا ساحلها إلى قاعدة عسكرية بحرية تخصصت في “الجهاد البحري” (القرصنة)، أي شن حرب شاملة ومتواصلة على القوى الغربية (انتقاما من طردهم من الأندلس)، وقد فرضوا قوانينهم الخاصة على مجال واسع من المحيط الأطلسي يصل إلى السواحل الأمريكية.
قصتها أشبه بالأسطورة المتخيلة، لكنها حقيقة تاريخية لا تبعد زمنيا عن الوقت الحاضر إلا مسافة أربعة قرون. كانت وقتها مدينة سلا مرفأ ترسو فيه سفن ترفع علم “الجمهورية” وتمخر عباب البحرين المتوسط والأطلسي، فارضة قانونها الخاص، وممارسة فنون القرصنة ضد القوى الغربية أشخاصا وبضائع، ملزمة إياهم بدفع الإتاوات حينا والفدية حينا آخر.
قلب المغرب.. آلاف السنين من صراع الحضارات
قبل الوجود الإسلامي في المغرب بقرون كثيرة، تحدد المصادر التاريخية ظهور نواة مدينة سلا إلى القرن 15 قبل الميلاد، وكانت مجرد قرية أمازيغية صغيرة، أقام فيها القرطاجيون متجرا أطلقوا عليه اسم “سلفيس”، ثم دخلها الرومان في القرن الأول للميلاد، ويعود إليهم أول استعمال لكلمة “سلا” (أو شالة)، وكانت عبارة عن موقع عسكري روماني استمر وجوده قرابة خمسة قرون، قبل أن تتضاءل أهمية المدينة في عهد الوندال، ثم تسترجعها في عهد البيزنطيين[1].
بقيت مدينة سلا تحت الحكم البيزنطي، إلى أن وصل إليها القائد الإسلامي عقبة بن نافع الفهري سنة 682 للميلاد، حيث خضع سكانها لحكمه قبل أن يتمردوا عليه من جديد، ثم عادت المدينة لتخضع للحكم الإسلامي على يد القائد موسى بن نصير بداية القرن الثامن للميلاد. وتعتبر سلا من بين المدن التي خضعت لحكم مؤسس أول دولة مغربية موحدة مستقلة عن المشرق العربي، أي المولى إدريس الأول، ثم كانت محورا للصراعات التي دبت بين أبناء خليفته المولى إدريس الثاني إلى أن أصبحت واقعة في منطقة صراع طويل بين دولة بني يفرن والبورغواطيين الذين كانوا يعتنقون ديانة مستلهمة من الإسلام لكنها تعتمد تعاليم مستلهمة من الوثنية واليهودية والمسيحية[2].
كما شهدت سلا في عهد الدولة المرابطية معارك طاحنة بين جيوش يوسف بن تاشفين والبورغواطيين، وهو ما حولها إلى خرابة نتيجة كثرة التطاحن حولها، لتغيب المدينة عن مصنفات التاريخ في العهد المرابطي، قبل أن تعود إليه بقوة ابتداء من العهد الموحدي.
سيدي بن عاشر.. مزار الطبيب الأسطوري في العصر الذهبي
تأسست مدينة سلا الحالية في الضفة الشمالية لنهر أبي رقراق من طرف أحد قادة بني أمية، قبل أن يأتي السلطان الموحدي عبد المؤمن بعد نحو قرن ونصف، ويبني قلعة مقابلة للمدينة في الجانب الجنوبي من مصب نهر أبي رقراق. لتعيش مدينة سلا أزهى عصورها في عهد الحكم المريني، حين جرى الاهتمام بعمارتها وتجارتها ومؤسساتها الدينية والثقافية[3].
ويؤرخ البعض لبداية بروز مدينة سلا حضاريا في بداية القرن 14 للميلاد، وذلك ارتباطا بشخصية شهيرة هي شخصية سيدي بن عاشر الذي تميّز بمعرفة طبية وبأساليب علاج بعض الأمراض، وبعد وفاته تحوّل قبره إلى مزار يتوجه إليه الراغبون في الاستشفاء بحسب اعتقادهم، وذلك عبر جلوسهم إلى جانب قبره وفقا لعادات امتدت لقرون.
ويُنسب إلى السلطان العلوي مولاي سليمان، إصداره الأمر بداية القرن 19 بوضع قبة على قبر ابن عاشر، وبناء حاجز من خشب لفصل القبر إلى جانبين؛ الأول خاص بالنساء والثاني خاص بالرجال، مع تخصيص غرف للمبيت، تنظيما للزيارات[4].
نزوح القراصنة المحترفين.. بدايات نشأة الجمهورية السلاوية
شهد العالم بدءا من القرن 15، تحول جزء من التجارة العالمية من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي، لتتحول معها أيضا ظاهرة القرصنة التي لم تعد حكرا على البحر المتوسط. وبقي هذا النشاط حكرا على الأوروبيين، إلى أن اقتحمه السلاويون الذين فرضوا أنفسهم رقما أساسيا في معادلة القرصنة الأطلسية[5].
وفي سنة 1614 احتل الإسبان مدينة المهدية الواقعة غير بعيد من سلا في اتجاه الشمال، التي كانت مستقرا لعدد كبير من القراصنة من مختلف الجنسيات، مما أدى إلى نزوح هؤلاء القراصنة المحترفين صوب مدينة سلا، وفي مقدمتهم الهولنديون الذين كانوا قد راكموا خبرة كبيرة في صناعة السفن الصالحة للإبحار في البحر المتوسط أو المحيط الأطلسي[6].
وكان القراصنة في بداية القرن 17 للميلاد يؤدون 10% من مداخيلهم للسلطان المغربي (السعدي)، وذلك إلى غاية 1627، عندما حدث تقارب بين القراصنة المحترفين والمجاهد محمد العياشي، فأعلن سكان المدينة خلع طاعة السلطان، وطردوا ممثله فيها، لتعلن ولادة “جمهورية سلا” المستقلة تماما عن الحكم المركزي الذي يقوم على انتخاب القادة مرة واحدة كل سنة[7].
قراصنة الهورناتشوس.. ثورة المطرودين من الأندلس على السلطان
رغم موقعها الأطلسي فإن تاريخ مدينة سلا لا ينفصل عن المجال المتوسطي، فقد كان البحر الأبيض المتوسط مهدا للملاحة البحرية، كما أن جل الشعوب المتوسطية مارست القرصنة. فالإغريق بحكم موقعهم الجغرافي وطبيعة شواطئ بلدهم كانوا قراصنة، ولم يكن في مواجهتهم إلا الفينيقيون المعروفون بارتباط حضارتهم بالبحر، وشكل الصراع بين الإغريق والفينيقيين أول مثال للحرب بين دولة تجارية منظمة (الفينيقيون) وبين مجموعات القراصنة (الإغريق)، ويكاد تاريخ البحر الأبيض المتوسط يرتبط بنشاط القرصنة الذي ظل يقوم به المغلوبون ضد المنتصرين، كما لم يسلم نشاط القرصنة البحرية نهائيا من التوظيف والاستعمال السياسييْن من جانب الدول والحكومات[8].
بدأت القصة أوائل القرن 17، عندما أصدر ملك إسبانيا “فيليب الثالث” مرسوم طرد المورسكيين عام 1609، مما أجبر بضعة آلاف منهم على المغادرة، فتوجه قسم منهم إلى مدينة سلا[9].
صادف ذلك تغير التركيبة البشرية لسلا بحلول موريسكيي هورناتشوس (بلدة في إسبانيا)، كأول فوج قَدِم إليها استباقيّا قبيل الطرد النهائي، وينحدرون من منطقة إكستريمادورا غربي إسبانيا، وقد عرفوا السلاح كمرتزقة عند الملك “فيليب الثاني” في بادئ الأمر، يمارسون عقائدهم الإسلامية في السر، بينما يُظهرون المسيحية، وكوّنوا حملة متمردين ضد الملك بعدما أصدر مرسومه بمنع أي ممارسات دينية غير كاثوليكية، ثم تلاهم فيما بعد كثير من المورسكيين، تضاربت أقوال المؤرخين في تعدادهم بين 5 آلاف كأدنى عدد و12 ألفا كأقصاه[10].
هؤلاء الوافدون الجدد هم من سيشكل نواة “جمهورية سلا”، حيث اندلعت ثورة الهورناتشوس ضد السلطة الشريفية سنة 1627، واستولوا على المدينة وأغلقوا أبوابها في وجه السلطان[11].
مراد رايس.. عبقرية الأسير الذي أسس الجمهورية
حمل الموريسكيون الذين طردوا من الأندلس حقدا كبيرا تجاه الإسبان، ورغبة جامحة في الانتقام واسترداد ثرواتهم التي سلبت منهم. وقد كان مرسوم الطرد الذي أصدره في حقهم الملك الإسباني فيليب الثالث سنة 1609، قد عين لهم تركيا كمكان للإقامة، مانعا إياهم من دخول أفريقيا تحت طائلة الحكم بالإعدام في حال مخالفتهم هذا الأمر[12].
وتشير المصادر التاريخية إلى اسم قائد مؤسس لما يعرف باسم “جمهورية سلا” المستقلة، وهو مراد رايس الأصغر الذي كان يحمل اسما أوروبيا قبل أن يتخذ هوية إسلامية إثر وقوعه في أسر القراصنة المسلمين، ثم أبان عن مهارة كبيرة في النشاط البحري جعلته يرتقي بسرعة ويصبح أحد قادة “الجهاد البحري”، خاصة عندما انطلق من ساحل سلا ليغزو جزر الخالدات المقابلة لسواحل المغرب الجنوبية في المحيط الأطلسي، وغنم ثروات وأسرى كثيرين، مخلفا إحدى أكبر هزائم الأسطول العسكري الإسباني[13].
على إثر تدهور الأوضاع السياسية للمغرب وتفكك أوصال الدولة المركزية، شكّل المورسكيون نظاما خاصا بهم في مدينة سلا، أطلقوا عليه اسم الجمهورية، وانتخبوا مراد رايس قائدا لهم، مع إبرام اتفاق مع سلطان المغرب يدفعون له بمقابله ضرائب، مقابل تركهم يتصرفون في استقلال عن سلطاته.
امتد وجود “الجمهوريات السلاوية” حسب بعض المصادر من 1627 إلى غاية 1668، أي بعد سقوط حكم مراد رايس وانتفاض السكان على وصاية السلطان. ويوصف هذا التنظيم السياسي بكونه شكلا من أشكال الأوليغارشية (حكم أقلية من النخبة)، وذلك أساسا في شخص قراصنة يستمدون قوتهم من عائدات نشاطهم البحري. ويعود الميلاد الفعلي لهذا النظام السياسي إلى تمركز القراصنة المحترفين في القلعة المعروفة باسم “القصبة” التي أسسها المرابطون متم القرن 12 للميلاد في الضفة الجنوبية لنهر أبي رقراق، أي الرباط الحالية، وما كان يعرف وقتها باسم سلا الجديدة[14].
وتولى حكم هذه الجمهورية مجلس حمل اسم “الديوان”، وكان عدد أعضائه يتراوح بين 12-14 شخصا، وينتخبون في مايو/أيار من كل عام الحاكم أو الأدميرال الكبير، وقد سيطر الحورناشيون على المجلس في البداية، قبل أن يثور عليهم الموريسكيون ويفرضوا انتخاب قائد جديد سنة 1630، ولم يكن سوى القائد محمد العياشي، مع رفع عدد أعضاء الديوان إلى 16 وتقاسمه بالتساوي بين الموريسكيين والحورناشيين[15].
الجمهوريات الثلاث.. نهاية الحرب الأهلية بوساطة إنجليزية
لم يصمد هذا النظام السياسي طويلا، إذ سرعان ما وقع النزاع بسبب سيطرة “الهورناتشوس” على مقاليد الحكم، فاندلعت حرب أهلية انتهت بوساطة إنجليزية سنة 1630، وأفرزت تقاسما للسلطة بين ثلاثة مرتكزات للنفوذ، أولها القصبة العسكرية، وثانيها سلا العتيقة، وثالثها سلا الجديدة (الرباط حاليا)، وهو ما يطلق عليه البعض نعت “الجمهوريات الثلاثة لسلا”[16].
ناصرت مدينة سلا القديمة التي تقترب انتماءاتها الدينية أكثر من الهورناتشوس أصحاب القصر ضد الأندلسيين، وتطلب الأمر تدخل السفير البريطاني لوضع حد للفتنة، وفي مايو 1630، وقع الاتفاق على الأسس التالية[17]:
1- ينتخب الأندلسيون لسلا الجديدة قائدا، لكنه سيقيم بالقصبة.
2- يشتمل الديوان على ستة عشر وجيها منتخبين بعدد متساو من لدن القصبة وسلا الجديدة.
3- توزع الموارد الآتية من البحر ورسوم الجمرك بين القصبة وسلا الجديدة بكامل المساواة.
وقد أثمرت “الجمهورية السلاوية” القائمة على نشاط القرصنة الجمهورية واقعا ديمغرافيا ولغويا فريدا من نوعه، حيث كانت المدينة تنطق بلغات متنوعة؛ عربية وأندلسية وإسبانية وهولندية وألمانية وإنجليزية، مما خلق مشهدا لغويا محوره لغة تواصل مشترك مولدة من اللغات الأصلية لسكان الجمهورية[18].
سوق النخاسة.. أسطول سلا يغزو أيسلندا وأيرلندا
من بين أغرب الغزوات الحربية التي قام بها قراصنة “جمهورية سلا”، تلك التي أوصلتهم إلى غاية سواحل أيسلندا في أقصى الشمال الأطلسي، حيث قاموا بأسر 15 شخصا تقريبا، واستولوا على سفينتين، وعادوا إلى ديارهم سالمين، رغم فشلهم في اقتحام قصر الملك الدانماركي الذي كان يبسط سيطرته على جزيرة أيسلندا.
وتؤكد المصادر التاريخية وصول الأسرى الأيسلنديين إلى المغرب وبيعهم في أسواق النخاسة المحلية، مما فتح الباب أمام هجمات بحرية أخرى انطلقت من الجزائر، ووصلت إلى هذه الجزر الأطلسية البعيدة.
وإلى جانب هذه الغزوة الأيسلندية التي تؤرخها المصادر في العام 1627، توجد غزوة أخرى لا تقل أهمية عنها، وصلت فيها السفن الغازية بقيادة مراد رايس إلى غرب أيرلندا، حيث قاموا بتنفيذ غزوات ناجحة، فقد وصل إلى أسواق النخاسة في الجزائر -التي كانت نقطة أساسية في بيع أسرى القرصنة- قرابة 100 شخص إنجليزي ممن كانوا يقيمون في أيرلندا[19].
يروى الراهب الدنماركي العجوز تفاصيل هجوم القراصنة المغاربة على سواحل آيسلندا وجزرها في مذكرات رحلته أسيرا لدى طاقم البحار مراد رايس قائلا: يومها شوهدت ثلاث سفن ضخمة تبحر في الفضاء الأزرق المحيط بنا، تعالت صرخات التحذير، ومعها تعالى العويل وصراخ الصبية، حتى الكلاب أجفلت رعبا من مشهدها المخيف وأشرعتها تلوح في الأفق، أفقنا المظلم، رغم أن الوقت كان صباحا. وسرعان ما تكدس سكان جزيرة هايماهي التي كانت تعيش في أمان قبل هذا اليوم تحت الرعاية الدنماركية[20].
سلا والجزائر.. حلفاء القرصنة وتجارة الرقيق الأبيض
تقدّر بعض المصادر مكاسب القراصنة السلاويين في هذه الفترة بما يناهز 40 سفينة استولوا عليها خلال عامين اثنين فقط، وأكثر من 6 آلاف أسير أوروبي في الثماني سنوات الممتدة بين 1618-1626، مع تحقيق عائدات مالية تناهز 15 مليون ليرة[21].
فقد تميز قرصان سلا بميزة فريدة، ذلك أن قراصنة الجزائر وتونس وطرابلس كانوا يمخرون عباب مياه واحدة هي مياه البحر الأبيض المتوسط بينما كان قراصنة سلا هم المسلمين الوحيدين الذين تعاطوا القرصنة في محيط خطير وشاسع هو المحيط الأطلسي[22].
حافظت “جمهورية سلا” المستقلة على علاقات وثيقة مع الجزائر، فقد كان الطرفان يتبادلان الزيارات وينظمون إغارات مشتركة في البحر، وكان الجانبان يشكلان سوقا كبيرة للرقيق الأبيض ويتبادلان المصالح والخدمات في هذا المجال، وكان قاسمهما المشترك الأساس هو احتراف القرصنة البحرية.
بينما كان تجار مختصون في تسويق غنائم الغارات البحرية، هم فئة من يهود مدينة سلا، يحققون عائدات كبيرة من وراء شراء منتوجات لا قيمة لها في المجال الإسلامي، مثل الخمور واللحوم والأسماك المصبرة، ويعيدون بيعها في أوروبا وأمريكا بأضعاف مضاعفة[23].
مولاي إسماعيل.. سلطان علوي يبسط يده على سلا
لم تكن سلا مستقلة إلا فترة قصيرة لا تتجاوز نصف قرن، بل إن هذا الاستقلال كان نسبيا في 27 سنة الأخيرة من هذه الفترة، حيث كانت تحت نفوذ الدلائيين الذين بسطوا سيطرتهم على المنطقة، إلا أن المدينة كانت طيلة هذه الفترة أكبر مدينة للقراصنة في المنطقة[24].
وينسب إخضاع مدينة سلا مجددا للسلطة المركزية إلى عهد السلطان مولاي رشيد، وهو أحد أوائل المؤسسين للدولة العلوية، كما اتسم عهد السلطان مولاي إسماعيل -أحد أقوى السلاطين العلويين- باهتمام خاص بسلا وجوارها، فقد استعاد بعد قتال طويل مدينة المهدية المجاورة لمدينة سلا من الاحتلال الإسباني. كما عمل مولاي إسماعيل على تجديد قنوات التزود بالماء داخل المدينة، وتنظيم نشاط صيد سمك “الشابل” النهري النادر[25].
حافظت المدينة على طابعها المرتبط بنشاط “الجهاد البحري” طيلة قرون، وعندما أدرك السلطان مولاي سليمان أن “الجهاد البحري” بات متعذرا إثر اختلال ميزان القوى في مواجهة الأوروبيين، وأنه بات وبالا على مملكته أكثر مما يفيدها، قام بتفكيك أسطول سلا البحري وأهدى آخر قطعة منه إلى باي الجزائر، محاولا قطع الطريق أمام الأعذار التي يمكن أن يتخذها الأوروبيون لمهاجمة المغرب[26].
نظام المحميين.. نأي القلعة الحصينة عن القنصليات الأجنبية
بعد هذا التحول في السياسة الرسمية للسلطان، باتت مدينة سلا تفتقر إلى مواردها الاقتصادية الأساسية التي كانت تتأتى من النشاط العسكري البحري، وأصبحت تعتمد فقط على فلاحة معيشية بسيطة، إلى جانب نشاط صيد السمك النهري من وادي أبي رقراق، وصادف ذلك توالي فترات الجفاف والجوائح على المغرب طيلة القرن 19، وكلها عوامل أدت إلى تراجع دور وقيمة مدينة سلا في المجال السياسي الداخلي والخارجي للمغرب.
لكن رغم انسلاخ المدينة عن طابع القرصنة البحرية، فقد بقيت في قلب الرهانات الدولية، حيث كانت سنة 1844 هدفا لقصف بحري قامت به البحرية الفرنسية وهي في طريقها نحو مهاجمة ساحل الصويرة، في وقت تزامن مع معركة إيسلي الشهيرة التي دارت بين المغرب والجيش الفرنسي القادم من الجزائر المحتلة. وبقيت سلا محتفظة بطابع الحصن المتأهب لمواجهة الغزو الأجنبي من جهة المحيط، وهو وضعٌ أكده قصف فرنسي آخر استهدف سلا سنة 1851 بذريعة تعرض سفينة تجارية فرنسية للهجوم[27].
ومع اشتداد وطأة الضغوط الأوروبية على المغرب في النصف الثاني من القرن 19، وظهور نظام ما يعرف بـ”المحميين”، وهم أشخاص مغاربة وأجانب كانوا يحصلون على الحماية القنصلية الأجنبية، مما يمنحهم حصانة في مواجهة ممثلي السلطان؛ أبانت مدينة سلا عن مقاومة خاصة في هذا المجال، حيث ظلت تمنع إقامة أي أجنبي فيها كي لا يصبح مطية لتدخل القنصليات الأجنبية في شؤونها، كما منعت لفترة طويلة سكانها من الالتحاق بنظام الحماية هذا، قبل أن تتمكن الأيادي الأجنبية من استقطاب بعض الأعيان المغاربة ومنحهم الحماية الأجنبية، وذلك قبيل سقوط المغرب تحت الحماية الفرنسية-الإسبانية[28].
سلا والرباط.. صراع الندية على مدى قرون من التاريخ
تحتفظ الثقافة الشعبية المحلية بأفكار ترتبط بعلاقة مدينة سلا بجارتها العاصمة الحالية للمغرب الرباط، وهي العلاقة التي تتسم بكثير من الندية وأحيانا التندر والسخرية، وترجع بعض المصادر هذه العلاقة غير الودية إلى فترة كان فيها قائد مدينة سلا محمد العياشي، يحاول إخضاع مدينة الرباط لسلطته إثر سقوط حكم الدولة السعدية بعد وفاة السلطان أحمد المنصور السعدي وتنازع أبنائه على الحكم. وتقول بعض الروايات التاريخية إن الرباطيين استعانوا بالإسبان ضد القائد السلاوي في تلك المواجهة.
كما نشبت بين المدينتين صراعات أخرى في فترات متفرقة من التاريخ، سببها تنازع قادة المدينتين وسعي كل منهما لإخضاع العدوة الأخرى لنفوذها. وزاد من شدة التنازع بين المدينتين التحول الذي شهده وضعهما، والذي راح يميل لمصلحة الرباط تدريجيا، وتكرس هذا الوضع فعليا حين أصبحت الرباط عاصمة للمغرب بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب، وأصبحت بالتالي مدينة سلا بتاريخها الحافل وأمجادها الكبيرة شبه ملحقة إدارية تابعة للرباط.
ولعل أقرب نزاع إلى ذاكرة المدينتين، هو الذي تسبب فيه صراع السلطانين عبد العزيز وعبد الحفيظ في بداية القرن 20، حيث قاد المولى عبد الحفيظ ثورة ضد أخيه السلطان عبد الحفيظ، بدعوى تخليه عن واجبه الشرعي في مواجهة الغزو الأجنبي وصده، وكانت الرباط معقلا لجيش وسلطات المولى عبد العزيز، بينما التحقت سلا بمعسكر السلطان الثائر المولى عبد العزيز، مما جر على السلاويين صنوفا من التنكيل والاستهداف[29].
موكب الشموع.. طقس ديني يوحد مدينة التصوّف والصلحاء
تتسم مدينة سلا بحضور قوي للتصوف الديني ورموزه، من خلال عدد من الصلحاء الذين بصموا تاريخها وشكلوا مصدرا لتوحيد ساكنتها وتعبئتهم للجهاد ضد الغزاة الأوروبيين.
ويشكل موكب الشموع واحدا من المعالم الثقافية الرئيسة لمدينة سلا، إذ يقام احتفال سنوي بمناسبة ذكرى المولد النبوي، تجوب فيها مواكب المحتفلين دروب المدينة رافعة شموعا مشتعلة. ويتميز هذا الطقس بالحجم الضخم للشموع التي يجري استعمالها، إذ يصل وزن الشمعة الواحدة إلى خمسين كيلوغراما، ويسهر على صنعها متخصصون من أبناء المدينة. وينطلق الموكب الاحتفالي بعد صلاة العصر من يوم الاحتفال، ويجوب مختلف أنحاء المدينة لينتهي إلى ساحة الشهداء و”دار الشرفاء”[30].
ويعود الفضل في التأسيس لعادة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة سلا إلى الفقيه أبي القاسم العزفي الذي يعتبر ابن الخطيب أنه أول من احتفل بهذه الذكرى في المدينة، من خلال تخصيصها بطعام مميز والإحسان للأقارب والمشي في الأزقة، مع ترديد عبارات الثناء والصلاة على الرسول ﷺ[31].
“أرض الاختمار الثقافي”.. مدينة تختصر ملامح المغرب
تحيل الأسماء التاريخية لأبواب المدينة العتيقة على عراقة سلا التي يعود تأسيسها إلى عهد الدولة الموحدية، ويشكل البعد الديني عنصرا أساسيا في عمارة المدينة، فهي تضم كثيرا من المساجد والمدارس القرآنية العتيقة والزوايا الصوفية، إلى جانب الدور التاريخية الخاصة بكبار الأعيان والتجار.
ويحتل المسجد الكبير -الذي بناه السلطان الموحدي يعقوب المنصور نهاية القرن 12 للميلاد- قلب الإرث العمراني للمدينة، ويعتبر ثالث أكبر مسجد في المغرب بعد مسجد القرويين في فاس ومسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء[32].
ورغم التطور الكبير الذي شهدته المدينة في العقود الأخيرة، فإنها تحتفظ بمدينتها العتيقة بشكلها الأصلي، إذ يحفها سور تاريخي عتيق، تتخلله سبعة أبواب تاريخية، أكبرها باب “المريسة” الذي أقامه السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق، ويعد من الأبواب التاريخية الكبرى بالمغرب حاليا[33].
في كتابه “موجز تاريخ سلا”، يقول الكاتب الأمريكي “كينيث براون”: إن تاريخ سلا يعكس ملامح متعددة للمجتمع المغربي وتطوره التاريخي. فسواء تعلق الأمر بالمغرب أو بسلا، يظل الماضي مفعما بحركية البشر والفكر، إنها أرض اللجوء، أرض المغامرة، أرض الفتح، أرض الإيمان، أرض الاختمار الثقافي[34].
كما يجد هذا الأكاديمي الأمريكي في مدينة سلا ما يلخص قصة نشوء القومية المغربية في شكلها الحديث، فقد نشأت في القرنين 16-17 حركات جهادية للدفاع عن البلاد والدين ضد الهجوم الأجنبي، مما ساهم في خلق إحساس قومي. ويقول: هنا وهناك أيضا (أي في سلا وفي المغرب عموما)، سعى الناس إلى الانفتاح على الشرق وإفريقيا السوداء وأوروبا الغربية من أجل رخاء الاقتصاد وتفاعل الثقافة[35].
المصادر
[1] حمدي عبد المنعم محمد حسين، مينة سلا في العصر الإسلامي دراسة في التاريخ السياسي والحضاري، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1993
[2] حمدي عبد المنعم محمد حسين، مينة سلا في العصر الإسلامي دراسة في التاريخ السياسي والحضاري، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1993
[3] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[4] https://www.hespress.com/أضواء-على-تاريخ-مدينة-سلا-بحر-وجهاد-وت-283011.html
[5] https://marayana.com/laune/2021/04/27/28449/
[6] https://marayana.com/laune/2021/04/27/28449/
[7] https://marayana.com/laune/2021/04/27/28449/
[8] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[9] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-4921963
[10] أميلي حسن، الجهاد البحري بمصب أبي رقراق خلال القرن السابع عشر الميلادي، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، 2006
[11] https://manshoor.com/politics-and-economics/the-republic-of-salé/
[12] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[13] https://www.sasapost.com/sale-pirates-republic/
[14] https://ar.wikipedia.org/wiki/جمهورية_بورقراق
[15] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-49219634
[16] https://marayana.com/laune/2021/04/27/28449/
[17] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[18] https://ar.wikipedia.org/wiki/جمهورية_بورقراق
[19] https://ronangearoid.blogspot.com
[20] https://manshoor.com/politics-and-economics/the-republic-of-salé/
[21] https://rabattoday.ma/سلا-العجيبة-مدينة-الزوايا-والأضرحة-لل/
[22] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[23] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[24] روجي كواندرو، قراصنة سلا، ترجمة محمد حمود، جامعة محمد الخامس بمساهمة المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1991
[25] https://rabattoday.ma/سلا-العجيبة-مدينة-الزوايا-والأضرحة-لل/
[26] Louis Brunot, La mer dans les traditions et les industries indigènes de RabatSalé, Paris, 1921
[27] عز المغرب معنينو، سلا “المدينة المقفلة” الانفتاح الحذر على الغرب من القصف الى الاحتلال، 1851-1912، مطبعة الرباط نت، 2017
[28] عز المغرب معنينو، سلا “المدينة المقفلة” الانفتاح الحذر على الغرب من القصف الى الاحتلال، 1851-1912، مطبعة الرباط نت، 2017
[29] عز المغرب معنينو، سلا “المدينة المقفلة” الانفتاح الحذر على الغرب من القصف الى الاحتلال، 1851-1912، مطبعة الرباط نت، 2017
[30] https://www.alquds.co.uk/مدينة-سلا-المغربية-عاشقة-أبي-رقراق-تضي/
[31] حمدي عبد المنعم محمد حسين، مينة سلا في العصر الإسلامي دراسة في التاريخ السياسي والحضاري، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1993
[32] https://www.alquds.co.uk/مدينة-سلا-المغربية-عاشقة-أبي-رقراق-تضي/
[33] https://www.alquds.co.uk/مدينة-سلا-المغربية-عاشقة-أبي-رقراق-تضي/
[34] كينيث براون، موجز تاريخ سلا 1000-1800، ترجمه عن الإنجليزية محمد حبيدة وأناس العلو، منشورات أمل، الدار البيضاء2000
[35] كينيث براون، موجز تاريخ سلا 1000-1800، ترجمه عن الإنجليزية محمد حبيدة وأناس العلو، منشورات أمل، الدار البيضاء 2000