عين جالوت.. قصة النصر الإسلامي الذي دمر أسطورة المغول والتتار
بين بيسان ونابلس وجنين يقع اليوم سهل عين جالوت، ربما نال نصيبه غير منقوص من قنابل الاحتلال الإسرائيلي، وحفرت جرافاته وهاد وكثبان ذلك السهل الذي شهد قبل أكثر من سبعة قرون من الزمن واحدة من أعظم معارك الإسلام وأيام المسلمين، في وجه أكبر وأعنف قوة احتلال دموية وهمجية، خرج جنودها من بلاد الثلج حاملين نارا أحرقت العالم الإسلامي والشرق بشكل عام ولعدة عقود.
إنها عين جالوت، منعطف التاريخ إلى قمة انتصار إسلامي رفيع، بعد أن ظل عقودا طويلة يترنح في سفوح الذل والهوان، منذ سقوط بغداد على يد الغازي هولاكو، وانهيار المعسكر الإسلامي وسلطان دار الخلافة.
سقوط العاصمة.. وحش التتار يغرق بغداد في الدماء
دار الزمان دورات مروعة، فها هي بغداد تغرق في وحل الدماء، وتتكدس الجثث في شوارعها، ويكتسي نهرها الباكي لون المداد، بعد أن أغرق التتار فيه أكثر من مليون كتاب، مما أبدعته ذاكرة القرون وأقلام الزمان وقرائح العلماء الذين تدفقت معارفهم طيلة ستة قرون على ضفاف الفرات.
كان العنف إلى ما لا يمكن أن يتخيله عقل بشري عنوان الجحافل التترية الغازية، وكان الإسلام ينهار يوما بعد يوم تحت عنف هؤلاء الغزاة الذين عززوا جرائم الغزو الصليبي بمستوى لم يصل إليه عدوان أعتى آليات التدمير البشري يومها.
وحسبك من وصف حوادث تلك الأيام الدامية ما سطره ابن الأثير: فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس.. وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتِلوا! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا.. إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم توالى سقوط المدائن والحواضر الشامية، واحدة بعد الأخرى، واستبد الخوف والهلع بالنفوس، حتى أصبحت المدن تقاد إلى حتفها دون أدنى مقاومة.
أبواب القاهرة.. رؤوس معلقة وجيوش تعلن الحرب
كانت مصر في ذلك المعمعان الملتهب آخر الحواضر والحصون التي تملك قوة عسكرية يمكن أن تقف في وجه المد التتري، لكن هذه القوة كانت مشتتة بين أمراء وقادة المماليك الذين بسطوا اليد على مصر وفلسطين، بعد أن استدارت الدولة الأيوبية، وانفض شملها، وحكم الغلمان المجمعون من أنحاء مختلفة من الدنيا أم الدنيا.
أصبح الخطر يطرق أبواب مصر، ونتيجة لذلك استطاع الأمير محمود بن ممدود الخوارزمي -الملقب سيف الدين قطز- أن يوحد الأمراء المماليك، بعد أن طلب منهم تحييد الهم الخاص والصراعات البينية، والاستعداد لمواجهة الخطر الداهم.
ولأن مصر هي الهدف القادم، ولأن المغول قد جعلوا الرعب والإرهاب النفسي رسولهم إلى النفوس، وبريد سيوفهم ورماحهم الراتعة في الدماء، فقد وجه هولاكو رسالة مفعمة بالتكبر والتهديد إلى السلطان قطز سلطان مصر، معربا له عن ويلات قادمة تمخر فجاج الصحراء إلى ضفاف النيل، وعن انتقام بشع سيسيل وهجه دما لاهبا على ضفاف أرض الكنانة.
استطال النقاش بين الأمراء المملوكيين حول الرسالة الهولاكية، وانتهى الأمر بتوافق رأي الأميرين ببيرس وقطز على قتل رسل هولاكو، وتعليق رؤوسهم على أبواب القاهرة أياما، قبل أن تبدأ في منتصف رمضان فعاليات التحضير للحرب التي حدد الأمير قطز خياراته بشأنها، بين الانتصار أو الموت شهادة اعتذارا إلى الله والأمة والتاريخ.
كانت ذاكرة الأمير قطز مفعمة بأحداث ومواقف مؤلمة تجاه التتار، فقد دمروا مملكة أسلافه في خوارزم، وخطفوه من حضن والدته، بعد أن قتلوا خاله الأمير جلال الدين الخوارزمي، وانطلقوا به ليباع رقيقا في سوق دمشق، ليتحول من عز الملك إلى ذل الاسترقاق، دون أن ينسى من هو، أو تهدأ في نفسه فورة الدم الأميري، وحمية الأثر الإسلامي الذي تلقى غراسه في بيت أسرته الأميرية، قبل أن يتعزز على يد عدد كبير من علماء دمشق الذين كان يختلف إليهم في حلقاتهم ومساجدهم، وخصوصا العز بن عبد السلام الذي كان بعد ذلك السند الأساسي للأمير في تجييش المسلمين في مصر، فقد كان صوت العز وصِيته ثورة قلبت الموازين في الشام، كما قلبتها في مصر بعد ذلك.
سهل عين جالوت.. مواجهة الشبح الذي أرعب الشرق الإسلامي
خرج السلطان قطز بجيشه من القاهرة في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658 من الهجرة، وجعل على مقدمة جيشه الأمير ركن الدين بيبرس، وكانت مهمة هذه المقدمة الاستطلاع والتمويه، وكانت الوجهة هي غزة هاشم.
أما جيش التتار فقد كان بقيادة قائده الدموي كتبغا المشهور بأنه سباح ماهر في أنهار اللهب والدم، وأن سمعته كقاتل بشع ومجرم حرب قد جعلته شبح رعب يخلع اسمه القلوب ويهز تماسك النفوس.
في غزة استطاع ركن الدين بيبرس بسرعة القضاء على سرية تتارية كانت ترابط هنالك، قبل أن يلتحق بقوات ضخمة من الجنود الشاميين وغيرهم، لتكون عين جالوت وجهة الطرفين، وميدان المعركة الفاصلة.
وفي صباح السادس والعشرين من رمضان، اصطف الطرفان في وادي عين جالوت، وكانت روح المقاومة الإسلامية قد انتعشت بعد قتل رسل التتار في مصر، وهزيمة سريتهم في غزة، فتدفق الناس من المدائن الشامية وفلسطين إلى عين جالوت، إمدادا للجيش الإسلامي الذي لم يكن رغم ضخامته مكافئا لجيش كتبغا نويان.
“وا إسلاماه.. نحن نريد الشهادة وهم يريدون الدنيا”
بدأت خطة الحرب -كما وضعها الأمير قطز- بهجوم سريع شنته قوات الأمير بيبرس التي لم تكن ضخمة العدد، قبل أن تتراجع أمام سطوة الهجوم التتاري، خصوصا أن ميمنة الجيش الغازي استطاعت بقوة كسر ميسرة الجيش الإسلامي، وبدأ الضعف والوهن يخالط النفوس، فبشاعة التتار جزء من صناعة نصرهم الدموي.
في هذه اللحظات، ألقى الأمير قطز بخوذته عن رأسه، وهرع إلى الصفوف وهو ينادي: وا إسلاماه.. وا إسلاماه.. نحن نريد الشهادة والآخرة، وهم يريدون الدنيا.
ولأن ذلك النداء كان صادرا من أعماق إيمانية، فقد تدفق شلال الحماس، وانطلق الجنود في جسارة وإقدام منقطع النظير كما يصفه المؤرخون، وبدأت بقية الكتائب الإسلامية تخرج من التلال وتحيط بالجيش التتري إحاطة السوار بمعصم أدمن القتل والتدمير، مدفوعة بهتاف قطز “نحن نريد الآخرة وهم يريدون الدنيا”، وشتان بين الفريقين.
مصرع الفرس.. عندما ترجل قطز لمواجهة الموت
تذكر صفحات التاريخ أن الأمير قطز أبلى يوم عين جالوت بلاء مجيدا، حيث ألقى بنفسه في دوامة القتال، رغم أن التقاليد العسكرية تفرض بقاء القائد في مكان آمن، ليتولى تدبير شؤون المعركة، لكن قطز خرق هذا المبدأ العسكري، وقاتل بسيفه العلوج قبل أن يترجل عن فرسه الذي تلقى في منحره سهما تتريا، واندفع يخوض الحرب راجلا على قدميه، رافضا أن يمتطي صهوة حصان قدمه له أحد الأمراء، قبل أن يأتوه بحصان من العتاد الاحتياطي للجيش.
وبعد ساعات قليلة من الصبر والمقاومة والاستبسال، انكسرت شوكة الجيش التتري، وأسر قائده كتبغا، مع أعداد هائلة من جنوده، وتفرق الآخرون فرارا إلى معاقلهم في دمشق التي لم تتأخر نجدتها في ثورة شعبية بعد أنباء انتصار المسلمين، فأطاحوا بالحامية العسكرية المغولية.
وبوصول كتبغا راسفا في أغلاله إلى مقر السلطان في القاهرة، واحتزاز رأسه جزاء وفاقا على تاريخ دموي بشع، سقطت من قلوب الناس أسطورة الخوف من التتار، والرعب من سطوتهم التي لا تقهر.
تطهير الشام.. معارك الحملات الانتقامية المضادة
واصل الجيش الإسلامي تطهير مدن الساحل الشامي، ومدن فلسطين واحدة تلو الأخرى، حتى استطاع إبعاد كل فلول التتار رغم الحملات الانتقامية الدموية المضادة التي أرسلها القائد هولاكو، والتي انكسرت بعد أربعين يوما فقط، وعادت أدراجها بعد أن فقد المغول الشام وإلى الأبد.
وإذا كانت معركة عين جالوت قد أنقذت المسلمين من سيل جارف من الدم والدمار، وأنقذت آخر قلاع الشرق الإسلامي (مصر) من الانهيار، فقد فككت كثيرا من وسائل الارتباط العدائي بين التتار والصليبيين المقيمين في مناطق الشام، وكذا بعض القوميات الأخرى التي كانت جزءا من كتائب كتبغا التي دارت عليها دائرة الهزيمة في عين جالوت.
وأمام انكسار انتقام هولاكو وما أصابه من وهن نفسي رافقه إلى نهايته، دقت أسئلة الوعي الديني قلوب وأفئدة التتار الذين تدفقوا بعد ذلك بقوة إلى الإسلام، وتحولوا من وحش مدمر يشرع فكيه التمساحيين للانقضاض على العالم الإسلامي، إلى مشرع حضاري للإسلام يسقي الظامئين في بلاد الثلج.
لكن العنصر الأكثر مفاجأة، هو تحول بعض قادة الجيش الإسلامي المتماسك الذي ألحق الهزيمة النكراء بجيش المغول إلى حالة انتقامية وحشية، جرى خلالها إلقاء قائده المظفر قطز إلى مهاوي الردى، ونهاية الموت العنيف بعد خمسين يوما لا أكثر من معركة عين جالوت المجيدة.
غدر الأمراء.. عودة إلى ثارات ما قبل الحرب
كانت الأحقاد راسخة جدا بين الأميرين بيبرس وقطز، منذ أن قتل قطز أمير المماليك البحرية القائد أقطاي، وكان بيبرس خليفة أقطاي وحامل ثأره.
وتتفاوت تفسيرات وروايات المؤرخين بشأن حادثة مقتل قطز، وأسباب انتقام بيبرس منه وقتله له وهما في ظلال الانتصار وتحت بيارق الشرف العسكري الرفيع. يقول ابن خلدون في تاريخه: كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثأره، وكان قطز هو الذي تولى قتله، ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه، وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك، فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله، فأمنهم واشتمل عليهم، فلما انهزم التتر من الشام واستولوا عليه وحسر ذلك المدّ وأفرج عن الخائفين الروع، عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثأر أقطاي.
أما ابن كثير فيصور لحظات الجريمة وكيفية مقتل الأمير بقوله: وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتفق مع جماعة من الأمراء على قتله، فلما وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه وساق خلف أرنب وساق معه أولئك الأمراء، فشفع عنده ركن الدين بيبرس في شيء فشفّعه، فأخذ يده ليقبلها، فأمسكها وحمل عليه أولئك الأمراء بالسيوف، فضربوه بها وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه.
اختطاف الجثة.. تاريخ مشرق وقبر مجهول
بمقتل الأمير قطز هوى نجم إسلامي بازغ، وأمير غرس أركان الكرامة في صحراء عين جالوت، ورسخ اسمه في ذاكرة أيام الإسلام.
غير أن المفارقة الأكثر ألما هو أن قتلة الرجل تركوه ملقى في العراء، دون أن يدفنوه، وواصلوا طريقهم إلى بقية المعسكر، وأخذوا البيعة من الأمراء والأجناد، وتلقب الأمير بيبرس باسم القاهر، وبسط ملكه على مصر.
أما جثمان الأمير قطز فقد بقي أياما ملقى في العراء -حسب ما تذكر بعض الروايات التاريخية- قبل أن يدفنه بعض خدامه في منطقة بين القصير والصالحية من أرض فلسطين. وكان أهل تلك المنطقة يقصدونه للزيارة والتبرك والدعاء على من قتله، مما أثار حنق السلطان، فأرسل من ينبش القبر ويخفي مكان الضريح، ليكون التاريخ يومها على موعد مع تاريخ مشرق لقبر مجهول.