“من دمشق إلى حيفا”.. أزمة الهوية وخذلان الأنظمة العربية

“أدركتُ أني أجلس لأول مرة في حياتي على تراب في الجليل الفلسطيني، كان مشابها لتراب الغوطة وحمص وحلب، ولكن ذلك الإدراك الجميل، وإحساس أن ظهري مسنود بشجرة، جعل عينيّ تدمعان، هل كنت أذرف من دفق العاطفة، أم من حجم الخذلان الكبير الذي هبط على كتفي؟ هل ستسقط دمشق؟”.

في كتابه “من دمشق إلى حيفا”، يتحدث الكاتب السوري خيري الذهبي عن تجربة الأسر التي عاشها في زنازين الاحتلال، ويثير تساؤلات عن الانتماء والهوية، والدين والقومية، وخذلان الأنظمة العربية. كانت هذه التجربة موضوع حلقة شائقة من حلقات برنامج “خارج النص”، بثتها قناة الجزيرة الفضائية.

من باب الهوى لسجن عتليت.. الضابط الأسير يروي قصته

مع بداية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين جيش الاحتلال من جهة وسوريا ومصر من جهة أخرى، اقتربت سيارة إسرائيلية من نقطة مراقبة للأمم المتحدة واعتقلت ضابطا سوريا. وبعد 40 عاما من تلك الحادثة يبوح قلم الكاتب السوري خيري الذهبي ليروي لنا وقائع الهزائم العربية وما حدث معه خلال 300 يوم من الأسر في إسرائيل.

يسرد الذهبي قصة أسره من خط الهدنة: “كنت أعتقد أنني أخاطب الأركان وأنا أرسل الرسائل أصف ما يجري على الجبهة السورية، وأتحدث عبر الهاتف، وتبين لي فيما بعد أنه كان مقطوعا، فالقيادة لا تريد سماعنا. وتذكرت محاولة الأمميين إقناعي بالهروب في سيارة الأمم المتحدة، ورفضي لهذه المغامرة، مفضلا تدخل الجيش السوري المسؤول عني لإنقاذي من فخ تل الهوى إلى حيث الوطن”.

من الجولان إلى عتليت وحيفا، يتنقل الكتاب في أنفاق عوالم خيري الذهبي الداخلية وتبدلاته النفسية، من ضابط إلى أسير ومن انتصار إلى شبه هزيمة، ليشكل الكتاب وثيقة ذاتية نادرة في أرشيف الحرب بين العرب وإسرائيل.

تسببت لنكسة الـ67 باحتلال الجولان ووقوع جنود سوريين في الأسر اليهودي

يقول الشاعر عمر شبانة: “يكتب خيري كما لو كان يكتب رواية لكنها واقعية تماما، أراد أن يقول مسائل كثيرة، منها مسألتان هامتان، أولاهما عن سوريا في ظل حكم آل الأسد، والثانية عن حضور إسرائيل في المشهد العربي بعامة والسوري خصوصا”.

وبينما يرى الناقد أنطوان شلحت أن الذهبي جاء بيوميات فيها الكثير من الأدب والصور البلاغية، لكنها ليست رواية بالمفهوم المتعارف عليه، ويمكن أن يقال عن الكتاب إنه وجهة نظر شخصية، رأى الكاتب فيها أن الحرب كانت هزيمة لا انتصارا.

من جهته، يرى الأديب والأسير السابق تيسير سليمان أن إسقاطات الكاتب الفكرية والعقائدية المسبقة كانت واضحة، فتحدث عن نظرته إلى الأحزاب السياسية، ونظرته إلى حالة الحرب مع دولة الاحتلال، وأسقط اعتقاداته بقوة على كثير من المشاهد التي كان يمكن سردها تاريخيا دون تعليق أيدولوجي.

بين الفساد والاستبداد.. أسباب الهزيمة كامنة فينا

تتجلي مظاهر السخرية السوداء في فصول الكتاب المختلفة حيث يروي: “كان منظرا باعثا على الكآبة ما استفتحتني به دمشق بعد الثورة البعثية قبيل هزيمة حزيران/يونيو 1967، جميعها تحمل جملة واحدة: خسئ العدو حين اعتقد أن سوريا هُزمت حين سرقوا الجولان منها، ناسيا أن حلمه الكبير في هزيمة الثورة لم يتحقق، فثورة البعث باقية وإلى الأبد”.

يعزو الذهبي الهزائم التي لحقت بالعرب في مواجهاتهم مع إسرائيل إلى سلسلة من الفساد والإفساد عاشتها سوريا والمنطقة، حيث يطرح أنساقا تمهيدية للحالة الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب، فهل أراد القول إن الحلم كان أكبر من الواقع، وإن الشعار أكبر من الفعل، وإن الواقع كان بوابة الهزيمة التي مُني بها قبل تساقط أحلامه القومية؟

الجندي السوري خيري الذهبي يمكث 300 يوما في أسر الاحتلال

يقول الكاتب ماجد عزام “رسم خيري خطوطا عريضة للمشهد السياسي السوري قبل نكسة الـ67 وقبل تشرين أول/أكتوبر 73، ولكن من الزوايا التي شاهدها وعايشها، فقد رسم الواقع التعليمي من خلال عمله مدرسا في الحسكة، ثم تحدث عن التأميم وتجربة المزارعين، وتحدث عن الجيش الذي أصبح جيشا للحزب”.

ويتحدث مؤلف الكتاب خيري الذهبي عن بعض مظاهر الفساد في الجيش السوري: “لقد طردوا الضباط من الجيش واستبدلوهم بضباط من جماعتهم (طائفتهم العلوية).. أحدهم كان قبل الحرب ببضع سنوات مدرس ابتدائي، وفجأة تجده قائد كتيبة مدرعات، طبعا أبيدت كتيبته بالكامل أثناء الحرب”.

لقد أصبحت سوريا برمتها مزرعة للعائلة الحاكمة.

إبراهيم أو إبراهام.. اليهودي العربي الذي أصبح صهيونيا

شكلت صورة اليهودي العربي في الذهنية العربية، وأسباب هجرتهم من بلدانهم الأصلية إلى فلسطين، إحدى ركائز الكتاب الأساسية، وأبرز نقاط الجدل فيه، فيكتب الذهبي أنه منذ صغره كان على موعد مع مفارقات ما قرأه وخبره عن اليهود حين التقاهم في دمشق والقاهرة، وفيما بعد عن الصهيوني الأشكنازي الذي أتى مستوطنا إلى فلسطين ليقاتل لأجل قضية دينية.

عاش إبراهيم اليهودي في دمشق مواطنا سوريا لكنه أنكر تلك المواطنة حين انتقل إلى “إسرائيل”

يقول تيسير سليمان: “أنظر لليهود العرب بعين اللوم، لقد جاؤوا إلى فلسطين حاملين السلاح ليطردوا أهلها ويعتدوا على الدول، فليس للمضطهد أن يحتل أراضي الغير، لكن الكاتب لم يعرِّج على هذه المسألة في محاولة منه لتفهُّم ما حدث، وقد ترك الباب مفتوحا للقارئ وكيفية نظرته إلى الاضطهاد والاضطهاد المقابل”.

ويرى شبانة أن الكاتب لم يبرر لليهود العرب ذهابهم إلى فلسطين المحتلة بقدر ما أدان الأنظمة العربية وتعاونها مع الحركة الصهيونية لدفعهم للهجرة. ويتابع: “برأيي أن هنالك يهوداً ذهبوا إلى فلسطين المحتلة ولكن ظلوا يشعرون بحنين إلى بلدانهم العربية، وخصوصا يهود سوريا والعراق، فكأن يهوديتهم ديانة وليست قومية”.

بينما يرى الناقد شلحت أن الكثير من المواقف التي يعبر عنها خيري الذهبي، تبدو ظاهريا للقارئ الذي لا يعرف عن قضية اليهود العرب بأنها متناقضة، والحقيقة أن بين تفهُّم الكاتب لهجرة اليهود وبين إيجاده مسوغات ومبررات لهذه الهجرة مسافة طويلة. ويضيف: “تناقض الولاء للهوية الدينية والهوية الوطنية هو موضوع شائك ومعقد، لم يحاول كتاب الذهبي أن يخوض فيه بعمق ومن الباب الواسع”.

الجندي السوري خيري الذهبي يتحدث عن تجربته في سجون الاحتلال

“فالشباب الصغير كان من سكان حي اليهود الملاصق للحي المسيحي في باب توما، وعلى الدوام كان اليهود الدمشقيون مندمجين بمودة في النسيج السوري دون أية إرهاصات أخرى، حتى جاءت نكبة الـ48. سألته بصوت عالٍ: كيف خدعوكم؟ كيف جعلوكم تتركون أهاليكم وأصدقاءكم وحارات طفولتكم؟ من أجل ماذا؟ من أجل خرافة اسمها وطن الأجداد قبل آلاف الأعوام؟”.

يقول عزام: “إبراهيم الذي ورد اسمه في الكتاب هو طالب يهودي في مدرسة المنصور في سوريا، وعندما ذهب خيري للتدريس فيها، وجد الطلاب يتنمرون على إبراهيم، فحاول أن يحميه من اضطهادهم. وعندما تمّ أسر الذهبي رأى إبراهيم هناك، ولكنه لم يحاول أن يرد لأستاذه الجميل، ولم يتدخل لمساعدته، بل لقد اختفى تماما عن أنظار أستاذه، ولم يقدم حتى اعتذارا عن عدم مساعدته”.

في عتمة الزنزانة.. عزلة كبيرة وأمان كبيرة

قضى الكاتب في سجون الصهاينة 300 يوم، جعلها عنوانا لكتابه الذي رصد فيه يوميات المهاجع المشتركة مع الأسرى والسجانين، كانت العزلة كبيرة وكذلك الأماني، ففي مساحات التفكير للأسرى يدور صراع العقل والغيبيات، صراع يقول الكاتب إنه انتصر فيه للعقل، وهو ما أُخذ عليه واعتبر استخفافا بروحانياتٍ تعين الأسير على استمرارية الصمود.

“لن نستطيع تركك تمنع عنا رحمة الله وبركات الصمدية، وتأكد أنك حين تعود إلى سوريا سيعاقبونك، وسنشهد على وقوفك في وجه حرية المساكين الذين ينتظرهم أطفالهم ونساؤهم، وحين يعودون سيرتبون لك ما لا يخطر على بالك من الأذى، فقلت لهم: لا أقبل أن يكون الإسلام دين تمائم وحجب”.

خيري يتلقى رسالة من ضابط صهيوني مفادها أن النظام السوري لن يكون معه رحيما بعد عودته

يقول الأديب سليمان: “أعتقد أن خيري الذهبي أسقط الأيدولوجية بقوة في قصته، ومن ضمنها سخريته من الذي يقرأ التسابيح، واتفاقه مع الذين لا يؤمنون بالبعد الديني”. لقد كان ينبغي عليه أن يبدي بعض التعاطف والتفهم لأصحاب المعتقدات الدينية، وخصوصا للذين يؤمنون بأن للروحانيات أثرا في تخفيف عزلة السجن، وأن ينقل إليهم أفكاره بنوع من الديمقراطية وقبول الآخر.

يُبرز فصل يوميات الأسر تناقضات داخلية، اقتحمت عقل الكاتب داخل زنازين العدو من خلال استدعائه “للّعنة الإغريقية” التي أوصلت الكاتب لاستنتاج مثير للجدل حول وقوف الجيوش والأنظمة العربية وراء بقائه أسيرا داخل وطنه حتى بعد الإفراج عنه، فالعدو بنى على هذه المفارقات ليجرد الأسير من كل شيء إلا قيود السجن.

بين سجن المحتل وسجن الوطن الكبير.. قهر العدوّ وتواطؤ الأنظمة

“وانتبهتُ إلى أن شظايا الأغنية كانت تتردد من زنازين قريبة، وما لبثت هذه الأغنية أن عمّت صفَّي الزنازين لتصبح هديرا مزلزلا، لأدرك فيما بعد أن تأثير أغنية “يا جبل اللي بعيد” (أغنية فيروز عن جبل الشيخ المحتل) قد وصل للجميع، ولكل منا جبله الذي يقبع خلفه أحبابه. وفجأة سمعنا صوت الحارس في آخر الزنازين يصرخ عاليا شيكت.. شيكت، أي سكوت بالعبرية”.

يرى بعض النقاد أن الكاتب أغفل الدور البطولي الذي قام به الجيش السوري في الأيام الأولى لحرب الـ73، وأنه خلال سبعة أيام وصل إلى بحيرة طبريا المحتلة، وبدلا من ذلك كان يتحدث عن انقطاع الاتصال بالقيادة.

ويدافع آخرون بالقول: كيف تريد من شعب أن يثق بنظام يضطهده؟ فهذه الثغرات التي يتحدثون عنها في الكتاب هي واقع مقهور تعيشه الشعوب، والعدو الصهيوني قد استغل هذا الواقع ببراعة.

“لو احتفظت بهذه ضد إسرائيل فإنك ستعاني كثيرا في حياتك” آخر جملة أوردها خيري في كتابه

يقول الروائي الجزائري واسيني الأعرج: “في سلّم الهزائم ثمة هزيمة لا نملك حيالها سوى الاحتراق كالحطبة البائسة، فكيف إذا كانت هذه الهزيمة نتيجة استبداد يعيش في سراديبه الإنسان، كما حصل مع الكاتب السوري خيري الذهبي الذي حار في توصيف شعوره تجاه تساؤلات الانتماء، ففي ظل الاستبداد لا يحب الإنسان وطنه لأنه يشقى فيه، كما يقول الكواكبي”.

يقول خيري مؤلف الكتاب: “حينما رأيت انتصار الصهاينة أحسست بخذلان شديد، وأن كل آمالي ذهبت أدراج الرياح”. وعن سبب تأخره في نشر الكتاب يعلل: “تأخرت في نشر الكتاب لأن النظام السوري أراد مني أن أكون مداجيا بعض الشيء مع العدو، وأنا لا أحب أن أداجي”.

وينهي خيري فصول كتابه بتلك الجملة التي خاطبه بها السجان الصهيوني: “يا ذهبي.. أحب أن أحذرك، فأنت لو احتفظت بهذه الكراهية كلها ضد إسرائيل فستعاني كثيرا في حياتك، ليس على يد الإسرائيليين، ولكن على يد حكومتك نفسها”.. تلك الجملة اللعنة.


إعلان