الدار البيضاء.. أمّ الحواضر المغربية وساحرة الغزاة على مر التاريخ
هي أكثر من مجرد مدينة، هي ملخص لتاريخ المغرب الحديث، مزيج من أعراقه وثقافاته ونجاحاته وإخفاقاته. هي التاريخ بكل غموضه، والحاضر بتحدياته، والمستقبل بأحلامه وتحدياته. هي المرفأ والمصنع والمزرعة، هي الفن والعلم والرياضة، هي أكثر من مجرّد مغرب مصغّر بغناه الحضاري ومكامن ضعفه الاقتصادية والاجتماعية، بل هي العالم في عصر ما بعد الثورة الصناعية بكل تناقضاته.
فيها امتزج العربي بالأمازيغي، والحرب بالسلم، والأفريقي بالأوروبي، فكانت النتيجة دارا بيضاء هي اليوم أكبر مدن المغرب على الإطلاق، بل كبرى حواضر المغرب العربي وثالث أكبر مدن أفريقيا من حيث عدد السكان بعد القاهرة ولاغوس.
منها وُلد المغرب المعاصر المثخن بجراح المؤامرات الاستعمارية والأطماع الناجمة عن موقعه الاستراتيجي، ومنها تسلل الاستعمار الأوروبي الأول الذي قادته البرتغال في السواحل الأطلسية منذ قرون، وفيها جرت نسخة معدّلة من غزوات هولاكو حين عمد الغزاة البرتغاليون إلى تدميرها.
ومنها انبعث المغرب الحديث مع الحكم العلوي بإعادة بنائها، وإليها توجهت أنظار الاستعمار الفرنسي الحديث، فدكّ أسوارها بالمدافع، وفيها أقام أكبر البنى والمنشآت الاقتصادية لتسهيل استغلال البلاد.
وإليها وجّهت البحرية الأمريكية مدافعها مدشنة عملية الإنزال الضخم في شمال أفريقيا، قبل التوجه نحو أوروبا لحسم الحرب الكونية الثانية ضد ألمانيا، ومنها أيضا انبثق المغرب المستقل بأكبر موانئه وأضخم مدنه وأكثرها صخبا وتفاعلا.
مدينة أنفّا.. آثار الإنسان القائمة منذ مئات آلاف السنين
تقع مدينة الدار البيضاء على ساحل المحيط الأطلسي، على بعد حوالي 80 كم جنوب العاصمة الرباط، وتبعد عن أوروبا بأقل من ساعتين، وعن نيويورك بأقل من ثماني ساعات.[1]
قبل نحو قرن واحد -أي في مطلع القرن العشرين- كانت حدود مدينة الدار البيضاء لا تتجاوز ما يسمى حاليا المدينة القديمة، فقد كانت بلدة مكونة من حوالي 50 هكتارا على حدود مرفأ صخري صغير، محاطة بحزام من الأسوار أعطاها شكلا مثلثا. أما اليوم فتمتد مدينة الدار البيضاء على مساحة تناهز 400 كيلومتر مربع، بساكنة تقدّر بقرابة ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة.[2]
وتشير بعض الدراسات الأثرية إلى أن مدينة أنفّا هي واحدة من أقدم مدن العالم، حيث عثر فيها على جمجمة تعزى إلى بشري عاش قبل 300 ألف سنة، وهو أقدم تاريخ تم العثور عليه حتى اليوم بحسب المراجع العلمية.[3]
كما كشفت دراسات أثرية عن وجود آثار تثبت أنها كانت من أقدم المناطق الآهلة بالسكان قديما، إذ تدل تلك الآثار على وجود منطقة آهلة بالسكان في هذا الموقع قبل حوالي ألف سنة من الميلاد.[4]
وتختلف الروايات التاريخية حول أول من أسس نواة مدينة أنفّا، بين الرومان والفينيقيين، مع ترجيح غالبية المصادر للأصل الفينيقي للمدينة، وذلك لكون هؤلاء اختاروا مواقع ساحلية لبناء جل مدنهم، كما هو الحال مع بيروت وطرابلس الشام وسوسة وبنزرت وطنجة، وذلك بالنظر إلى الطابع التجاري للحضارة الفينيقية، ثم لوجود آثار تاريخية تدل على إطلاق اسم أنفا على موقع فينيقي آخر في لبنان.[5]
كما تستند المصادر التي ترجح الأصل الفينيقي لمدينة الدار البيضاء إلى توقف النفوذ الروماني في المغرب عند نهر أبي رقراق، وتحديدا مدينة سلا، وعدم تجاوزه هذه النقطة نحو الجنوب.
إمارة بورغواطة.. بداية تأسيس الحاضرة السياسية الكبرى
رغم الأصل الفينيقي القديم للمدينة، فإن اسم أنفا يجد أصله في اللغة الأمازيغية المحلية، إذ يعني التلة أو الهضبة أو المكان الذي يخترق البحر، وتعتبر حقبة إمارة بورغواطة الأمازيغية التي حكمت هذا القسم الغربي من المغرب بين منتصف القرن الثامن ومنتصف القرن الحادي عشر للميلاد، هي المرحلة التي أسست فيها أنفا كحاضرة كبيرة ومركز سياسي وازن، ويعتبر المؤرخ ابن خلدون ممن يؤيدون هذه الفرضية.
بينما يصر بعض الباحثين على أن الأمر كان يتعلق بمركز صغير لا يرقى إلى مرتبة الحاضرة، وأن ظهور المدينة الفعلي لم يبدأ إلا في عهد الموحدين، أي ابتداء من القرن 12 للميلاد، وأنها لم تعرف الازدهار إلا في الحقبة المرينية (من القرن 13 إلى القرن 15 للميلاد).[6]
بعد ذلك استعملها المرينيون مركزا للتجارة البحرية مع الخارج، واستولى عليها البرتغاليون ثم الإسبان، وأعيد بناؤها في عهد الدولة العلوية أيام حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) باسم الدار البيضاء.
أما الاسم الحالي للمدينة، فهو ترجمة حرفية للاسم الأجنبي الذي أطلقه البرتغاليون على المدينة منذ القرن الخامس عشر، (كازابلانكا)، وتربط جل المصادر بين هذا الاسم وبين منزل ذي طلاء أبيض كانوا يسترشدون به في البحر لمعرفة موقع المدينة والتوجه إليها.
مع دخول الدولة المرينية حقبة التقهقر وضعف سلطتها المركزية (القرن 14 للميلاد)، أصبحت مدينة أنفا شبه مهجورة، وتحولت إلى منطلق لنشاط قراصنة بحريين كانوا يشنون الغارات ضد الأوروبيين، خاصة منها السفن التجارية البرتغالية، وهو ما جرّ عليها عدوانا غاشما.[7]
غزو البرتغال.. نار الانتقام تحرق الساحل المهجور
لعبت مدينة أنفا دورا كبيرا في فك الحصار الذي فرضه الإسبان على المسلمين في الجزيرة الخضراء سنة 1278، فعندما حاصرت جيوش المسيحيين الجزيرة الخضراء، بعث السلطان المغربي يعقوب بن عبد الحق قواته لفك الحصار عنها، وكانت مدينة أنفا من بين أبرز المشاركين في تشكيل هذه القوة العسكرية، إلى جانب مدينة سلا، وهو ما مكن من فك الحصار عن مسلمي الجزيرة الخضراء ودحر خصومهم.[8]
فقد كانت أنفا على مدى قرون واحدة من الحواضر الكبرى للمغرب، وتشهد على ذلك المؤلفات والآثار التي خلفها كثير من العلماء والفقهاء والقضاة، من بينهم ابن الخطيب، لكن هذه المدينة سوف تختفي من الخريطة المغربية في فترة يرجح أنها في القرن الخامس عشر، وذلك على يد البرتغاليين.
فهذا المستعمر القديم لكثير من الثغور المغربية، كان منذ القرن الخامس عشر في حرب بحرية شبه دائمة مع المغاربة، إذ كانت القبائل والزوايا والسلطات الرسمية تعمل على مقاومة الوجود الاستعماري الذي تسلل إلى بعض سواحل البلاد، بعد تغير ميزان القوى وسقوط الأندلس، وكان أحد فصول تلك الحرب يدور بين البرتغاليين ومغاربة أنفا الذين اختاروا نهج الهجوم بدل الدفاع، فكانوا يشنون غارات على الأراضي البرتغالية ويخلفون فيها أضرارا بليغة، وهو ما دفع الملك البرتغالي إلى اتخاذ قرار تحطيم وإبادة المدينة، وهو ما وقع بالفعل سنة 1468 ميلادية.
ويحكي كتاب هاشم المعروفي “عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور”، أن الملك ألفونسو الخامس خطط طويلا للقضاء على مدينة أنفا، من خلال عمل استخباراتي مكّنه من معرفة خريطة المدينة ومداخلها الأساسية، ثم وجّه إليها جيشا ضخما يقدّر بخمسين قطعة بحرية على متنها عشرة آلاف مقاتل، وما إن اقتربوا من ساحل المدينة حتى جمع سكانها أمتعتهم وفروا من الموت المحقق نحو مدينتي سلا والرباط، على أمل الحفاظ على مدينتهم سالمة والعودة إليها، إلا أن الغزاة البرتغاليين عمدوا إلى تحطيم المدينة بالكامل كي لا يبقى لها أثر بعد ذلك الهجوم.
وقد أكد الحسن الوزان في كتابه “وصف أفريقيا” هذا المصير المشؤوم لمدينة أنفا بعد ازدهار كبير، فربط بين اندثارها وبين هجوم أهلها على السواحل الايبيرية. ويؤكد الحسن الوزان أنه شاهد بنفسه آثار الدمار حين زار موقع مدينة أنفا.
محمد بن عبد الله.. سلطان يحيي المدينة من تحت ركام التاريخ
بقيت مدينة أنفا على هيئتها المحطمة أكثر من قرنين من الزمن (رغم أن بعض المصادر تقول إن البرتغاليين استوطنوها بعد فرار سكانها)، إلى أن قرر السلطان العلوي محمد بن عبد الله إعادة بنائها. وجاء ذلك ضمن سياسة تجارية اعتمدها هذا السلطان، إذ وقف خلال عودته من إحدى رحلاته إلى مدينة الصويرة على الموقع المميز لميناء أنفا، فأمر بإعادة تشييد المدينة، وعيّن صهره عبد الله بن محمد الرحماني مسؤولا عليها ومقيما فيها، وذلك في أواخر القرن الثامن عشر.[9]
بعدما أمر بإعادة بنائها، فتح السلطان محمد بن عبد الله باب الهجرة إلى مدينة الدار البيضاء، فهاجر إليها قسم من قبائل الشاوية، وجلهم من قبيلة مديونة وأولاد حدو والهراويين والرواجع والمعارف وأولاد المجاطية وبعض من قبائل دكالة، إلى جانب جزء من رجال حاحة الذين عزز السلطان بهم جيش البخاريين الذي كان يحرس المدينة.
وقد هاجر إلى الدار البيضاء أيضا سكان بعض المدن الكبرى مثل فاس، كبعض من أفراد عائلة بنجلون التويميين وعائلة بنكيران وعائلة بنيس، ومن الرباط أفراد من عائلة المستاري، ومن سلا بعض من أسرة بوشتنوف، وأدى كل ذلك إلى مزيج شديد التنوع من الأصول والثقافات والطباع التي انصهرت في هوية حضرية جديدة.[10]
نهضة الدار البيضاء.. حركة تجارية تصنع ملامح المدينة الجديدة
لم تكن مدينة الدار البيضاء بداية القرن 19 تلك المدينة الصناعية الكبرى المعروفة اليوم، بل كان أكثر إنتاجها من بعض الصناعات التقليدية، مثل الزرابي وأقمشة الحرير والصوف والأحذية التقليدية، دون أن تكون هذه الصناعات ندا حقيقيا لنظيرتها في مدن أخرى مثل سلا وفاس، لكن المدينة كانت نقطة تجارية حيوية والمنفذ البحري لقبائل الشاوية، وواحدا من المصادر الأساسية لتموين مدينة مراكش بالمواد المستوردة وتصدير المنتوجات المحلية، بيد أن هذا الميناء كان مكشوفا وضعيف الحماية.[11]
وقد شهد مطلع القرن العشرين من الميلاد نهضة مدينة مغربية كبرى اسمها الدار البيضاء، مستفيدة من مينائها التجاري الذي يسمح برسو السفن الكبرى، ومحيطها الغني بالمنتوجات الفلاحية، مما جعلها مصدرا للحبوب التي كثر عليها الطلب في أوروبا حينها.
وفي مقابل المزروعات المغربية، كانت البضائع الأوروبية تغزو المغرب انطلاقا من الدار البيضاء، مما أدى إلى ظهور حركية تجارية كبيرة، ومعها ظهرت بورجوازية غنية جديدة وتوافد الأهالي من مختلف الأنحاء للعمل والاستقرار في المدينة.
مؤتمر الجزيرة الخضراء.. فرنسا تلتهم البحر والبر المغربي
بينما كان الجنرال الفرنسي “أوبير ليوتي” يحقق اختراقات ميدانية في التراب المغربي من جهة الشرق قادما من الجزائر المحتلة منذ بدايات القرن الـ19، كان الأجانب الأوروبيون -وخاصة الفرنسيين- المستقرون في مدينة الدار البيضاء يواجهون مقاومة متصاعدة من جانب السكان المغاربة بالمدينة وأولئك القادمين من القبائل المجاورة.
كان الاحتلال الفرنسي يتوغل في الأراضي المغربية من جهتي الشرق والجنوب، والأوروبيون آخذين في مد مصالحهم وتمتينها في الواجهة الساحلية الأطلسية، وراح المهندسون الفرنسيون يشرفون على إصلاح ميناء الدار البيضاء، ومد سكة حديدية لجلب الأحجار اللازمة لذلك، وبات مراقبون فرنسيون يراقبون الجمارك المغربية باسم البنوك الفرنسية الدائنة للمغرب، وذلك في كل في الموانئ المغربية، يتقدمها ميناء الدار البيضاء.[12]
وقد بلغت المقاومة الشعبية ذروتها في 30 يوليو/تموز 1907 مع هجوم استهدف أشغال بناء وتوسيع الميناء التجاري الذي يستغله التجار الأجانب، وقد قتل تسعة أوروبيين من بينهم خمسة فرنسيين، وحوصرت القنصليات الأجنبية بالمدينة.[13]
عام 1906 نظم مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي ضم القوى الاستعمارية الساعية إلى احتلال المغرب أو انتزاع نفوذ داخل ترابه، وقد نصب فرنسا وإسبانيا على مسؤولية ضمان الأمن والاستقرار في المغرب، خدمة للمصالح التجارية الأوروبية، ووفقا لمقتضيات المؤتمر تحرك الأسطول البحري الفرنسي نحو سواحل الدار البيضاء.
مجزرة الدار البيضاء.. ضربة عنيفة لزجر المقاومة في المستعمرات
انطلقت المواجهة الدامية بين القوات الغازية والمقاومة القبلية لتستمر بضعة شهور، لتقف القوات الفرنسية على استحالة تأمين الموقع التجاري للدار البيضاء دون محاربة المقاومة القبلية في العمق، أي في المجال الترابي لقبائل الشاوية، وهو ما أدى إلى وصول الغزو الفرنسي إلى مناطق برشيد وسطات، وإقامة مراكز عسكرية في العمق الجنوبي والشرقي للدار البيضاء لمنع قوات القبائل المحلية من الوصول إلى الدار البيضاء.
كان الأوروبيون مدفوعين برغبة جامحة لمنع عملية الدار البيضاء من التحول إلى حدث ملهم لباقي المناطق المغاربية، في الجزائر وتونس بالخصوص[14]، وضرب المصالح التجارية والاقتصادية للمستعمر الفرنسي، ومن ورائه باقي القوى الأوروبية، وهو ما يفسّر العنف الكبير والوحشية التي اتسم بها التدخل العسكري في الدار البيضاء، على الرغم من الضمانات والتطمينات التي قدمتها السلطات المغربية.[15]
أمطرت المدفعية الفرنسية مدينة الدار البيضاء بالنيران انطلاقا من البوارج البحرية خلال الفترة من 5 إلى 7 آب/أغسطس 1907، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى.
وإلى جانب المجزرة الدموية، كان للاحتلال الفرنسي لمدينة الدار البيضاء أثر عميق على المغرب المترنح وقتها تحت تأثير الضربات الاستعمارية المتعددة، وكان مما خلّفه هذا الحدث تغيير السلطان، فقد ارتفعت وتيرة تمرد أخي السلطان مولاي عبد العزيز وخليفته في مراكش، وحفّز الحدث عددا من القبائل والعلماء على نزع البيعة من عبد العزيز ومنحها لمولاي عبد الحفيظ، مما رجح كفته وأدى إلى انتصاره وتوليه الحكم في السنة الموالية.
رحلة طنجة.. ضربة تخريبية أزهقت آلاف الأرواح
أصبحت الدار البيضاء خلال فترة الحماية الفرنسية مهدا للمقاومة الوطنية، ولعبت النقابات العمالية التي أقامت مقراتها في المدينة دورا مهما في هذه المقاومة، واحتضنت أحياء المدينة وبلدتها القديمة عددا من المقاومين، فشكلت معقلا لهم ومنطلقا للنضال من أجل استرجاع الاستقلال السياسي للبلاد، أبرزهم المقاوم الشهيد محمد الزرقطوني.[16]
وفي أبريل/نيسان 1947 قرر السلطان محمد الخامس زيارة طنجة عبر القطار، لما يرمز له ذلك من وحدة التراب الوطني، وذلك من خلال الربط بين جنوب وشمال المغرب. ولتخريب تلك الزيارة اختلقت فرنسا ما يعرف بأحداث عام 1947 في مدينة الدار البيضاء، إذ اختطفت القوات الفرنسية قائد المجموعة السنغالية الذي يعمل مع الاستعمار الفرنسي، واغتالته ومثلت بجثته من خلال قطع عضوه التناسلي ورميه قرب الثكنة، وقد أثار ذلك الفعل غضب الجنود السنغاليين، وقاموا بإطلاق الرصاص عشوائيا على المواطنين المغاربة، وسقط في هذا الهجوم الآلاف من الضحايا.[17]
لكن القدر كان يسوق المدينة نحو التوغل أكثر في متاهات الصراعات الدولية الكبرى، فقد وجدت نفسها مرة أخرى في مرمى المدفعية، حين استهدف قصف مدفعي أمريكي قوي عددا من المدن المغربية في الساحل الأطلسي، بدءا من يوم 6 نوفمبر/تشرين ثاني 1942، في إطار بدء الإنزال العسكري للقوات الأمريكية المتوجهة نحو أوروبا الواقعة تحت الاحتلال النازي. وعلاوة على الخسائر البشرية الكبيرة التي خلفها القصف، فإنه أدى أيضا إلى تدمير أرصفة ميناء الدار البيضاء.
معبر الأمريكيين.. ساحة من ساحات الحرب الكونية الثانية
كانت المدينة مرة أخرى ضحية لمؤهلاتها، باعتبارها شكلت موقعا حيويا بالنسبة للحليفين أمريكا وبريطانيا، لإيصال قواتهما إلى سواحل شمال أفريقيا، لكون خط السكك الحديدية يربط الدار البيضاء بأقصى شرق المغرب، أي مدينة وجدة، نقطة الولوج نحو الجزائر.
لقد تبلورت فكرة تدخل الأمريكيين في شمال أفريقيا منذ انهزام فرنسا أمام ألمانيا وتوقيعها معاهدة هدنة معها سنة 1940، ومما زاد مخاوفهم احتمال وصول الألمان إلى جبل طارق وسيطرتهم على مضيق بحري حيوي بالنسبة للمصالح الأمريكية. هكذا توجهت الأنظار صوب المغرب وتحديدا مدينة الدار البيضاء كمرتكز لأي تدخل عسكري في أوروبا.[18]
وبلغ عدد الآليات العسكرية التي نقلت القوات الأمريكية إلى السواحل المغربية حوالي 100 سفينة بحرية، وما يزيد عن 100 ألف عسكري أمريكي. وقد واجه هذا العدد الكبير من القوات والمعدات العسكرية الأمريكية، مقاومة من القوات الفرنسية بإيعاز من “حكومة فيشي” الموالية حينها للألمان، لكنها لم تستمر سوى يومين عندما تمكنت القوات الأميركية من دخول السواحل المغربية وصولا إلى وهران بالجزائر.[19]
ولم تكن الدار البيضاء منطلقا للعملية العسكرية فقط، بل أصبحت في إحدى اللحظات الحاسمة من مصير الحرب الكونية الثانية عاصمة للدبلوماسية الدولية، حين انعقدت فيها أواسط شهر يناير/كانون الثاني 1943 محادثات عالية المستوى، حضرها الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت”، والوزير الأول البريطاني “ونستون تشرشل”، إلى جانب قادة المقاومة العسكرية الفرنسية ضد ألمانيا يتقدمهم الجنرال “شارل ديغول”.
وإلى جانب المشاورات الدولية الخاصة بالحرب العالمية، شهدت الدار البيضاء طرحا للقضية الوطنية المغربية، في لقاءات جمعت السلطان محمد بن يوسف بكل من القادة الأمريكيين والإنجليز.
“كازابلانكا”.. ملهمة الشعراء والفنانين وقبلة السياح
برزت الدار البيضاء بقوة عبر الفيلم الكلاسيكي الشهير الذي حمل اسمها “كازابلانكا” (Casablanca)، وقد كشف عن مكانتها في ذلك الوقت، إذ صوّرها على أنها مسرح لمعركة السيطرة بين القوى الأوروبية المتصارعة.[20]
ومن بين أهم معالم المدينة ساحة الأمم المتحدة المقابلة لباب مراكش التاريخي الذي يأخذك إلى المدينة القديمة لشراء الهدايا التذكارية، وتعتبر امتدادا لساحة باريس التي بنيت في ثلاثينيات القرن العشرين، ويطلق عليها السكان أيضا الكرة الأرضية، نسبة إلى الكرة الأرضية المصنوعة بقضبان الحديد الصلبة التي تتوسطها.[21]
كما يعتبر مسجد الحسن الثاني -الذي انتهى بناؤه عام 1993 بعد ستة أعوام من الأشغال- أضخم مسجد في المملكة المغربية، وواحدا من بين أهم المعالم الحضارية للمدينة، إلى جانب حي الأحباس الذي شيد في عهد الحماية الفرنسية، ويتميز بمعماره الذي يمزج بين الطراز العربي الإسلامي (الأندلسي) والهندسة الأوروبية، وقد تحول إلى معلم حقيقي ببناياته العصرية التي تصطبغ بالشكل التقليدي.
وتعتبر المدينة العتيقة بالدار البيضاء حيا سكنيا يمتاز بتاريخ عريق وبنايات على نمط باقي المدن المغربية القديمة الأخرى، ويحيط بها سور لم يبق منه سوى أجزاء قليلة تطل على المحيط الأطلسي، وتتخلله أبواب كبرى يدرج جلها في قائمة المعالم السياحية للمدينة.[22]
ومن بين ما كتب حولها، ما قال عنها الشاعر مولاي أحمد البلغيثي:
حياك مولاك يا بيضاء من دار
كم فيك كم فيك ما يقصه الدّاري
حيث السرور توى حيث البرور بدى
حيث التباعد عن حزن وأكدار
كم فيك من منن كم فيك من نعم
وعنك من خبر يروى بإيسار
لا زلت لا زلت تزدادين من ترف
به تباهين ما حاذاك من دار
ما زال ربعك مزدانا بكل حلى
كسيتها من عطاء الخالق الباري
لا زال أهلك في خصب وفي كرم
وفي نعيم هم كالغيث مدرار.[23]
المصادر
[1] shorturl.at/hIP68
[2] shorturl.at/GHPV4
[3] shorturl.at/fgmqT
[4] shorturl.at/pqsu0
[5] هاشم المعروفي. الصفحة 17
[6] https://www.youtube.com/watch?v=icpGkiZCQfo
[7] https://www.youtube.com/watch?v=icpGkiZCQfo
[8] shorturl.at/NTW12
[9] هاشم المعروفي. عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1987، الناشر غير معروف
[10] هاشم المعروفي. الصفحة 112
[11] La Chaouïa et sa pacification : étude sommaire de l’action française dans la région de Casablanca jusqu’au 1er janvier 1909 / Lieutenant Segonds, Date de l’édition originale : 1910.
[12] الدكتور فليكس بروني. في الدار البيضاء من 1 إلى 7 غشت 1907، ترجمة بوشعيب الساوري، تقديم علال الخديمي، منشورات القلم المغربي، سنة 2019.
[13] https://www.cairn.info/revue-guerres-mondiales-et-conflits-contemporains-2010-1-page-7.htm
[14] La Chaouïa et sa pacification : étude sommaire de l’action française dans la région de Casablanca jusqu’au 1er janvier 1909 / Lieutenant Segonds, Date de l’édition originale : 1910.
[15] الدكتور فليكس بروني. في الدار البيضاء من 1 إلى 7 غشت 1907، ترجمة بوشعيب الساوري، تقديم علال الخديمي، منشورات القلم المغربي، سنة 2019.
[16] shorturl.at/hktux
[17] shorturl.at/hktux
[18] عبد السلام انويكة، المغرب زمن الحرب العالمية الثانية بعيون الرئيس الأمريكي روزفلت، دورية كان التاريخية، السنة 14، العدد 52، يونيو/حزيران 2021،ص. 181-191.
[19] shorturl.at/hnuw8
[20] shorturl.at/krux7
[21]shorturl.at/lvy07
[22] shorturl.at/lvy07
[23] هاشم المعروفي. عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشاوية عبر العصور، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1987، أعاد نشره المجلس العلمي المحلي لعمالة مقاطعة عين الشق بالدار البيضاء