“المسيرة إلى روما”.. عن موسوليني الذي سخّر السينما لتلميع فاشيته

قد تكون الصورة السينمائية خير وسيلة للإقناع والتحريض والشحن ثم إثارة الغضب والقيام بالدور في إشعال الثورة. لكن كما أن الصورة يمكن أن تكشف وتعرّي وتفضح الحقائق، يمكنها أيضا أن تكذب وتختلق ما لا وجود له عندما يتم توظيفها لخدمة الدعاية السياسية.
هذا ما يتناوله ببراعة ودقة ومن خلال بناء سينمائي يتميز بالسلاسة والوضوح؛ الفيلم الوثائقي الطويل “المسيرة إلى روما” (The March on Rome)، والذي عرض مؤخرا في مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي الدولي.
مخرج الفيلم هو الإيرلندي “مارك كازين”، وهو معروف في مجال الأفلام الوثائقية بأسلوبه الخاص الذي يمزج بين الذاتي والموضوعي، وباهتمامه الكبير في عالم السينما، أو في علاقة السينما بالعالم.
يتناول المخرج في فيلمه الجديد الظاهرة الفاشية، وتحديدا صعود الدكتاتور الفاشي “موسوليني” وحزبه إلى السلطة في إيطاليا قبل مئة عام، فيتوقف أمام تساؤلات من قبيل: كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث؟ وكيف كانت انعكاسات هذا الصعود على إيطاليا وأوروبا، بل وعلى العالم بأسره؟
من موسوليني إلى ترامب.. الفاشية لم تنته
يربط المخرج في البداية بين صعود “موسوليني” وحزبه الفاشي الذي يعتمد على العنف والقهر واستخدام القوة المفرطة، وبين اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي في “كابيتول هيل” من قبل جماعات الفاشيين الجدد في واشنطن في السادس من يناير/كانون الثاني من العام الجاري، بتحريض أو ربما بتواطؤ من طرف الرئيس السابق “دونالد ترامب” الذي رفض قبول نتيجة الانتخابات الرئاسية التي أطاحت به.
المقصود من هذا الربط أن الفاشية لم تنته من العالم، بل عادت مع ظهور النزعات السياسية الشعبوية التي يحتضنها أقصى اليمين.
يستخدم “مارك كازين” التعليق الصوتي المصاحب للصور في أسلوب يضفي الطابع التعليمي على الفيلم، لكي يسلط الأضواء على الظاهرة من جميع جوانبها، ويتوقف أمام بعض الأمور المفصلية في مسار الحركة التي سيؤدي نجاحها بعد نحو عقد من الزمان إلى صعود الحزب النازي في ألمانيا بقيادة “أدولف هتلر”، ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية بكل ما جلبته من نكبات وكوارث في أوروبا والعالم.
من ميلانو إلى روما.. مسيرة الفاشيين للسيطرة على إيطاليا
في 28 أكتوبر/تشرين الأول عام 1922 استغل موسوليني الاضطرابات التي كانت تشهدها إيطاليا، وعجز الحكومة (الاشتراكية) عن تسير الأمور، والشعور العام بأن إيطاليا لم تنل من وراء اشتراكها إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى مكافأة سياسية مناسبة، حيث قرر القيام مع أنصاره بمسيرة كبرى من ميلانو إلى روما للاستيلاء على السلطة بالقوة إن لم يرضخ الملك لمطالبه، ورضي بتكليفه بتشكيل الحكومة.

دعم كبار الرأسماليين وأرباب الصناعات الإيطاليين تلك المسيرة بالمال، فاستأجر الحزب الفاشي عشرات الحافلات، ونقل ما يقرب من 30 ألف عضو من أعضائه ذوي “القمصان السوداء” إلى روما.
لكن المفارقة أن “الزعيم” (أي بنيتو موسوليني نفسه) لم يكن من بينهم كما يوضح لنا الفيلم من خلال الصور الوثائقية، فقد فضل البقاء في ميلانو كي يجري مباحثات واتصالات لإقناع أحزاب الوسط بتأييده. إلا أن “كازين” يقول لنا -من خلال التعليق الصوتي- إن موسوليني كان يخشى فشل الانتفاضة، وفي هذه الحالة كان سينفذ بجلده إلى سويسرا، لكن بعد نجاح الخطة من دون إراقة الدماء استقل قطارا إلى روما ودخلها دخول الفاتحين المنتصرين، وفي اليوم التالي نظمت جحافل “القمصان السوداء” تلك المسيرة التي بالغت الدعاية كثيرا في قوتها وحجمها.
في معظم المدن الإيطالية استولت مليشيات الفاشيين على المواقع الحيوية وطردوا المسؤولين من مواقعهم وجلسوا مكانهم، وأصدر رئيس الوزراء “لويجي فاكتا” قرارا بفرض حالة الطوارئ، وبالتالي استدعاء الجيش لقمع التمرد، لكن الملك “فيكتور عمانويل” الثالث رفض التوقيع على هذا القرار بدعوى أنه يمكن أن يؤدي إلى نشوب حرب أهلية في البلاد، فاستقالت الحكومة وتولى موسوليني السلطة، وبذلك سقطت إيطاليا بين أيدي الفاشية.
تضليل سينمائي.. دعاية سياسية وتسويق لبطل تاريخي
يقسّم “كازين” فيلمه إلى فصول تحمل عناوين مختلفة، والمقصود أن يغطي عبر أكثر من ساعة ونصف (زمن الفيلم) كيف أدى التضليل السينمائي والتلاعب الفظ بالصورة إلى تجميل صورة الفاشية وصورة موسوليني، وكيف تم تسويقه للشعب الإيطالي باعتباره بطلا تاريخيا.
يتوقف المخرج كثيرا ويظل يعود ليسترجع لقطات من الفيلم الدعائي الشهير “إلينا” (A Noi) الذي أخرجه الإيطالي “أومبرتو باراديزي”، وعرض في العام التالي مباشرة 1923، فقد تلاعب “باراديزي” بالصور من خلال المونتاج، كما يوضح ويشرح بشكل تفصيلي المخرج “مارك كازين”، فقد بالغ في أعداد الحشود التي شاركت في الاستعراض شبه العسكري في روما بعد انتصار الحركة، كما يوحي بنقاء الطقس، ويستبعد أي لقطات تظهر الغيوم وهطول الأمطار في ذلك اليوم، مع بقاء معظم سكان المدينة بعيدا عن الحدث.
استخدم “باراديزي” أيضا مناظر خاصة صُورت في الأستوديو من أجل الدعاية للحزب الفاشي، مع تمجيد شخصية “الدوتشي” (موسوليني)، على غرار معظم أفلام الدعاية السياسية، مع تجاهل حقيقة أن موسوليني كان غائبا عن المسيرة التي دعا إليها كما يخبرنا “كازين” في تعليقه الصوتي على صورة الزعيم الذي سيصبح أصغر رئيس وزراء في أوروبا (كان عمره وقتها 39 عاما).

يتوقف المخرج أمام اللقطات، يجمد الصورة، ويشير إلى تكرار ظهور شخصين يسيران عكس الحشد الصغير الذي يتجه إلى الأمام، وهو ما يؤكد أن “براديزي” استخدم اللقطة نفسها مرات عديدة في سياق ممتد، وذلك للإيحاء بكثرة عدد المشاركين في المسيرة.
يقوم المخرج بتشريح اللقطة، بتجميد الصورة تارة، والعودة إلى الوراء تارة أخرى لكشف التزييف الذي حدث، فالصورة يمكن أن تكذب، لكنه يضيف أن موسوليني كان يطرح نفسه أيضا باعتباره فنانا، وأن “الثورة” التي قام بها كانت عملا فنيا.
“عدوى” الفاشية.. إعجاب غربي وسكوت على الفظائع
يستخدم الفيلم الكثير من لقطات الأرشيف لإعادة بناء صورة إيطاليا والعالم في تلك الفترة، ويتوقف أمام طموح إيطاليا الفاشية للحصول على مستعمرات لها، وتأسيس إمبراطوريتها الفاشية لكي تنافس الإمبراطوريات الكبرى مثل الفرنسية والبريطانية، فنرى كيف غزت إيطاليا البلقان، واحتلت ألبانيا وكرواتيا، ثم اتجهت إلى أفريقيا لتحتل إثيوبيا، مع استمرار احتلالها للأراضي الليبية.

يكشف لنا الفيلم أن صعود موسوليني والفاشية الإيطالية لقي أيضا إعجابا من جانب زعماء كبار في الغرب، مثل “وينستون تشرشل” الذي أبدى إعجابا كبيرا بـ”الدوتشي”، ووصفه بأنه “أعظم المشرعين على قيد الحياة”، كما بعث إليه العالِم المرموق “ألبرت آينشتاين” رسالة يعرب فيها عن إعجابه بشخصيته وشجاعته، ثم أدار الغرب وجهه -كما فعل فيما بعد مع النازية- عن الفظائع التي ارتكبت بحق الأقليات، لكن “كازين” يصف مثل هذه الموجة من الإعجاب بالفاشية بأنها مثل “العدوى” التي ساهمت في انتشار الفاشية خارج إيطاليا، بدليل تأسيس حزب سياسي في بريطانيا على غرار الحزب الإيطالي الفاشي.
إيطاليا.. استعادة العظمة بالحب أو القوة
يمنح “كازين” فيلمه طابعا شعريا، فيمزج بين أسلوب الفيلم التمثيلي والفيلم الوثائقي عندما يستعين بالممثلة والمخرجة الإيطالية “ألبا رورواكر” التي تظهر بين الحين والآخر لتمثل دور سيدة إيطالية بسيطة من ذلك العصر، تخاطبنا مباشرة وهي تتطلع نحو الكاميرا. في البداية تبدي استحسانا وحماسا لصعود الفاشية ولشخصية موسوليني، لكنها تدريجيا تفقد ثقتها في النظام، إلى أن تصل للرفض والمعارضة.
إنه تعبير مجازي عما حدث للشعب الإيطالي نفسه الذي كان واقعا في البداية تحت تأثير الكاريزما الشخصية لموسوليني ومزاعمه في النهوض بإيطاليا كأمة قوية متحدة، مع استعادة أمجاد الإمبراطورية الرومانية، وكلها أشياء وعدتهم بها الفاشية، وذلك قبل أن تنكسر وتندحر في الحرب العالمية الثانية.
هنا يسخر “كازين” من مقولة موسوليني الشهيرة التي تتلخص في أنه سيستعيد النظام والعظمة الإيطالية “بالحب إن أمكن، أو بالقوة إن اقتضى الأمر”.
السينما.. سيطرة موسوليني على الصورة
يستخدم “كازين” في الفيلم لقطات لنهاية موسوليني وعشيقته، تلك النهاية التراجيدية العنيفة بالشنق على أيدي الحشود الغاضبة من الإيطاليين بعد الهزيمة، وظهور الفظائع التي ارتكبها النظام الفاشي بعد دخول القوات الأمريكية البلاد. وفي لقطات وثائقية نرى رفع الجثتين فوق عمودين من أعمدة الإضاءة في وسط ميلانو.

ينتقل “كازين” في القسم الأخير من فيلمه لكي يطلعنا على الوجه الآخر لقوة السينما، فإذا كانت قد خضعت حينا للدعاية السياسية الفجة ولعبت دورا في التضليل والكذب، فهي في الوقت نفسه تصدت وقاومت وكشفت، ويضرب هنا مثالا بما قدمه كبار السينمائيين في العالم من أمثال “شارلي شابلن” و”كارل دايير” وغيرهما.
يستخدم “مارك كازين” اللقطات الأرشيفية ويعيد اكتشاف الكثير منها، كما يستخدم الصور واللقطات الثابتة والتواريخ وأسماء الأماكن وعناوين الفصول، والتعاقب الذي لا يقوم على الأزمنة المختلفة، بل على وضع خطوط عريضة تحت ظواهر محددة، وفصول مجهولة في تاريخ الفاشية الإيطالية، ثم تداعيات حكمها في الداخل والخارج.
هو بالتالي عمل كبير يعيد فتح هذا الملف بأسلوب رصين يتسم بالبساطة في الطرح والانسيابية في الإيقاع، ويبتعد عن الصخب، فهو يبتعد في شريط الصوت المصاحب عن المغالاة في خلق التأثيرات الدرامية، ويترك المجال للصورة كي تتنفس، ولا يكتفي بالوصف، بل يتوقف أمام الصور ويحللها، ثم يقدم تفسيراته الخاصة لها. وبالتالي يمكن القول أيضا إنه يظل عملا ذاتيا نابعا من ضمير المخرج الذي كتب مادة فيلمه بالتعاون مع المخرج الإيطالي “توني ساكوتشي”.
لا يكتفي الفيلم بالتعليق الصوتي المباشر، بل يستخدم أيضا لقطات كثيرة من الأفلام التي وجهت النقد لعصر موسوليني، وأشهرها الفيلم الإيطالي “يوم خاص” (A Special Day) الذي أخرجه “إيتوري سكولا” عام 1977، وقام ببطولته “مارشيللو ماستروياني” أمام “صوفيا لورين”.
يصور الفيلم علاقة التعاطف التي تنشأ بين جارين هما كاتب يساري مثلي مهدد بالاعتقال، وربة منزل تعاني من فظاظة زوجها المنتمي للحزب الفاشي، وتدور الأحداث في يوم واحد، وهو يوم زيارة هتلر لروما.
قد يعيب فيلمنا هذا بعض الإفراط في الاستنتاجات الذاتية وصيغة الإدانة المسبقة، لكن ما الذي يمكن أن ننتظره من فيلم عن فاشية موسوليني؟
لا أظن أن الحيادية أو الموضوعية المطلقة يمكن أن تفيد في هذه الحالة، فالمشاعر ليس من الممكن تحييدها، خصوصا وأننا نشهد اليوم صعودا مثيرا للفاشية الجديدة.
في بداية الفيلم نرى صورة ضخمة على جدار لموسوليني وهو يصور بكاميرا سينمائية وخلفه شعار منسوب إليه يقول فيه “السينما هي السلاح الأقوى”. لقد كان معروفا أن موسوليني الذي ظهر في “عصر الراديو” كان مبهرا بقوة الكاميرا السينمائية وقدرتها على نقل الصورة، وبعد ظهور الفيلم الناطق تمكن من السيطرة على الجريدة السينمائية ومخاطبة الشعب الإيطالي من خلالها أسبوعيا.