رواية “البيضاء”.. حروب السياسة المصبوغة بالحب في العصر الناصري

(حيرتني هذه القصة، كتبتها في صيف 1955، ونشرت بعضها تباعاً في جريدة الجمهورية عام 1960، وأخيراً قررت نشرها هذا العام، فإن كان بطلها هو يحيى، فإنها وثيقة حية لفترة خطيرة من فترات الحياة في بلادنا، فترة لا أعتقد أن أحدا تناولها، وإنني لشديد الاعتزاز بهذا الجزء من عمري وعمر بلادي).

“البيضاء” رواية خطها الأديب المصري يوسف إدريس، صدرت أول مرة عام 1960 على شكل حلقات في صحيفة الجمهورية، واعتبرت لاحقا من أهم إنجازات الكاتب وأكثرها جدلا، فقد مزج فيها قصة الحب بالصراع مع السلطة، ونقد التجربة اليسارية في مصر، بالإضافة إلى تضمينها ما رآه البعض توثيقاً لسيرته الذاتية التي رواها على لسان بطل القصة، الدكتور يحيى.

كل نلك الخطوط خلقت للرواية هالة جاذبة، جعلت منها تحفة تربعت على صدر العمل الروائي العربي في تلك الفترة، كما اثارت حولها، وما تزال، أمواجاً كثيرة ومستمرة من النقد بشقَّيه؛ الإيجابي والسلبي، حتى يومنا هذا. لأجل هذا، عقدت لها قناة الجزيرة حلقة خاصة من برنامج (خارج النص)، واستضافت عدداً من المثقفين والنقاد لتسليط الضوء على منعرجاتها المختلفة.

ملك القصة القصيرة.. صديق الثورة يتوهج نجمه ويخفت منافسوه

قال عنها د. خيري دومة، أستاذ الأدب في جامعة القاهرة: هي قصة حب أكثر منها قصة ثورة، لكنها موجهة للداخل. ووصفها سليمان المعمري، القاصّ العُماني: هي قصة حب خلفيتها سياسية، يسرد من خلالها رؤيته للبطل وللحياة وللاتجاه اليساري، وإنْ بنظرةٍ بسيطة، وليست تصفيةَ حسابات مع اليساريين كما اتُّهِم الكاتب لاحقا.

أما القاصّ الأردني هاشم غرايبة فانتقد الرواية بقوله: ليست في مستوى كتابات يوسف إدريس المتوهجة، مثل “النداهة” و”بيت من لحم” و”مسحوق الهمس”، وطريقته في الكتابة ليست مكثفة وتخلو من الدلالات التي وراء السطور.

كان يوسف إدريس كاتب الرواية أول أسباب إثارة الجدل حولها، فقد اشتهر على مستوى الوطن العربي بوصفه أبرز كتّاب القصة القصيرة، وأحد أهم الأساسات التي ارتكز عليها هذا الفن. وبينما اعتبره كثير من مناصريه صاحب موهبة فذة جعلته في مصاف الكتاب المميزين، فقد رأى منتقدوه أن هنالك عاملا آخر دعم موقفه وزاد من انتشاره وسطوع نجمه، وهو علاقته مع سلطة يوليو/1952.

رواية “البيضاء” مزج فيها كاتبها المصري يوسف إدريس قصة الحب بالصراع مع السلطة.

كان إدريس يساريا مناهضا للسلطة، واعتقل في بداية الخمسينيات، لكن ما لبث أن تحوّل إلى مهادنٍ لها، وقد تحدث الناقد الراحل فاروق عبد القادر عن هذه العلاقة في دراسته النقدية حول رواية البيضاء قائلا: في 56-57 توطدت علاقة يوسف إدريس بأنور السادات إلى جانب الاتحاد القومي، وكان يتردد عليه بانتظام في منزله بالهرم، ويصف أمسياته معه بأنها ممتعة بفضل أحاديث جيهان السادات.

لا ينكر أحدٌ علوَّ كعب إدريس في القصة القصيرة، حتى قال عنه الروائي عمرو العادلي: ولد نجم يوسف إدريس كبيرا، فقد جاء متقنا للقصة القصيرة مستوعباً عناصرها، حتى قال: “أضغط البحر في قطرة، وأدخل الجمل في ثقب إبرة”، وكان يصف نفسه بالحاوي الذي يملك حبلا طوله نصف متر، لكنه يستطيع أن يطوق به العالم.

أما الناقد د. محمد عبد الباسط عيد فكان له رأي آخر، إذ يقول: قُدِّم إدريس بأنه الكاتب الأسطورة، نعم كان كاتبا قويا أعطى دفعة كبيرة للقصة القصيرة، لكن هنالك أسباب أخرى منحته هذا الزخم القوي، وهي علاقته بالسلطة التي جعلته النجم الأوحد، واختفى من حوله كثير من كتّاب القصة، ولم يعد يعرفهم إلا المحققون والدارسون، حتى سُمّوا “ضحايا إدريس”.

“كنت في عنفوان مرحلة الاستقلال”.. شغف السياسة والحب

تقول مقدمة الرواية: لماذا نكذب على أنفسنا؟ إن لكل منا قصة حب دفينة وضعها في أغوار نفسه، وكلما مضى عليها الزمن دفعها أكثر فأكثر إلى أعماقه، وكأنما يخاف عليها من الظهور، وسوف أقول لكم كل شيء عن قصة حبي: حين قابلت “سانتي” كنت في عنفوان مرحلة الاستقلال، ومجلتنا تخوض حربا لا هوادة فيها لإعداد الشعب للمعركة، ولا مجال للعاملين فيها للتفكير في غير العمل والكفاح.

والمجلة تصدر في القاهرة، ويتردد صداها في كل عاصمة من عواصم الشرق الأوسط، وليس معنى أنني كنت أفكر في كل هذا وأنا في طريقي لمقابلة “سانتي”؛ أنني كنت أفّاقا أو وغدا، لأني كنت أفكر في مطامحي الخاصة، فهذا شيء وذلك شيء آخر مختلف، والإنسان يفعل الشيئين لأنه إنسان، فمنذ الوهلة الأولى تأكدت أنها هي، هي التي أردتها دون أن أعثر عليها.

يعلق الناقد د. أحمد كريم بلال على القصة بقوله: تسير الرواية في خطين متوازيين؛ قصة الحب التي نشأت بين الطبيب الشيوعي يحيى والفتاة اليونانية “سانتي”، وهذه القصة سببت له كثيرا من الأوجاع النفسية لأنها لم تكن تحبه. والخط الثاني طبيعة عمله في خلية شيوعية تصدِر مجلة أسبوعية، والحقيقة أنه كان في البداية منقادا لهذه الخلية، ولكنه بعد ذلك أصبح يرى أن فكرها تقليدي.

الشيوعية المستوردة.. زيّ ليس على مقاس مصر

على الرغم من أن الرواية في الأساس تتناول قصة حب بين بطل الرواية والفتاة اليونانية، فإنها تضمنت على طول الرواية نقدا للتجربة اليسارية المصرية، ممثَّلةً بالمجلة التي كان يعمل فيها، فقد تضمنت الرواية نقدا لاذعا لرئيسَيْ تحريرها المتعاقبين؛ البارودي وشوقي، كما انتقد آلية صنع القرار، وانقياد العاملين إليه، وتقديس كل ما يصدر عن البارودي الذي كان يرى الصواب في قراراته فقط.

تقول الرواية: كانت تبدر منه آراء لا يهضمها عقلي، وكنت إذا ناقشتُه يقنعني أو يفحمني، ومع هذا أبقى غير مقتنع بما يقول، كان يتكلم عن الفلاحين ويدافع عنهم، ولكن دون أن يعرفهم، وكان يتكلم عن مصر، ولكن غير مصر التي أعرفها، وكان يتكلم عن الثورة ولكني أحس من أعماقي أن الثورة التي يتكلم عنها غريبة تماماً، وكأنها ثورة أجنبية أو ثورة لا يمكن تحقيقها إلا في الكتب، وحتى الكتب التي كان يحملها، كان معظمها كتبا فرنسية. لأمرٍ ما كنت أحس أن البارودي مصري دما ولحما، أما عقله فعقل “خواجا”.

يقول القاص الأردني هاشم غرايبة عن شخوص الرواية: نموذج البارودي موجود في مجتمع اليسار، ولكن هذا لا ينفي أن هنالك نماذج مغايرة أخذت على عاتقها تغيير الواقع والتأثير في ثقافة المجتمع، بل إن بعضهم كان ينادي بالديمقراطية، على الرغم من أن الشيوعية نظام شمولي.

وتحدث القاص العماني سليمان المعمري عن رسائل القصة قائلا: لا ننكر أن الرواية تضمنت نقدا لاذعا لليسار المصري، من خلال شخصيات بدا أنها مستَلَبَةٌ للغرب، ولا تتقبل النقد، وأنهم سلطويون أكثر من السلطة نفسها. ووصفها أحمد كريم قائلا: أشبه ما تكون بالنقد الذاتي للشيوعية، فيها محاولة لتطوير التجربة الشيوعية، والخروج بها من تقليديتها، والقوالب المستوردة المفروضة على المجتمع المصري.

“لقد ظُلمت هذه القصة ظلما كبيرا”.. معارك الكاتب وخصومه

مثلت رواية “البيضاء” منذ صدورها نقطة صدام مع اليسار المصري لاحقت كاتبها حتى وفاته، فقد هاجمه كثير من النقاد بسبب توقيت إصدارها، خاصة أن الرواية كانت تصدر عن صحيفة الجمهورية المحسوبة على السلطة آنذاك، وحول السياق التاريخي لنشر الرواية يقول الناقد عبد القادر في دراسته:

كُتبت الرواية ونشرت في الصحيفة التي كانت تتولى التعبير عن التوجه الرسمي للنظام أكثر من غيرها، فهي إذن إعلان براءة منشورٌ على الناس، موجهٌ إلى من يعنيهم الأمر، يسعى بها صاحبها إلى تبرئة نفسه، بتقديمه بطلا يختلف عن جماعته، لأن تلك الجماعة تتلمس طريقها في الظلام الكامل.

يقول القاص سليمان المعمري عن الهجوم الذي تعرضت له الرواية: تضافرت أسباب متعددة لظلم هذه الرواية، منها الحقبة التي نشرت فيها الرواية، حين تمدد اليسار في العالم ومصر خصوصا، وهي الفترة نفسها التي شهد فيها اليسار اضطهادا من نظام عبد الناصر، وكذلك نشر الرواية في جريدة الجمهورية المحسوبة على النظام، ففسرت على أنها ممالأة للنظام، واعتذار من إدريس لعبد الناصر.

لكن كاتب الرواية يدافع عنها قائلا: لقد ظُلمت هذه القصة ظلما كبيرا، ومع الأسف فإن السبب في ظلمها هو أنها كانت فعلاً متقدمة على التفكير السائد بين المثقفين اليساريين آنذاك، فقد كتبت بين عاميّ 56-58، وإني أهدي هذه القصة للماركسيين في العالم العربي اليوم، فضربهم باستمرار من قوى الحكم الغاشم حال بيني وبين أن أهتم بنشرها وإذاعتها، مخافة أن تكون ضربة أخرى للماركسيين المصلوبين دوما. وأملي أن يستمتع القارئ بعمل أصبح الآن معتقاً كالنبيذ، فقد دفعت فيه أنا -الكاتب- ثمناً هو أجمل سنوات عمري، وإلى الآن لم أندم.

وعن أسباب الهجوم على الرواية تحدث أستاذ الأدب د. خيري دومة قائلا: ربما يكون إدريس نفسه هو الذي ظلم هذه الرواية، لأنه ركّز في الإعلان عنها على الجانب السياسي، واعتبرها شهادة على حياته الشخصية وحياة مصر في تلك الفترة، مما دفع القراء للتركيز على هذا الجانب، وعلى السياق السياسي (المرتبك)، فهو يهاجم اليسار ويهادن النظام، حين نشرها في جريدة محسوبة على النظام.

ويعارض القاص هاشم غرايبة وصفَ إدريس لقصته قائلا: لا أثق كثيرا بمقولته أنه كان يرى ما لا يرى اليساريون في وقته، والحقيقة أنه كان يحابي نظام الحكم القائم، ويتقى هجمته الغاشمة على اليسار المصري، حيث القتل والسجن والتعذيب بحق قادتهم.

علاقة الحب.. هوس بالبيضاء ومدائن الذوق الأوروبي

لم تسلم الرواية أيضا من النقد على المستوى الرومانسي، فقد رأى بعض النقاد علاقة الحب بين يحيى و”سانتي” علاقةً بين الشرق والغرب، وهي علاقة قائمة على حب من طرف واحد، ومبنية على إعجاب غير مشروط بالغرب الذي تمثله الفتاة، رغم رفض الغرب مرارا وتكرارا لهذه العلاقة، وكان تقديم هذه الصورة بمثابة إقرار من إدريس بإعجابه بالغرب، ومحاولة إعادة إنتاجه في المشرق.

الكاتب المصري يوسف إدريس في مكتبه الذي اشتغل فيه كطبيب متخصص في الطب النفسي

تقول الرواية: كنت بطبيعتي -ولا أدري لماذا- أعشق كل ما هو أوروبي، كنت إذا ذهبت إلى الإسماعيلية أو بورسعيد ورأيت الذوق الأوروبي يصبغ المدينتين، والنظافة والسكون والنظام، النظام الذي نكاد نكرهه نحن ينقلب بين أيديهم إلى فن، كنت إذا رأيت هذا كله أحس بشجن، برغبة خفية ملحة أن أصبح، ونصبح جميعاً مثل ذلك الكائن الأبيض المعقد ذي الوجه الأحمر.

أما في عملنا الثوري فقد كنت شيئاً آخر، كنت لا أطيق كل ما يمت إلى الأساليب الأوروبية بصلة، حتى الإشتراكية الأوروبية بنظامها وثورتها، كنت أحس بأنها غريبة عني، بقدر قرب النظرية مني، أحس بأنها أسلوب ثوري خواجاتي، وأننا بحاجة لطرق أخرى من صنعنا نحن.

وفي هذا يقول الناقد د. محمد عبد الباسط عيد: العلاقة بين يحيى و”سانتي” هي صلب الرواية، فالبيضاء هي “سانتي”، وهي الحلم، وعلى طول الرواية سنرى هذا الولع بكل ما هو غربي، وما افتتان الكاتب ببورسعيد والإسماعيلية إلا للمظاهر الغربية في هاتين المدينتين.

بينما لا يرى أستاذ الأدب د. خيري دومة تلك العلاقة من أصلها، إذ يقول: من وجهة نظري فالرواية لا تمثل علاقة الشرق بالغرب، فالغرب لم يحضر إلا من خلال شخصية “سانتي”، وهي كانت صامتة طول الرواية، كانت فقط خيالا يداعب الكاتب.

أعمى يقود المبصرين.. نقدٌ لاذع لقادة اليسار وأتباعه

لم يكتف يوسف إدريس بنقد اليسار في الرواية، بل فضّل أن يجعل في خاتمتها رسالة قوية تنتقد الطريقة التي تتبع فيها جموعُ اليساريين قياداتِهم، حتى لو كانت هذه القيادات معزولة عن الشارع ومستجداته، فبعد سجن البارودي وفقد بصره فإنه ظل الموجه لسياسة المجلة في وجه المستجدات الطارئة. وعلى المستوى الشخصي للبطل ظلت تجربة الحب اليائسة بمثابة أمل يلف خياله حتى بعد سجنه هو الآخر.

اقتباس من رواية ” البيضاء” التي تضمنت نقداً للتجربة اليسارية المصرية في الخمسينيات

يقول الروائي أحمد كريم: في آخر الرواية يقول يحيى: (لقد تركت البارودي أعمى يقود)، وهذا نقد لاذع للشيوعية في ثوبها الغربي غير الممصَّر بأنها أصيبت بالعمى، وغير قادرة على تطوير نفسها، ومع ذلك فهي تقود، فكأنما هو يَعجب من هذا الأعمى الذي يقود مبصرين.

تقول الرواية: فوجئت في الثانية من صباح ذات يوم بطرق خفيف متلصص على بابي، من أول طرقة أدركت أن ساعة السجن قد حانت، وفي السجن وافاني شوقي بعد أسابيع من الهرب، وعلمت أن “سانتي” غادرت البلاد، أما البارودي فقد ظل أعمى يقود.

في النهاية يبقى لنا أن نتساءل، هل كان عبثا أن يصور إدريس هذا القائد الذي يمارس باسم أحقية القيادة سيطرة مطلقة على الجماعة ومجلتها وأعضائها حتى أدق شؤونهم الخاصة، بأنه أعمى شبه متسول؟ لقد كانت “البيضاء” طلقة أطلقها إدريس في معركة ضارية يخوضها النظام ضد رفاقه، ولا أعني رفاق تنظيم بعينه، بل رفاق الفكر والتاريخ والقضية، وهو يتوهم بأنه حين يسقط هذا التاريخ فقد ألغاه، وهذا وهمه الخادع.