“معركة كورسك”.. يوم انكسرت يد الألمان العليا في الحرب العالمية الثانية

تاريخنا ليس سوى سلسلة من الأحداث المدهشة ويستطيع كل منا أن يؤثر في مجراه، من ولادة إمبراطورية عمرها ألف سنة إلى انهيار حضارة مزدهرة، ومن العبقرية الإبداعية لحفنة من الرواد إلى ثورة ثقافية عالمية، ومن أسوأ الرؤى الاستبدادية إلى أبشع الحروب الكبرى، ومن المقاومة البطولية لشعب كامل إلى التصميم الحديدي لأقلية معينة، فأبسط القرارات التي نتخذها قد تؤثر في مستقبل البشرية وبمعرفة الماضي نستشرف المستقبل.
ومن بين هذه الأحداث التي غيرت وجه التاريخ معركة “كورسك”.
ويعد فيلم “معركة كورسك” جزءا من سلسلة وثائقية بعنوان “سيناريوهات تاريخية” تعرضها الجزيرة الوثائقية، تروي التاريخ من خلال سلسلة من الأحداث المدهشة التي غيرت وجه العالم. وكل حلقة ترشدنا إلى إعادة النظر في حدث رئيسي شكّل مفترق طرق في تاريخنا، بحيث يتأرجح العالم في اتجاه أو آخر.
فمنذ هزيمة عدد من الجيوش السوفياتية في هذه المعركة تمكنت ألمانيا النازية من فرض هدنة على “ستالين”، وبالتالي أُقصي مليونا جندي من الجبهة الشرقية، وعززت حاميات الجدار الأطلسي لتفادي أي غزوات محتملة، ولأن الحلفاء غير قادرين على محاربة الجيش الألماني، فلم يعد بإمكانهم اليوم هزيمة النازيين، فأوروبا كلها وقعت بيد “أدولف هتلر”.
ولكن لماذا سجل يوم 6 من يوليو/تموز 1944 في تاريخ “الرايخ الثالث” (ألمانيا النازية) باعتباره اليوم الذي خسر فيه الحلفاء أوروبا؟
“عرين الذئب”.. انطلاقة أكبر غزو عسكري في التاريخ
قبل يوم 6 يوليو/تموز 1944 شكلت ثلاثةُ أحداث لحظاتٍ حاسمة في الحرب العالمية الثانية وسقوط “الرايخ الثالث”:
في 22 يونيو/حزيران عام 1941 بدأت عملية “بارباروسا”، وغزا “الرايخُ الثالث” الاتحادَ السوفياتي. في ربيع عام 1943 قرر الاتحاد السوفياتي تحصين جبهة “كورسك” بانتظار هجوم الجيش الألماني. في نهاية أبريل/نيسان عام 1945 وبعد قرابة 4 سنوات من النضال القاسي، حارب الجيشُ الأحمر آخرَ المدافعين عن “الرايخ الثالث” في برلين.
كانت البداية مع عملية “بارباروسا”، ففي 21 يونيو/حزيران عام 1941 بدأت العملية من شبكة واسعة من المخابئ تحمل اسم “عرين الذئب”، وكان “الفوهرر” (كلمة تعني القائد وترتبط بـ”هتلر”) يشرف شخصيا على سير الحرب التي شنها بهدف قهر الاتحاد السوفياتي.

ترتجف تربة الأراضي الروسية العظيمة تحت وطأة الفرق المدرعة، وفي أنحاء الريف الروسي يُسمع وقع نحو 4 ملايين جندي ألماني، ونحو 4 آلاف دبابة في أكبر غزو عسكري في التاريخ، وكان هدف هذه القوات تدمير الجيش الأحمر والاستيلاء على موسكو والقضاء على الاتحاد السوفياتي، على أن يقع كل ذلك قبل بداية الشتاء. وكانت تقوم خطة الهجوم على عنصرين رئيسيين، هما: دعم من القوات الجوية، واختراق الفرق المدرعة لخطوط العدو عند نقطتين.
تجد القوات الروسية نفسها معزولة وعالقة في فخ كبير، ثم يقضى عليها واحدة تلو الأخرى. وكل هذا يجري بقيادة ضباط أكفاء، وتأمين حماية جوية واتصالات لاسلكية، وتوفر خبرة قتالية قوية، فتسحق جيوش “الرايخ الثالث” الدفاعات الروسية، ويصاب الجيش الأحمر بالذهول، حتى أصبح ضحية عمليات تطهير كبرى، لأن قادته غير مهيئين بشكل جيد، ولأن استراتيجيته بالية، فالدبابات الروسية تدمر بواسطة المدافع الألمانية والجنود يبادون والطائرات تدمر على الأرض حتى قبل دخولها المعركة. ولا شيء قادر على مواجهة الآلة الألمانية.
رقاقات الثلج.. رصاصات قاتلة لحليف روسيا المخلص
سقطت مينسك خلال أسبوع واحد، ونجح الألمان في تحقيق أكبر عملية تطويق عسكري بالتاريخ، وتكبد الجيش السوفياتي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات في كييف، وحينها بدأ الاتحاد السوفياتي يجثو على ركبتيه بعد أن فقد 3 ملايين رجل في نهاية ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.
ولكن بفضل عمليات المقاومة البائسة للقوات الروسية بدأت الهجمات الألمانية بالتباطؤ، وأصبحت وطأتها أخف، وبعد اجتياز مسافة 650 كيلومترا في الأراضي الروسية غرقت الجيوش الألمانية في وحول أكتوبر/تشرين الأول، ومع وصول الدبابات الألمانية إلى موسكو بدأت تتساقط رقاقات الثلوج معلنة دخول الشتاء القارس، وهو حليف روسيا المخلص في الحرب.

وفي 31 يناير/كانون الثاني 1943 بستالينغراد، استسلم المارشال “فريدريش باولوس” قائد الجيش السادس للقوات الروسية، فبعد 5 أشهر من حرب المدن القاسية من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، أجبر القائد على مواجهة الحقائق، لأن رجاله يتساقطون من البرد والجوع ولم يعودوا يستطيعون السيطرة على المدينة التي تحمل اسم العدو اللدود “ستالين”.
فبالنسبة إلى “هتلر”، فإن الفشل في تحقيق هذا الهدف الرمزي المهم هو نكسة صعبة، أما بالنسبة إلى الجيش، فإن خسارة أكثر من 250 ألف رجل هي هزيمة ساحقة.
نهاية الشتاء.. عودة الدفء ووصول الدعم لصفوف الجيشين
قبل عام واحد كان الجيش الألماني على بعد 8 كيلومترات فقط من موسكو عندما تتصدى له الجيش الأحمر، ولكن الهجمات الروسية المضادة والشتاء والثلوج وموجات الحرارة المتدنية (30 درجة تحت الصفر) كانت كلها تشكل جبهة قاسية، وهذا ما ساهم بهزيمة القوات الألمانية.
ونتيجة لذلك تراجعت الجيوش الغازية، وبدأت تكافح من أجل حشد ما يكفي من القوات، لاستئناف الهجوم ضد الجيش الأحمر الذي يزداد قوة، إذ بدأ ينضم الضباط والجنود المجندون لضخ دماء جديدة في القوات السوفياتية، وبدأت كتائب الدبابات التي تصنع في مدينة أورال البعيدة تصل إلى موسكو، للدخول في المعركة في وجه القوات الألمانية.

وهكذا استعيد التوازن وأصبحت عملية “بارباروسا” ذكرى قديمة. فبعد معركة ستالينغراد، شن الجيش الأحمر عدة هجمات لكن الجيش الألماني –الذي تخلص من فصل الشتاء- لن يقهر مرة أخرى.
“سيتاديل”.. خطة جديدة لتمزيق الجيش الأحمر
يطور “هتلر” خطة جديدة تتمثل بشن هجوم قوي، يهدف لتمزيق الجيش الأحمر وضرب الخطوط الأمامية، فيشن الجيش الألماني عملية “سيتاديل” التي تدور أحداثها حول مدينة كورسك، وتحاصر فيها القواتُ الألمانية قواتٍ سوفياتية.
ومن أجل هذه المعركة حشد 90 فرقة و900 ألف رجل و2700 مركبة عسكرية، وبكل تعقل يؤخر “هتلر” موعد الهجوم عدة مرات، وينتظر وصول دبابتيه المنتظرتين “البوغر” و”النمر”، وهما وحشان حديثان ومدمران يمنحان جيوشه مزايا تكنولوجية متفوقة.

وقد حدد موعدا مبدئيا للهجوم هو 1 مايو/أيار عام 1943، ولكنه أجله إلى 5 يوليو/تموز من العام نفسه، وكان هذا الشهر كان بمثابة المتنفس للجيش الأحمر، فاستغله لتحصين جبهته ووضع خطة دفاع قوية.
مفاجأة السوفيات.. دبابات تحت الأرض تدمر فخر الصناعة الألمانية
عند الثانية صباحا بدأت القوات الألمانية تستعد بهدوء، ووفق الخطة المرسومة قسمت القوات إلى مجموعتين لتهجم في الوقت نفسه من الشمال والجنوب، ثم توحد قواها من أجل محاصرة القوات السوفياتية في مدينة كورسك خلال 4 أيام.
تنتهز القوات الألمانية عتمة الليل لشن هجوم مزدوج، لكن الجيش الروسي كان على علم مسبق بالهجوم وجاهزا للرد، فبدأت القوات السوفياتية بصد الهجوم وتدمير دبابات كانت تُعتبر فخر الصناعة الألمانية، فكل شبر من مسار العملية الألمانية مليئة بالألغام، وتحولت السهول بسرعة إلى فخ مميت، وكل ما تقدمت الدبابات تتعرض للتدمير، وفي المقابل كانت الدبابات الروسية مدفونة في الأرض وتطلق القنابل من مدافعها، وفي خنادقها تستطيع القوات الروسية الوصول إلى كافة الأسلحة المتاحة، مما أدى إلى انهيار عملية “سيتاديل”.

عشية اليوم السابع كانت الجيوش الألمانية قد تقدمت 30 كيلومترا فقط، وهو شيء بعيد عن هدفها المنشود ورغم الدعم الهائل للقوات الجوية، فإن قوات المشاة والمدرعات كانت تكافح لتحقيق تقدم. ورغم كل هذه الأحداث، فقد كان الجنرالات الألمان مقتنعين بأن القوات الروسية على وشك الاستسلام والخسائر الروسية هائلة، وهم متيقنون من أن كورسك ستصبح قريبا تحت سيطرتهم، ولكنهم لم يكونوا مدركين للأعداد الهائلة من الدبابات وجنود الاحتياط السوفيات الذين ينتظرون لمساندة الجيش الأحمر.
انقلاب الموازين.. قوات الألمان تتقهقر أمام جيوش الاحتياط
في 12 يوليو/تموز عام 1943 في بروشوروسكا، اندلعت مواجهة جيش الحرس الخامس السوفياتي فرقة “بانذر أس أف” الألمانية، المدى الفعال للنيران الروسية تبلغ 500 متر، أما دبابات “النمر” الألمانية فكانت تصطاد الأهداف من مسافة كيلومترين، ولهذا فإنه لا خيار أمام الدبابات السوفياتية سوى السير مباشرة نحو الدبابات الألمانية.
ورغم دقة دبابات الألمان في تدمير الأهداف والكلفة السوفياتية الهائلة في العتاد والعديد، فقد استخدم السوفيات ميزة يتمتعون بها، وهي أعداد جنودهم ودباباتهم الهائلة، لضرب الجيش الألماني، فتحولت المعركة إلى صدام بين حديد الدبابات الروسية وفولاذ الدبابات الألمانية، أي معركة جبابرة يدور رحاها على أرض الواقع.

ورغم أن الألمان كانوا سادة الميدان بدبابتهم وأسلحتهم، فإنهم افتقدوا للرجال والذخيرة، وفقدوا ميزة الهجوم، وأصبحوا في مواقع الدفاع. وفي اليوم التالي قرر “هتلر” وقف الهجوم، فالمدافعون عن كورسك يتشبثون بأرضهم، وتتزايد الهجمات المضادة من جيش الاحتياط السوفياتي على دبابات “البانزر”، وينتقل الجنرال الروسي “غيورغي جوكوف” قائد المعركة إلى المرحلة الثانية، وهي الهجوم.
فقوات الفيرماخت (الجيش الألماني) لم تعد قادرة على الرد، وفي غضون أيام قليلة خسر الألمان كل الأراضي التي استولوا عليها بشق الأنفس وعادت إلى أيدي الجيش السوفياتي، وخلال الأشهر التالية تراجع الألمان في الجبهة الشرقية، ففقدوا اليد العليا وانتقل زمام المبادرة إلى الجيش الأحمر الذي شن هجمات مضادة مكثفة.
سقوط برلين.. قوات الجيش الأحمر تقهر أسطورة “الرايخ الثالث”
في 30 أبريل/نيسان عام 1945 ببرلين، كان آخر الجنود الألمان القادرين على القتال يستعدون للمعركة النهائية في الوقت الذي علموا به أن “هتلر” مات، فهم لا يتوقعون أي شفقة من جنود الجيش الأحمر الذين يستطيعون مفاجأتهم بأي لحظة، والجيش القوي الذي اجتاح الاتحاد السوفياتي قبل 4 سنوات، لم يعد قادرا على إيقاف المدرعات الروسية.
ومنذ فشل عملية “سيتاديل” في مدينة كورسك لم يفعل الجيش الألماني أي شيء سوى التراجع، واستمر في القتال لعامين آخرين بثمن باهظ، فقط من أجل تأجيل أمر محتوم.

بينما كان الجيش الأحمر يزداد قوة يوما بعد يوم، مدعوما بصناعة عسكرية فعالة، وعدد يكاد لا ينضب من الرجال، ويستعيد كل الأراضي التي افتقدها عام 1941، ولا يوجد خط دفاع قادر على منع القوات السوفياتية من دخول الأراضي الألمانية ومحاصرة عاصمتها برلين.
وفي 9 مايو/أيار عام 1945، وبعد 5 سنوات من المعارك انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وأضحى الاتحاد السوفياتي قاهر “الرايخ الثالث”، بأكثر من 25 مليون شخص على مذبح الحرية. وكانت ألمانيا المهزومة تشهد احتلال الحلفاء لأراضيها وتقسيمها إلى قسمين غربي وشرقي، لتكون في قلب “الحرب الباردة”.