“قرطاج منافس روما”.. صعود وسقوط عنيف لأول جمهورية في التاريخ

منذ فجر التاريخ، ظلت الحروب والتنافس بين القوى تسيطر على المشهد العالمي، تتغير القوى ولا تتغير هذه المعادلة، ولعدة قرون قبل الميلاد، احتدم الصراع بين روما وقرطاج، فلمن تكون الغلبة؟

يتناول فيلمُ “قرطاج منافس روما” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “سيناريوهات تاريخية”- قصةَ التنافس الطويل بين القوتين الكبيرتين آنذاك في سلسلة من الأحداث المدهشة، غيّرت أحداثٌ وقرارات بسيطة فيها تاريخَ المنطقة، وأثّرت في مستقبل البشرية.

قبل الميلاد بثمانية قرون، نزلت الملكة الفينيقية أليسار (عليسة) السواحل الأفريقية، وأسست هناك مدينة قرطاج، وبعد ستة قرون غزا القائد القرطاجي حَنبَعل، برقة إيطاليا، ودمّر الفيالق الرومانية، وفي عام 146 قبل الميلاد هزمت الجيوش الرومانية قرطاج ونهبتها وأحرقتها ودمرتها.

هذه الأحداث الثلاث هي لحظات أساسية في العصر القرطاجي، لقد أدت إلى تدميرها على يد خصمها اللدود؛ الجمهورية الرومانية.

قرطاج.. إمبراطورية على ساحل المتوسط

قبل ثمانية قرون من الميلاد، هربت الملكة الفينيقية أليسار من مدينتها الأم “صور” على الساحل اللبناني، لتهبط أخيرا على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط في شمال أفريقيا، وقد طلبت من الزعيم المحلي أرضا لتستقر فيها هي وشعبها.

وبحسب الأسطورة، فإن الزعيم المحلي وعدها بالمساحة التي يمكن أن يحيط بها جلد الثور، لكن أليسار شرّحت جلد الثور إلى شرائح رقيقة، بحيث يمكنها الإحاطة بتلة قريبة لتبني عليها مدينتها الجديدة، وقد ساعدت الدبلوماسية والتفاوض، وهما ركيزتين أساسيتان في هذه المدينة الناشئة، في إنشاء واحدة من أكثر القوى إثارة للإعجاب في العصور القديمة؛ وهي قرطاج.

وُعدت الملكة الفينيقية “أليسار” بقطعة من الأرض بقدر ما يحيط به جلد ثور، فقامت بتقسيم جلده إلى أكبر عدد من الشرائح

كان الفينيقيون -بلا منازع- أعظم بحّارة العصور القديمة، فرغم أن البوصلة لم تُكتشف بعد، فقد عرفوا كيفية العثور على اتجاهاتهم، حتى في الليل. وفي نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد تحولوا إلى التجارة البحرية، وبنوا مراكز ومستعمرة تجارية على البحر المتوسط، وكانت كل مستعمرة جديدة مستقلة، ولكنها تشترك مع المستعمرات الأخرى في اللغة والمعتقدات عينها.

كانت قرطاج -التي تعني المدينة الجديدة- إحدى هذه المستعمرات، ومنذ البداية اعتمد تطورها على التجارة ثم الزراعة والإنتاج الحرفي. ولوقوعها على شبه جزيرة متصلة اتصالا وثيقا باليابسة -مثل عدد من المدن الفينيقية-، فإنها سرعان ما وسّعت نفوذها من إسبانيا إلى قبرص، حتى أصبحت إمبراطورية بحرية حقيقية واتحادا اقتصاديا.

قرطاج أو المدينة الجديدة.. بنتها الملكة الفينيقية “أليسار”لا يوجد على رأس المدينة ملك ولا طاغية، وإنما هو نظام حكم مزدوج على رأسه موظفان كبيران يُطلق عليهما اسم “شفط”، وتعني القاضي، وهما منتخبان لفترة يحددها مجلس الشيوخ، ويسيطر عليهما مجلس شعبي. ووفقا لأرسطو، فإن قرطاج -التي تأسست قبل الجمهورية الرومانية بثلاثة قرون- هي أول جمهورية في التاريخ.

روما.. قوة برية ذاقت طعم الغزو والانتصار

في قلب شبه الجزيرة الإيطالية تأسست روما، وكانت بدايتها عنيفة وتضمنت حروبا متكررة ضد جيرانها، ففي القرن الثالث قبل الميلاد، لم يكن هناك نقص في العداء في هذا الجزء من العالم، إذ كان عدد كبير من الشعوب والمدن والممالك في حركة دائمة، فقد ظل الإسكندر الأكبر يحوم فوق شرق البحر الأبيض المتوسط.

أما في غرب البحر، فيعيش يونانيون كثر في صقلية وإيطاليا وفي بلاد الغال، وقد أسسوا عدة مستعمرات مثل سيراكيوز، وهناك تتشكل التحالفات وتتفكك، والكل يحاول فرض سلطته، حرب بعد حرب، وتضحية تلو أخرى، وسرعان ما سيطرت الفيالق الرومانية على شبه الجزيرة الإيطالية كلها.

“روما” القديمة.. منافسة قرطاج وعدوتها اللدودة وهادمة مستقبلها

في عام 264 قبل الميلاد كانت روما مجرد قوة إقليمية، لكنها صاغت في نفسها روحا قتالية لا تفتر، فقد كانت فيالقها من الجنود المواطنين مخلصة ومستعدة للموت من أجل بلادها، وخلال قرون عديدة تطورت “قرطاج” و”روما” بشكل مستقل، فكانت قرطاج اتحادا بحريا متجذرا في أفريقيا، بينما كانت روما قوة برية أساسا تركز على الأراضي، وقد عقدت المدينتان عدة اتفاقيات تجارية، لكن روما ذاقت طعم الغزو والسلطة.

ومع احتلال إيطاليا ووضعها تحت سيطرتها، يمكن أن تأتي التهديدات الجديدة من بلاد الغال شمالا، أو صقلية جنوبا فقط، لكن صقلية -الجزيرة الاستراتيجية الواقعة عند مفترق خطوط بحرية- تقع تحت السيطرة القرطاجية بالكامل تقريبا، والقوتان تتواجهان الآن، ولا يفصل بينهما إلا مضيق بعرض بضعة كيلومترات فقط.

هزيمة قرطاج.. أول انتصار بحري للأسطول الروماني

البحر الأبيض المتوسط مُحاط بالأراضي ومزدان بالجزر، ومن يريد السيطرة عليه يجب أن يمتلك أسطولا بحريا عظيما، وكان الرومان يرتاحون في البر أكثر من البحر، وقد طوّروا أساليبهم الخاصة لضرب سفن العدو وصعودها، متبوعا بقتال يدوي تتفوق فيه الفيالق، ووجدوا طريقة لتحويل المعركة البحرية إلى قتال بري، وكانت تلك طريقة لاستعادة توازن القوى.

ففي عام 260 قبل الميلاد هزم الأسطول الروماني أسطول قرطاج، وشكلت تلك صدمة؛ فقد سُحق واحد من أعظم الجيوش البحرية في البحر المتوسط كله على أرضه، وكان ذلك أول انتصار بحري كبير في التاريخ العسكري الروماني، ولكنه ليس الأخير.

في عام 260 قبل الميلاد، هزم الأسطول الروماني، أسطول “قرطاج” كأول انتصار بحري كبير في التاريخ العسكري الروماني

ومنذ عام 264 قبل الميلاد، بدأت الفيالق تنزل في صقلية، ومنذ ذلك الحين بدأ الحصار تلو الآخر، وسجل كل معسكر نقاطا خاصة، مدركا أن الصراع سيحسم بالسيطرة على البحر، وقد صوّت مجلس الشيوخ الروماني لبناء أسطول كبير، وجنّد بحارة يونانيين من جنوب إيطاليا، كما استعانت قرطاج بالمرتزقة، أما في صقلية فقد نجحت قوات الجنرال اللامع “حملقار برقا” بتدمير الفيالق الرومانية.

تكاليف الحرب.. معارك تأكل الجند وهزائم تبتلع الأموال

بعد أن احتدم الصراع، سقط آلاف الضحايا، فالقوتان العظميتان تُخضعان كامل قوتهما في معركة ضخمة، وفي المطاف انتصر الأسطول الروماني وأنزل قواته في أفريقيا، وصار الطريق إلى قرطاج مفتوحا.

حينها شنت قرطاج هجوما مضادا بمئتي سفينة ومئة فيل حربي في صقلية. وفي تراباني يُلحق الأسطول القرطاجي هزيمة نكراء بالسفن الرومانية، وتسيطر قرطاج على البحر، ولكنها سرعان ما تواجه انتفاضة القبائل النوميدية، لذا أصبحت مُجبرة على تكريس إمكاناتها لهذه الثورة، فلا تستطيع المدينة الاستفادة القصوى من انتصاراتها.

وفي روما ابتلعت الهزائمُ الأخيرة الأموالَ، مما سمح لمناهضي الحرب بإيقاف نفقات عسكرية جديدة، وفي الوقت عينه، كانت قرطاج تحاول الحصول على قرض من مصر، فالتجارة -التي هي القوة الدافعة في الاقتصاد القرطاجي- مُعطّلة، والحرب مكلفة، وبسبب جمود الوضع، يلجأ الرومان إلى قرض خاص، فيقوم المواطنون الأثرياء بتجهيز أسطول بحري على نفقتهم الخاصة. يجب أن تنتهي الحرب.

في عام 241 قبل الميلاد، كانت المواجهة ضخمة قبالة الجزر العقَادِية، وكان النصر الروماني ساحقا، لذلك بالنسبة لمجلس الشيوخ القرطاجي -الذي تهيمن عليه العائلات التجارية الكبرى- فإن هذه الهزيمة هي القشة الأخيرة. بالنسبة لهم، فبدلا من الخيار العسكري، حان الوقت الآن للتفاوض.

مواجهة المرتزقة والمواطنين المقاتلين.. تكوين الجيوش

كانت الحرب مكلفة وخطيرة، وقد اختار مجلس الشيوخ القرطاجي الخروج من هذا الصراع باستخدام المال والدبلوماسية، واتخذت المدينة خيارا عمليا بتجنيد المرتزقة لإنقاذ مواردها البشرية المحدودة، وهكذا لم تكن الجيوش القرطاجية دائمة، فقد افتقرت إلى التماسك.

شكّل الليبيون والنوميديون والأيبريون والسلتيون أساسا المشاة والخيالة، واعتمد الجنرالات القرطاجيون أيضا على دبابات ذلك العصر، وهي فيلة الحرب التي دُرّبت على مهاجمة صفوف العدو، وكسر صفوفه الأولى، ونشر الذعر بدوسها على الجنود.

امتلكت “روما” جيشا بريا يتكون من ثلاث جبهات “الهستاتي” و”البرنسبس” و”الترياري”

وخلافا لقرطاج، فقد امتلكت روما جيشا بريا يتكون في الغالب من المواطنين، وقد تألف كل فيلق من 30 لواء قُسّمت إلى كتائب مؤلفة من 100 جندي، والجيش مرن جدا وقابل للمناورة، وهو يتألف من ثلاثة خطوط؛ على الجبهة، يتولى “الهستاتي” الخط الأول، يليه “البرنسبس” في الخط الثاني، ثم “الترياري” وهم المحاربون القدامى الذين يُشكّلون الدرع الأخير.

لقد كان جيشا حقيقيا من المواطنين يمكن فيه استدعاء كل روماني يقل عمره عن 46 عاما لخدمة الجمهورية، وهما مفهومان مختلفان تماما للجيش.

“حنبعل”.. جنرال شاب يطعن روما من الخلف

في أكتوبر/تشرين الأول عام 218 قبل الميلاد، عبر “حَنبَعل برقا” ابن “حملقار برقا” بطل الحرب جبالَ الألب شمال إيطاليا، ليقاتل الرومان، وقد حان الآن وقت انتقام هذا الجنرال القرطاجي “حَنبَعل” وجيشه وفيلته، فإيطاليا موطن الجمهورية الرومانية أمامهم مباشرة.

ففي نهاية الحرب السابقة، اضُطرت قرطاج إلى التخلي عن صقلية وجزر أخرى عدة، بالإضافة إلى دفع تعويض كبير، وتبع ذلك 23 عاما من السلام المسلح، سيطرت خلالها روما على سردينيا، وفي غضون ذلك عوضت قرطاج خسائرها الإقليمية باحتلال جزء كبير من إسبانيا.

شهدت السلطة النخبوية للتجار القرطاجيين ظهور عائلة مهيمنة جديدة؛ هي عائلة “برقة” التي ينتمي إليها “حَنبَعل”. وشهد الشاب المتفاني في حب مدينته اللحظات المظلمة لتمرد المرتزقة الفظيع، وبعد أن صار بالغا وجنرالا رأى أن الوقت قد حان لجعل روما تدفع الثمن.

في عام 218 قبل الميلاد طوّق “حَنبَعل” الفيالق الرومانية وقتلهم بالآلاف على الشواطئ الضبابية لبحيرة “ترازيمين”

مدركا ضعف أسطوله، قرر “حَنبَعل” مباغتة الرومان والسفر برا لبلوغ إيطاليا عبر الحاجز الطبيعي لجبال الألب، وهدفه تحريض حلفاء روما وهزيمة الفيالق الرومانية، وعندما علم أعضاء مجلس الشيوخ الروماني بإنجاز “حَنبَعل” أصيبوا بالذعر، وأرسلوا جيشا على الفور لمواجهته، ثم جيشا آخر، وهكذا، وقد هُزمت هذه الجيوش كلها.

مخزن الحبوب.. فخ المعركة الأخيرة يدمر جيوش روما

أظهر “حنبعل” عبقرية استراتيجية حقيقية، حين طوّق الفيالق الرومانية في تايساينوس، وباغتهم في تريبيا، وقتلهم بالآلاف على الشواطئ الضبابية لبحيرة ترازيمين. وتخلى حلفاء كثر لروما عن الجمهورية، لكن معظمهم ظلوا أوفياء لروما.

ورغم انتصاراته العسكرية المدوية، لم ينجح “حَنبَعل” في تحقيق انتفاضة في إيطاليا، فقد كان يعول على نصر عسكري حاسم، لكن الرومان يرفضون الآن المواجهة المباشرة، إنهم يدركون أن هذا القرطاجي لن يُقهر في الوقت الحالي.

ولإجبارهم على القتال، استولى “حَنبَعل” على منطقة كناي التي كانت مخزن حبوب الجيش الروماني، ولم يعد أمام روما إلا القتال بجيشها الأخير. وفي الثاني من أغسطس/آب عام 216 قبل الميلاد، واجه مرتزقة “حَنبَعل” -البالغ عددهم 50 ألفا- الفيالق الرومانية البالغ عددها 80 ألفا، والتي تندفع بتهور نحو فخ الجنرال القرطاجي.

وجدت الفيالق الرومانية نفسها غير قادرة على المناورة، حين اكتشفت أنها مُحاصَرة بهجوم من جميع الجهات، فقتلت في الحصار، وفي مساء المعركة، كان هناك أكثر من 45 ألف قتيل، ليصبح “حَنبَعل” على أبواب روما.

حصار الجنوب.. جيش منهك تتحول انتصاراته إلى هزائم

وصلنا إلى نقطة التحول؛ وهي لحظة حاسمة ومفترق طرق في تاريخنا يمكن لعالمنا أن يتحول فيها من مسار إلى آخر. هزم “حَنبَعل” الجيوش الرومانية، وكان عليه فقط التقدم إلى “روما”، والاستيلاء على المدينة، والقضاء على الطموح الروماني في مهده.

لو أنه فعل ذلك، لكنا اليوم نعيش في عالم لم يعرف أبدا الإمبراطورية الرومانية، ولحدثت نتائج كثيرة وخطيرة كانت ستغير وجه العالم، فمن هذه الإمبراطورية ورث الغرب القانون الروماني، وحق الملكية، والفن، والثقافة اللاتينية واليونانية، وكذلك الدين المسيحي الذي كان مؤثرا في جميع أنحاء أوروبا.

في عام 202 قبل الميلاد هاجمت الفيلة القرطاجية فيالق الجنرال “سيبيو” لكنه طوقها وقضى عليها وهزم جيش قرطاج

ولربما تكون قرطاج قد مارست نفوذها على بلاد الغال، ولكان الأوروبيون في الوقت الحاضر متأثرين بالثقافة القرطاجية، وقد يتحدثون لغة سامية وثيقة الصلة باللغة العربية. لكن “حَنبَعل” عند وصوله إلى أبواب روما بدا مترددا، فقد كانت قواته منهكة، وتفتقر إلى معدات الحصار، لذا فقد تخلى عن حصار روما، واحتل جنوب إيطاليا بدلا من ذلك، لقد رأى أن استسلام الرومان حتمي، ومع ذلك فإن الشعب الروماني سيختار عكس ذلك.

وفي عام 202 قبل الميلاد، استُدعي “حَنبَعل” من إيطاليا إلى سهل زامة شمال أفريقيا، حيث القوات الرومانية للجنرال “سيبيو” كانت هبطت في أفريقيا، وتحالفت مع الأمير النوميدي “ماسينيسا”، وهما يهددان بالاستيلاء على قرطاج.

إنها لمفارقة غريبة، فبعد تهديده للعاصمة الرومانية قبل سنوات، ها هي ذي استراتيجيته في عزلها تفشل تماما، فقد ظلت إيطاليا وفيّة لروما، واضطر “حَنبَعل” للعودة لمساعدة قرطاج، فهاجمت الفيلة القرطاجية فيالق الجنرال “سيبيو”، لكنه كان قد توقع الهجوم، وأمر قواته بالسماح بمرور العمالقة، لتطويقها بشكل أفضل قبل ذبحها، ليحقق الرومان بسرعة أفضلية على “حَنبَعل” الذي هُزم وخسر الحرب.

إحراق قرطاج واستعباد أهلها.. نهاية قرون من المجد

اضُطرت المدينة لتسليم أسطولها بالكامل وفيَلة الحرب وإسبانيا، وأصبحت قرطاج مجرد ظل لما كانت عليه في السابق، ولكن حتى وإن سقطت المدينة، فهي لا تزال حية، صحيح أنها محرومة من الأدوار السياسية والعسكرية، لكنها عززت تجارتها، وتحسّن وضعها الاقتصادي في غضون سنوات قليلة، لتعود غنية مرة أخرى بعد 10 سنوات فقط، وقد عرضت على روما سداد ديونها الحربية مقدما.

وفي مجلس الشيوخ الذي يتوجس أعضاؤه من شبح الانتعاش العسكري لقرطاج مرة أخرى، ينهي “كاتون” -أحد الخطباء الخبثاء- كل خطبة من خطاباته بجملة مفادها: “يجب تدمير قرطاج”. لم يستغرق الرومان وقتا طويلا ليجدوا حجة.

بعد حصار دام ثلاث سنوات، دارت آخر المعارك بين روما وقرطاج وانتهت بسقوط الأخيرة سنة 146 قبل الميلاد

وباضطرارها للدفاع عن نفسها ضد عدوان المملكة النوميدية، حاولت قرطاج التسلح، إذ لا يتطلب الأمر أكثر من ذلك.

وفي عام 146 قبل الميلاد، وبعد حصار طويل دام ثلاث سنوات، كانت المعركة الأخيرة في هذه الحرب القديمة، فدخلت القوات الرومانية المدينة المحترقة، ودار القتال بين البيوت بلا رحمة، وامتلأت الشوارع بالجثث، وكان القرطاجيون المحاصرون يعرفون أنهم يقاتلون من أجل البقاء، لكن بلا جدوى.

ففي ستة أيام وست ليال غرقت المدينة في النيران واستسلمت للنهب، وأُخضع الناجون للعبودية، وأُعلنت الأرض “ساسير”، أي ملعونة، وُمنع منعا باتا على أي شخص الاستقرار هناك.

لقد دُمرت قرطاج في العام عينه بشكل كلي وحقيقي، وخضعت اليونان للفيالق الرومانية إلى الأبد، وسرعان ما امتد نفوذ روما على البحر الأبيض المتوسط كله، ومع ذلك فإن هذا التوسع والتدفق للثروة سيغيران تماما استقرار دولة المدينة الأصلية؛ فسرعان ما اندلعت أزمات خطيرة، لتليها حروب أهلية مروعة ستؤدي إلى نهاية الجمهورية الرومانية، ثم إلى ظهور الإمبراطورية.. ولكن تلك قصة أخرى.

خارج التاريخ.. مدينة عظمى تصبح أثرا بعد عين

في العصور القديمة، كان من المعتاد نهب مدن العدو بعد الاستيلاء عليها، وكان الاستيلاء على قرطاج مأساة ومشهدا مروعا، فقد استُعبد سكانها أو أُبيدوا، وقد أُحرق أرشيفها ودمرت مكتبتها العظيمة، وبعد عمر امتد 650 عاما، لم يُعرف أي شيء تقريبا عن هذه المدينة، تبدو كأنها اختفت من التاريخ، وستعيش فقط من خلال لغتها وثقافتها التي بقيت في مستعمراتها السابقة.

وتعرف اليوم هذه الحروب الثلاث المتتالية التي أدت إلى تدميرها بـ”الحروب البونيقية”، وهي كلمة لاتينية وليست قرطاجية، تكشف أن المنتصرين هم من يصنعون التاريخ.

لوحة فنية تجسد حصار الرومان لقرطاج قبل أن يدخلوها ويحرقوها ويقتلوا أهلها ويعلنوها أرضا ملعونة

روما هي التي نجت من قرن من الحروب، بفضل تركيبتها السكانية القوية التي أظهرت مرونة لا تنكسر، وقدرة هائلة على التعامل مع الضربات المروعة دون الاستسلام أبدا، ورغم تدمير جيوشها واستعداد “حَنبَعل” لتوجيه ضربة قاضية، فقد رفضت روما الاستسلام واستعدت للانتقام، وخلال تاريخها الطويل، يبدو أن روما ظلت ترفض التفاوض من دون ضمان النصر أولا.

وقد يكمن سر النجاح الروماني في هذه الحقيقة.