“مترنيخ”.. وزير النمسا القوي يسقط “نابليون” في ميادين الدبلوماسية

في 26 يونيو/حزيران 1813، اجتمع رجلان قويان في مدينة درسدن، لمناقشة مستقبل الحرب والسلام في أوروبا؛ أحدهما الجنرال والإمبراطور “نابليون بونابرت” الذي كان يحكم أوروبا، والآخر وزير الخارجية النمساوي والدبلوماسي المحنك “كليمنس فون مترنيخ” المعروف باسم “رجل النمسا القوي” وأقرب المقربين للإمبراطور.

وشكلت هذه المواجهة المصيرية بين اثنين من أقوى رجالات تلك الفترة الزمنية بداية النهاية لـ”نابليون”، فبرفضه اقتراح “مترنيخ” أضاع فرصة لبناء أسس أوروبا المستقبلية.

ويقترب الفيلم الوثائقي الذي بثته الجزيرة الوثائقية “مترنيخ.. الرجل الذي أسقط نابليون” من تلك الفترة الذي بدأ يترنح فيها حكم “نابليون” لأوروبا، قبل أن يتعرض لسلسة من الهزائم والانتكاسات قبل أن ينهار حكمه ويسقط عرشه بالكامل.

تجسدت أولى علامات الانهيار في قلق “نابليون” وتعرض قيادته للأخطار وعلامات الإنذار في كل مكان، ورغم أنه وحلفاءه يسيطرون على أوروبا، فقد تعرض لهزيمة نكراء في روسيا، إذ كانت درجات الحرارة المتجمدة وضربات قوات جيش القيصر كفيلة بهلاك الجيش العظيم.

وفي جنوبي أوروبا طردت إسبانيا قوات “نابليون” خارج حدودها، والآن أصبحت روسيا وبروسيا حليفتين لشن حرب على “نابليون”، ويساعد عدوه اللدود الملك الإنجليزي في تمويل هذا التحالف.

ورغم الكارثة في روسيا، لا يزال نابليون يرى أن جيشه هو المسيطر، ولهذا شكل جيشا جديدا من الشباب، وشن عمليات هجوم مضادة، وحقق الانتصارات، وانتقل إلى دريسدن لمهاجمة الروس مرة أخرى من هناك، لكنه سيحتاج لدعم النمسا لتحقيق هذا الغرض وبصورة عاجلة.

يقدم “مترنيخ” إلى “نابليون” إنذارا أخيرا؛ فإما أن يقبل خطة للسلام، أو ينضم إلى الأعداء. وقد ناقش الرجلان الوضع في اجتماع دام أكثر من 9 ساعات، حتى تحول الاجتماع إلى مبارزة بين “نابليون” الجندي وابن الثورة وبين “مترنيخ” الدبلوماسي والنبيل العريق.

ووُصف هذا الاجتماع بأنه كان حاسما لمستقبل القارة ومصيرها الذي تحدد بنهاية الاجتماع، ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذا الاجتماع الحاسم، نعود إلى بداية بروز “نابليون” وسيطرته على أوروبا وتنصيبه ملكا عليها.

“أنا خليفة شارلمان العظيم”.. طموح السيطرة على ألمانيا

استغرق الأمر 9 سنوات حتى تمكن نابليون من السيطرة على أوروبا كلها، وكانت الإمبراطورية الفرنسية مؤلفة من 134 وزارة حكومية من هامبورغ إلى برشلونة ومن روما إلى أمستردام، وكانت هناك رقعة مهمة بشكل خاص وهي ألمانيا التي كانت معروفة بالاتحاد الألماني، فقد فضلها “نابليون” على القوتين البارزتين والمتعارضتين روسيا والنمسا، وأنشأ هذا الكيان الجديد فور وصوله إلى السلطة.

وفي ديسمبر/كانون الأول 1804، توج “نابليون” في نوتردام، واستغل هذه المناسبة لإعلان خططه بشأن أوروبا وخصوصا ألمانيا. وقال وقتها: أنا لست خليفة لويس السادس عشر، بل خليفة شارلمان العظيم.

تتويج نابليون في كنيسة نوتردام في الثاني من ديسمبر/كانون أول 1804

كان نابليون يرى نفسه وريثا لهذا الإمبراطور العظيم الذي حكم ألمانيا وفرنسا عام 800، ولهذا أصر على أن يكون تتويجه في “آخن” مدينة التتويج القديمة كخطوة طموحة. وعن هذا التتويج يقول “تييري لينتز” مدير “مؤسسة نابليون”: كان لذهاب “نابليون” إلى هذه المدينة هدفان:

الأول: مساواة نفسه بشارلمان عند تأسيسه الإمبراطورية الفرنسية. الثاني: إفهام ألمانيا أن الإمبراطور الفرنسي الجديد يبسط سلطته على أراضيها.

ويقول المؤرخ “ميشيل كيروتيرت”: المغزى من تتويج “نابليون” في آخن واضح جدا، فقد كان يريد إحياء فكرة الإمبراطورية في أوروبا كما أنشأها شارلمان، ولهذا أعلن نفسه خليفة لإمبراطور العالم الغربي.

“الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية”

عندما وصل نابليون إلى السلطة، كانت “الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية” تحكم أوروبا، وبحلول عام 1800 أصبحت مجرد منظمة غير موحدة شملت وسط أوروبا التي كانت منطقة ثقافية ناطقة باللغة الألمانية، فألمانيا التي نعرفها اليوم لم تكن موجودة حينئذ.

كانت هذه الإمبراطورية تضم مزيجا من الأقاليم المختلفة، ويشمل المدن الحرة مثل فرانكفورت وهامبورغ، ولكنه يضم أيضا قوى إقليمية مثل بافاريا وساكسونيا وخصمين قويين هما روسيا والنمسا. وكانت هذه المنطقة تخضع في الغالب لحكم “آل هابسبرغ” من النمسا لما يقارب 600 عام، والواضح أنه كان هذا التأثير الأكبر على المنطقة الثقافية الناطقة بالألمانية.

كان نابليون يرى نفسه وريثا للإمبراطور العظيم شارلمان الذي حكم ألمانيا وفرنسا عام 800
كان نابليون يرى نفسه وريثا للإمبراطور العظيم شارلمان الذي حكم ألمانيا وفرنسا عام 800

وقد ضمت هذه المنطقةُ الواقعة تحت حكم “آل هابسبرغ”، المناطقَ الواقعة على الضفة اليسرى من نهر الراين إلى أراضيها. ولا شك في أن “نابليون” الذي لم يكن قد أصبح إمبراطورا بعد هو متورط في هذا الأمر.

ألمانيا الفرنسية.. ضربة قاضية تزعج إمبراطور النمسا

يقول “جاك أوليفييه بودون” رئيس معهد “باريس نابليون”: كان “نابليون استراتيجيا، ويمتلك رؤية عالمية فيما يتعلق بالتوازن الأوروبي، وسرعان ما أدرك أنه إذا لم يتقدم إلى ألمانيا، فسوف تستغل بروسيا أو النمسا الفرصة للاستيلاء على السلطة في ألمانيا، ففي الأساس كان هدف “نابليون” إنشاء ألمانيا فرنسية أو ذات نفوذ فرنسي.

وفي عام 1806، كان “نابليون” يسيطر على جنوبي ألمانيا كله، وتحولت “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” إلى ظل ما كانت عليه في السابق بعد أن فقدت أراضيها المهمة، وبعد عدة أشهر وجه “نابليون” الضربة القاضية للإمبراطورية.

خضعت "الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية" لحكم "آل هابسبرغ" من النمسا لما يقارب 600 عام
خضعت “الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية” لحكم “آل هابسبرغ” من النمسا لما يقارب 600 عام

ففي 12 يوليو/تموز عام 1806 وقعت 16 دويلة ألمانية على معاهدة تتماشى مع خط الحاكم العسكري لأوروبا، مشكّلة بذلك “اتحاد الراين.. ألمانيا الثالثة”. وبحلول عام 1808، انضم ما يقارب 20 دويلة أخرى إلى الاتحاد في مقدمتها ساكسونيا، وبات الاتحاد الآن أكثر من مجرد منطقة أمنية، بل أصبح قلب أوروبا تحت سيطرة “نابليون”.

وبحلول يوليو/تموز 1813، لم يكن “نابليون” يحكم فرنسا فحسب، بل سيطر على أجزاء كبيرة من ألمانيا، مما أثار انزعاج الإمبراطور “فرانز” و”فون مترنيخ”، وكان هذا الانزعاج واضحا في اجتماع 26 يونيو/حزيران 1813 بين “نابليون” و”مترنيخ”، فقد كشف أنه وسيط وليس طرفا، وأن سبب قدومه هو مناقشة السلام، ناصحا نابليون أن لا يفوت هذه الفرصة.

كما قال إنه يدعوه إلى مؤتمر مع النمسا، وأن “تكون أوروبا قادرة على جني مكاسب السلام، فنحن بحاجة إلى توزيع أكثر عدلا للسلطة، وإلى وضع جغرافي وسياسي راهن تضمنه القوى الأوروبية كلها”.

“أنت هنا لابتزازي”.. اجتماع الساعات التسع

كان رد “نابليون” على “مترنيخ” حاسما بأنه لن يعقد سلاما وهو في خضم المعركة، وقال: لو كان لدي 30 ألف جندي إضافي لسحقت بروسيا وأعدت الروس إلى حقولهم، ولحل السلام عندئذ منذ فترة طويلة، ولكن بدلا من ذلك، عليّ أن أحتمل هذه الهدنة غير المجدية والخطيرة، لإعادة تجميع قواتنا وشن الهجوم الأخير، وهذه الفرصة لا يجب أن نضيعها هباء يا “مترنيخ”، وعندما ننتصر نناقش السلام.

وقد تفاجأ “نابليون” من وصف “مترنيخ” نفسه بأنه وسيط، وسأله: كيف يمكن أن تكون وسيطا؟ ألم نوقع معاهدة قبل عام؟ ألسنا حلفاء؟ مع أي طرف أنت؟ إنك غير مبال بالسلام. الحقيقة يا “مترنيخ” أنك تظن أن موقفي قد ضعف بسبب سوء حظي في روسيا، والآن أنت تأمل أن تستفيد من الوضع، أنت هنا لابتزازي، إنك تسعى لتحقيق ربح من دعمك يا “مترنيخ”، هذا هو سبب مجيئك أنت دون سواك.

نابليون يقود معاركه ضد أعداء الإمبراطورية الفرنسية

ولم تكن كلمة وسيط أو مؤتمر السلام هما ما استفز “نابليون” فقط، بل إن “مترنيخ” طلب منه الانسحاب من الأراضي التي احتلها والعودة إلى حدود “مملكته الطبيعية”، مؤكدا أن “نابليون العظيم سيكون أعظم إذا ساهم في إحلال السلام”.

وبالغ “نابليون” في رده، واتهم “مترنيخ” قائلا: أنت تريد القضاء على الثورة الفرنسية، هل نسيت كيف كانت أوروبا قبل أن أصبح مدافعا عنها؟ هل من المفترض أن أسحب قواتي المنتصرة خلف الراين والألب والبرانس؟ أهذه هي روح الاعتدال التي تجول في فكرك؟ وتحدثني عن ميزان القوى، قل لي إذن عن ماذا سيتنازل الروس والإنجليز؟ أم أنني الوحيد الذي يتعرض للسرقة؟ في الواقع يا “مترنيخ” ليس لديك سوى هدف واحد، ألا وهو تدمير الإمبراطورية الفرنسية. هل ترى أن تهديدات النمسا كفيلة بتحقيق ذلك؟

إنك تدعو الأمة كلها لحمل السلاح”.. تهديدات الحرب

أخذ الحوار منحى تصاعديا وتهديدا، عندما قال “مترنيخ”: إن إمبراطوري يعرض عليك الوساطة لا الحياد، وقد وافقت روسيا وبروسيا عليها، وإذا رفضت سيتعين على مولاي اتخاذ قرار، مع الأسف الوضع يحتم علينا إما أن نكون معك أو ضدك، ففي الأوقات العادية كانت الجيوش تتألف من نسبة صغيرة من السكان، أما اليوم فإنك تدعو الأمة كلها لحمل السلاح، إذن تريد أن ترمي بجيل آخر إلى التهلكة.

عام 1806 وزع نابليون نحو 35 ألف عنصر جمارك على حدود الإمبراطورية لوقف استيراد البضائع الإنجليزية

هنا انتفض “نابليون” وقال له: إذا كنت تريد الحياد فليكن، لكن على إمبراطورك أن يعدني بأنه لن يشن حربا ضدي حتى نهاية العملية. ولكن كُشفت حقيقتك، اتخذت قرارك منذ فترة طويلة، كم حليفا أصبح لديك 4 أو 5؟ فكلما زاد العدد أفضل لي، أنا أقبل كل تحدّ، فنحن نعيش أوقاتا استثنائية، وأنت لست عسكريا ولا تفقه أي شيء عن روح المحارب، أما أنا فقد نشأت في ساحة المعركة، وعند الضرورة لن يأبه رجل مثلي بمصير مليون جندي.

ويبدو أن “نابليون” لم ينته فقط بسبب هزائمه العسكرية، بل أيضا لأنه كان متمسكا برأيه ولا يقبل أي نقاش، ويرى أن كل ما يفكر به هو أمر جيد له ولشعبه.

إضعاف بريطانيا.. حصار يخنق حركة التجارة الأوروبية

اعتبارا من عام 1806 وزع نحو 35 ألف عنصر جمارك على حدود الإمبراطورية لوقف استيراد البضائع الإنجليزية إلى أوروبا وهكذا كانت بداية الحصار القاري.

وقد فرض الحصار بداية من أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وكان بمثابة أداة سياسية وعسكرية تهدف إلى إضعاف بريطانيا، فقد أدرك “نابليون” أنه لا يستطيع بالإمكانيات التي لديه هزيمة بريطانيا في البحر، ولا يملك أسطولا، ولهذا فرض حصارا بريا على بريطانيا، وحظر على الموانئ التعامل مع البريطانيين، مما أدخل الاقتصاد الأوروبي في أزمة ونفق، خاصة وأن هنالك مناطق في ألمانيا يعتمد دخلها على التجارة حصرا، وهذا الأمر قلب الشعب في ألمانيا على “نابليون”.

إرسال أبناء الألمان إلى الحرب وتر العلاقات بين نابليون وسكان الراين
إرسال أبناء الألمان إلى الحرب وتر العلاقات بين نابليون وسكان الراين

كما أصبح التهريب شائعا جدا في الجزء الذي يسيطر عليه “نابليون” في ألمانيا، وتعلم الناسُ بسرعة التحايلَ على حصار الإمبراطور الفرنسي.

ورغم أن العزلة تخلق المشكلات، فإنها قد شجعت المصنعين المحليين، إذ بُنيت معامل جديدة ليست لصناعة النسيج وحسب، بل للصناعات الكيميائية الزراعية التي بدأت بالازدهار. ولكن هذه الجوانب الإيجابية القليلة لا يمكنها التعويض عن الشعور العام في أوروبا بظلم كبير، ففي “أوروبا نابليون” لم يكن يستفيد الجميع بالطريقة نفسها.

ففي الإمبراطورية الفرنسية مثلا تتداول البضائع بحرية، بينما في دول الحلفاء يفرض الإمبراطور الضرائب على كل ما يريد، وهذا يعني أن الفرص ليست متساوية، فقد صمم نظام الجمارك والضرائب لصالح استفادة الاقتصاد الفرنسي وإلحاق الضرر بالآخرين.

“فرنسا أولا”.. عقوبات على ألمانيا بعد تقويض الحصار

نجح الشعب في الولايات الألمانية في تقويض الحصار البري، ولهذا شدد “نابليون” الضوابط، وجعل العقوبات أقسى، وكان جنوده يحرقون المواد والسلع الغذائية في الساحات العامة.

وكان الحصار القاري تجسيدا لمقولة “فرنسا أولا”، ومن ناحية أخرى كانت هذه السياسة تضرب على وتر حساس بالنسبة لسكان شرق الراين، لأنهم يعيشون على التجارة من موانئ بحر البلطيق، وقد ضرب الحصار هذه التجارة والمناطق بقوة.

وهو لا يتردد -بحسب “تييري لينتز” مدير مؤسسة نابليون- بضرب الصناعة الألمانية إن كانت تؤثر على الصناعة الفرنسية، وهذا غير مقبول بالنسبة للنخبة والعاملين في هذه المناطق.

أما القطرة التي أفاضت الكأس وأدت إلى توتر العلاقات بين نابليون وسكان الراين، هي إرسال أبناء الألمان إلى الحرب، وهو ما فسر بأنه يريد التضحية بجيل كامل كانت أوروبا بأمسّ الحاجة له لبناء الاستقرار وتحقيق سلام مستدام.