“ربيع بكين”.. حلم الديمقراطية القصير بين دكتاتورين

الفن الحقيقي يتنفس بِرِئة الحرية، وكم هو بائس ذلك الفن الذي يتراقص على لسعات سياط الجلادين. ولهذا فإن أشد اللحظات خطرا على الحكومات المتسلطة هي تلك التي تتضمخ فيها ريشة فنان بألوان الحرية، أو ترتعش فيها أقلام الأدباء بكلمات الوعي والتثقيف، أو ينزاح فيها ستار المسرح عن مشهد هادف.

يحكي هذا الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “ربيع بكين”، عن الحركة الفنية التي قادها مجموعة من الفنانين الصينيين، بعد أن ولّى عهد “ماو تسي تونغ”، وانتهى بموته ثورته الثقافية التي جلبت الموت والجوع والدمار لأكثر من 100 مليون إنسان صيني، خلال منتصف القرن الماضي.

“ماو تسي تونغ”.. يوم عاث الحرس الأحمر قتلا في بكين

هكذا تبدو ساحة “تياننمان” في بكين، في أحد أيام أغسطس/آب 1966، أما اللون الأحمر الذي يكسو أرضيتها الفسيحة فلم يكن وردا، بل كان أكثر من مليون إنسان من “الحرس الأحمر”، وذلك الرجل الذي يقف على المنصة ويمدّ يده بشكل أفقي مائلة إلى الأعلى هو “ماو تسي تونغ”، زعيم الحزب الشيوعي الصيني.

تنطلق مكبرات الصوت: بتوجيهات من الرئيس “ماو” سنتخلص من الفكر القديم، ونتخلص من العادات والتقاليد البالية، ونزيل جميع العقبات.

في 18 أغسطس/آب 1966، حين بدأت الحركة الثقافية، كان “ماو” يتحدث للحرس الأحمر في ساحة تياننمان، وهناك حدث تغيير عظيم، وأصبح “ماو” في نظر الناس إلها، وهذا الإله يأمر بثورة وبتدمير العالم القديم، وتقابله الجموع بصيحات الحماس، وإظهار الحب والتفاني.

إعلان الحركة الثقافية في عام 1966 حيث الرئيس الصيني “ماو تسي تونغ” يتحدث للحرس الأحمر في ساحة تياننمان

في تلك الليلة بدأت ثورة الحرس الأحمر العنيفة، فقتل في بكين وحدها ألف شخص على الأقل بالضرب حتى الموت، وأحرقت جميع الكتب القديمة، وتم تصنيف معلمي المدارس على أنهم شياطين، ومنع الناس من مشاهدة البرامج الغربية.

قام الحرس الأحمر بحملات تفتيش في البيوت ودمروا كل شيء، وكان الطلاب يتمردون على معلّميهم، وعلى المدارس التي تحكمها النظم الرأسمالية، ويرددون اقتباسات من كلام “ماو” ليلا ونهارا.

موت الزعيم.. نهاية الثورة الثقافية التي أثقلت كاهل الصين

آمن الناس بعظمة الصين وفظاعة الغرب، ولكنْ كان المتسولون يملؤون الطرقات ويتضورون جوعا، وهنالك قرى مات نصف سكانها جوعا، والنصف الآخر أكل من لحوم الموتى لسدّ جوعه. لقد وصل “ماو” للسلطة على أعناق المزارعين والعمّال الذين هم في أسفل الهرم الاجتماعي، لقد عاشوا وماتوا هم وأجدادهم وأحفادهم فقراء.

وفي فترة الثورة الثقافية كانت هنالك 8 عروض أوبرا فقط، أحدها “آثار في غابة ثلجية”، وقد أخذتها زوجة “ماو” وحوّلت جزءا من القصة إلى عرض للأوبرا في بكين. لقد أصبح عالم الثقافة والفن والإعلام تحت إمرة “جيانغ تشينغ” زوجة “ماو”.

حولت السيدة “ماو” جزءا من رواية “آثار في غابة ثلجية” إلى عرض للأوبرا في بكين

وفي 9 سبتمبر/أيلول 1976 مات “ماو تسي تونغ”، وكان قبل موته يستخدم زوجته وعصابة الأربعة للقتل، وقد حاولت هذه العصابة الاستيلاء على السلطة بعد موته، ولكنهم فشلوا واعتقلوا. لقد كان اعتقال “عصابة الأربعة” نقطة تحول في تاريخ الصين.

بعد وفاة “ماو” وانتهاء الثورة الثقافية ظهر “دينغ شياو بينغ” قائدا للحرس القديم، وحاول إعادة الصين إلى سابق عهدها. لقد أخبره أحد ضباطه أن الذين قتلوا أو سجنوا وأوذوا وأوذي أقاربهم أثناء الثورة الثقافية وصل عددهم إلى مئة مليون شخص.

حائط الديمقراطية.. بكين تتنفس حرية وتمطر فنا

يقول “لي زاوبين”، وهو مصور عايش فترة التحول 1978: ظهر رجل في الشارع قادم من بكين، ويحمل على صدره شارات “ماو”، وكانت حالته بائسة وثيابه رثّة تثير الشفقة، لكن عينيه تلمعان بالأمل، يبدو أنه جاء ليقدم التماسا أو استئنافا لحل مشكلة، إنها الإنسانية متجسدة في هذا الرجل، والطريقة التي عاش بها الصينيون لآلاف السنين.

جاء الصينيون من أنحاء البلاد ليلصقوا التماساتهم، وملصقات الديمقراطية على جدار الديمقراطية في بكين، جاءوا للتعبير عن مشاعرهم وللمطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم أثناء الثورة الثقافية، وكان الناس العائدون من أعمالهم يتوقفون للقراءة، فظائع تقشعر لها الأبدان، وفي نفس الوقت تنتابهم حالة من الدهشة أنهم يمارسون حرية لم يشعر بها الصينيون طوال فترة “ماو”، لقد سجن أو قتل جميع الذين انتقدوه أو انتقدوا الشيوعية.

في فترة التحول سنة 1978 في بكين، شهد حائط الديمقراطية نشر رسومات وأشعار انتقدت حقبة الثورة الثقافية

واستغل الفنانون والإعلاميون والأدباء حائط الديمقراطية كذلك، فنشروا رسوماتهم وأشعارهم التي تعبر عن الحرية وانتقاد حقبة الثورة الثقافية، وجاء فنانون واختاروا لمجموعتهم اسم “النجوم” تواضعا، لأنه لم تكن هنالك إلا شمس واحدة هي شمس “ماو”، فهم نجوم يبددون عتمة ليل الاستبداد بنور خافت، ويغيبون في النهار.

أحدهم نحات على الخشب، أبدع لوحة الصمت، رأس إنسان محشوّ فمُه بقطعة خشب كبيرة، دلالة على تكميم الأفواه وتقييد حرية التعبير، ورسمت أخرى لوحة لفتاة من الحرس الأحمر بيدها سوط من الجلد أوجعت به للتو جلد أحدهم، وهي تنظر إلى صورتها المشوهة في مرآة مهشَّمة، فتبدو على عينيها علامات الحيرة.

“إذا قلتُ ممنوع فهو ممنوع”.. شرطي المدينة يكمم الأفواه

حاول الفنانون مرارا تنظيم معرض بهذه اللوحات، ولجؤوا إلى جمعية الفنانين من أجل إعطائهم الإذن بتنظيم المعرض لكن الجمعية رفضت، وأخبرتهم باستحالة عرض مثل هذه اللوحات، حينها توافقوا على عرضها على السياج الخارجي للمتحف الوطني للفنون، وبالفعل أخرج 23 فنانا المعرضَ للنور في أكتوبر/تشرين الأول 1979.

نحات بجانب لوحته “الصمت” وهي رأس إنسان محشوّ فمُه بقطعة خشب كبيرة، دلالة على تكميم الأفواه

أصابت الناسَ دهشةٌ ممزوجة بالمفاجأة، وصاروا يتساءلون: ما هذا النوع من الفن؟ لفتت أنظارَهم لوحة عنوانها “صراخ الشعب”، وهي عبارة عن منازل صغيرة أسفل اللوحة تمتد منها إلى الأعلى أيدٍ مختلفة؛ بعضها يتسول وبعضها يشير بالاتهام وأخرى توحي بالعنف، تزاحم الناس وكتبوا عبارات الإشادة في دفتر الزوار، ومنهم ضباط وجنود وعمال وفلاحون.

لم يستمر المعرض طويلا، فقد تدخلت الشرطة وطلبت من الفنانين إزالة اللوحات، وعندما سأل بعضُ الفنانين الضابطَ عن سبب المنع أجابه: “إذا قلتُ ممنوع فهو ممنوع”، لقد تذرّعت الشرطة أن المعرض يخلّ بالنظام العام.

خرج النشطاء للتظاهر بعد يومين من منع المعرض، وصادف ذلك اليوم الوطني للصين، وكانت الاحتجاجات منصبة على أن الفنون لا تتعارض مع النظام والقانون، بل إن منعها يتصادم مع أساسيات الحرية والديمقراطية، كان “النجوم” يستعدون للأسوأ، الاعتقال أو القتل، وقد سجلت بعض الخطب، والتقط الناشطون بعض الصور، وكان هذا ينذر بخطر كبير.

قام نشطاء بتوزيع المنشورات، بينما حمل آخرون لافتات تدعو للديمقراطية والحرية، وتحركت جموع في مسيرات بالشوارع المجاورة، فاعترضتهم الشرطة بقوات كثيفة. خيّم الصمت واعتلى بعض المتظاهرين الأشجار، ثم كانت المفاجأة حين أخبرت الشرطة المتظاهرين أن بإمكانهم التوجه إلى مبنى البلدية، عبر شوارع حددتها لهم.

“نستحق العدالة في توزيع الموارد”.. انتصار الشعب

عند مبنى البلدية وقف أحد النشطاء على عكّازيه، إذ يعاني من إعاقة في ساقيه، ثم خطب في الجماهير بصوت جهوري كله حماس قائلا: نحن بشر، كفل لنا الدستور الحق في التعبير، نحن نستحق العدالة في توزيع الموارد، الطبقة السياسية تتمتع بالحقوق والأموال ولا أحد يسائلها، بينما بقية الشعب تشكو من الجوع والفقر.

نشطاء يخرجون للتظاهر ضد إغلاق الحكومة الصينية لحائط الديمقراطية ويحملون لافتات تدعو للديموقراطية والحرية

انفضَّت المظاهرة بسلام، وطالب “النجوم” الجموع بالانسحاب بهدوء، لقد انتصر الشعب في هذه الجولة، وبعد شهرين سمحت جمعية الفنانين الصينيين لمجموعة النجوم بتنظيم معرض رسمي، وانضم إليهم فنانون آخرون من المدرسة الانطباعية.

كان لوجود الصحافة الأجنبية أثر إيجابي على الشارع الصيني، كان هنالك نوع من الحوار الثلاثي بين الصحافة الأجنبية والشعب الصيني والزعيم “دينغ شياو بينغ”، ودخلت “المسجِّلات” إلى شوارع الصين بفضل الأجانب أيضا، لم تكن تستخدم للرقص والموسيقى فقط، بل هي نوع من الانفتاح على العالم الخارجي والتعبير عن الحرية.

تنبهت بلدية بكين لهذا الأمر وأصدرت تعليمات بمنع الرقص في الشوارع، فتوجه الشباب لإقامة الحفلات في منازلهم. لقد بدأت الصين بالانفتاح على العالم، واستقبل الرئيس الصيني في يناير/كانون ثاني 1979 الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر”، لكن أحد الصحفيين كتب في تلك الفترة مقالا طويلا يتساءل فيه عن ما إن كان الزعيم “بينغ” ديمقراطيا أم ديكتاتورا جديدا.

وحش الاستبداد يكشر عن أنيابه.. نهاية الحلم القصير

جاء الرد سريعا على الناشط الصحفي الذي تساءل عن فكر الرئيس، فقد اعتُقل في نفس الليلة، وعند تقديمه للمحاكمة، تعاون عدد من الناشطين على تسريب حيثيات المحاكمة عبر جهاز تسجيل، ثم فُرّغ الشريط وأعيد نسخه كتابيا، ثم وزعت آلاف النسخ، وألصق بعضها على حائط الديمقراطية في بكين، لقد فضحت محاولات الحزب الشيوعي إلصاق تهم مزيفة بالصحفي أثناء المحاكمة.

أراد الحزب ممثلا بالرئيس “بينغ” إعدامَ ذلك الصحفي، ولكن موجة الانتقادات والاحتجاجات المحلية والدولية حالت دون ذلك، فاكتفت المحكمة بإصدار حكم بالسجن مدة 15 عاما.

بعد زيارة الرئيس كارتر للصين سنة 1979.. كتب صحفي “هل سيكون الزعيم بينغ ديمقراطيا أم ديكتاتورا جديدا؟”

ضاق الزعيم “بينغ” ذرعا بحائط الديمقراطية، فقرر في مارس/آذار 1979 إغلاق الحائط، بل وإزالته جذريا بحجة إعادة تصميم المكان وتركيب لوحات إعلانات كبيرة، ولم يعد هنالك ذلك الفضاء المحدود الذي تنفس النجوم من خلاله الحرية يوما ما، فقرر كثير منهم الهرب من الصين، والسفر إلى بعض البلاد الأوروبية.

ما العلاقة بين الفن وحقوق الإنسان؟ قد يبدوان مجالين مختلفين، لكن الصلة بينهما وثيقة، عندما أطلقت مجموعة النجوم عام 1978، جدار بكين الديمقراطي، خلقت حركة فنية نتج عنها ظهور عدد كبير من الفنانين والشعراء والروائيين، وساهمت في تغيير كبير في الشارع الصيني، ولكنْ هل أنجزت مهمتها بالشكل المطلوب؟

ليس بعد.


إعلان