“لا طريق سهل إلى الوطن”.. عودة ابنة العقيد إلى جنوب السودان الممزق
السؤال الذي يشغل بال مخرجة هذا الفيلم هو: ما معنى البعد عن الوطن، وكيف يمكن أن يصبح الحنين دافعا للعودة، بل ماذا يعني الوطن نفسه عندما يغيب الأمن والأمان، والمعاناة تملأ الأرجاء، والشلل يجعل إدارة الأزمات مستحيلة؟ وماذا يسع الراغب بتقديم شيء أفضل لوطنه؟
هذا الفيلم هو الوثائقي الطويل “لا طريق سهل إلى الوطن” (No Simple Way Home)، وهو أو وثائقي طويل -بعد أربعة أفلام قصيرة- للمخرجة “أكول دي مابيور”، وهي ابنة “جون قرنق” قائد “الجيش الشعبي لتحرير السودان”، الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان التي ظلت لعقود، تسعى إلى فصل جنوب السودان عن شماله.
“أكول دي مابيور”.. شهادة شخصية على واقع الجنوب
ولدت “أكول دي مابيور” في كوبا عام 1989، وتلقت تعليمها العالي بجنوب أفريقيا، ودرست الإنتاج السينمائي والإعلامي، كما تلقت بعض الدورات في السينما والتليفزيون، وقد أراد والدها أن يرسل أسرته بعيدا عن أجواء الصراع العسكري المسلح في السودان، لكنها عادت في مرحلة ما، ثم اضطرت للخروج مجددا، ثم العودة مرة أخيرة.
ويمكن تصنيف فيلمها هذا بمثابة شهادة شخصية على الواقع في جنوب السودان، في ضوء التاريخ الحديث، الماضي القريب، والحاضر. ولا شك أن كونها ابنة أسرة ارتبطت بالكفاح من أجل إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان، هي حقيقة تلقي بظلالها بقوة على شخصيتها وأفكارها، وبالتالي على فيلمها.
ففي كثير من المشاهد والمواقف الصعبة التي ستجد نفسها في خضمها خلال الفيلم، ستعبّر عن شعورها بالذنب والتمزق، أولا بسبب عجزها عن القيام بشيء حقيقي وعملي من أجل أبناء شعبها، وثانيا لشعورها في الوقت نفسه، بأنها تتمتع بما لا يتمتع به غالبية الجنوبيين، بفضل ما ورثته عن أبيها من منزل فخم، وحياة متميزة سهلة ميسرة.
ابنة “جون قرنق”.. عودة إلى الوطن بعد تحقيق الحلم
تبدأ المخرجة فيلمها بالتذكير أنها ولدت ونشأت وكانت تقيم خارج السودان، وقد عادت مع أسرتها في عام 2011 بعد أن تحقق حلم الجنوبيين بدولة مستقلة، ولكن والدها -الذي أصبح نائبا لرئيس جمهورية السودان في إطار اتفاق سياسي موقع مع الحكومة في الخرطوم- لقي مصرعه في حادث تحطم المروحية التي كان يستقلها في يوليو/ تموز 2005. أي أنه لم يستمر أكثر من 21 يوما في منصبه.
وقد ظلت هذه الحادثة تلقي بظلالها، ليس فقط على مصير عائلة “قرنق”، بل على مصير جنوب السودان نفسه الذي سيحصل على الاستقلال في استفتاء 2011، لكن الجنوب سرعان ما سيتمزق على نفسه، وينشغل في صراعات داخلية مسلحة عنيفة، أي أن الاستقلال أصبح بمثابة الكعكة التي يتقاتل عليها هؤلاء حلفاء الأمس، بعد أن أصبحوا اليوم خصوما.
يروي الفيلم قصة الصراع السياسي والعرقي والطائفي في السودان، بين الشمال والجنوب، وبين الجنوب وبعضه، وتتوقف المخرجة كثيرا أمام حلقات مفصلية في تاريخ البلاد، لكنها لا تبتعد في أي لحظة عن تقديم رؤيتها الشخصية، من حيث علاقتها بأسرتها التي اضطرت لمغادرة البلاد، بعد انفجار النزاع المسلح بين طائفتين على أساس عرقي.
ولم ترجع العائلة إلى الوطن إلا بعد التوصل إلى تسوية سياسية من طرف حكومة “سالفا كير” الذي دعا والدتها للعودة، وجعلها أيضا النائب الثالث له، أي لرئيس الدولة، ضمن خمسة نواب اختارهم من الفصائل المعارِضة.
حياة المخرجة.. لمحات شخصية في مفاصل الفيلم
كما أن الفيلم يجسد مأزق العيش في بلد فقير ممزق، فإنه يجسد أيضا المأزق الشخصي للمخرجة “أكول دي مابيور” نفسها. ولكنها في الوقت نفسه لا تفقد السيطرة على الفيلم، ولا تنجرف أو تنساق نحو التعبير عن الإدانة أو الانحياز، كما هو متوقع من امرأة شابة في مثل ظروفها، فهي تستخدم التعليق الصوتي على ما ترصده، ولكن بأسلوب موضوعي تماما، وأحيانا شبه محايد أيضا.
صحيح أن لمحات من قصتها الشخصية موجودة دائما هنا أو هناك، لكنها أيضا تمتلك القدرة على التأمل الموضوعي، بعد أن تضع مسافة بينها وبين ما تصوره في فيلمها.
فهي مثلا تركز -خصوصا في النصف الثاني من الفيلم- على شخصية والدتها، “ربيكا نايندنغ دي مابيور”، وما تشعر به اليوم بعد أن شهد الجنوب كل تلك التمزقات، وخصوصا بعد أن أصبحت هي رمزا هناك (أم الجنوبيين)، واعتُبرت وريثة لقيادة النضال بعد زوجها، وإن ظلت كما تقول لا تعارض أبدا وحدة السودان، شماله وجنوبه، شريطة أن يكون هناك نظام ديمقراطي يحتضن الجميع ويسمح بالتعددية.
وهذه النقطة تحديدا ربما لم يُولِها الفيلم ما كانت تستحقه من اهتمام.
أم الجنوبيين.. أنشطة اجتماعية لنائبة الرئيس القوية
تنتقل المخرجة لكي تستمع إلى وجهات نظر أخرى، منها ما يقوله قس يمثل الكنيسة في الجنوب، من أن هناك أكثر من 500 فئة وطائفة عرقية ودينية في السودان، ومن الصعب كثيرا ضم الجميع تحت مظلة واحدة.
تظهر الأم “دي مابيور” وهي تنتقل وتلقي خطابات، وتزور قبر زوجها، وعندما تسألها ابنتها المخرجة: لماذا لم تتزوج؟ تجيبها بأنها ترى نفسها متزوجة حتى اليوم، وأنها ما زالت تعيش مع زوجها الذي لا تراه غائبا، وأنها لم تحب رجلا غيره.
تنزل هذه المرأة قوية الشخصية لتلتقي بالناس، خصوصا بعد تفشي وباء الكوفيد في 2020، ثم الفيضان الهائل الذي أغرق البلاد في عام 2021، وهي أكبر كارثة من نوعها شهدتها المنطقة، وأدت إلى نزوح نحو 700 ألف شخص من ديارهم، والقضاء على المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليها السكان في غذائهم، وانتشار المجاعات والأوبئة.
ورثة العقيد.. كعكة شهية من وطن جائع
نرى المخرجة وهي تنزل بالكاميرا لتصور بنفسها معالم الكارثة، وتقف وسط المشردين الذين يتطلع بعضهم إليها في تساؤل ممزوج بالغضب. فهذه امرأة تتحدث ويظهر من كلامها أنها تُدين المخرجة، لكونها تنتمي لعائلة “جون قرنق” الذي تقول إنهم أيدوه وساعدوه وقُتل رجالهم في القتال معه، لكن أبناءهم لم يحصلوا على شيء في نهاية المطاف، وقد تركوا وحدهم.
وهي شهادة مباشرة صادقة مؤثرة أمام الكاميرا، ولا تستطيع “دي مابيور” أن تناقشها أو تعلق عليها، بل تكتفي برصدها نموذجا للمأساة، والمأساة أكبر من أي تعليق.
وترصد الكاميرا كذلك تفاصيل مذهلة لما سبّبه الطوفان، فنرى لقطات من زوايا مرتفعة من طائرة تستقلها المخرجة نفسها، ولقطات أخرى متحركة طويلة من الأرض، مع الانتقال بين مشاهد الدمار وكيف يكافح البشر من أجل البقاء على قيد الحياة.
يظل الوضع السياسي حاضرا باستمرار، فنرى أرملة “قرنق” تبكي في أحد المشاهد أمام الكاميرا، وتدين عجز الحكومة عن تقديم مساعدات ملموسة للناس، وتعبّر عن عجزها الشخصي -وهي نائبة للرئيس- عن تقديم شيء.
أما ابنتها الثانية الكبرى (لدى “جون قرنق” 4 بنات وولدان)، فهي ناشطة سياسية، وتتمتع بحيوية كبيرة، فنراها تنزل وتعمل وسط الناس وتحمل مواد المعونة على ظهرها، وتنقلها إلى الشاحنات الصغيرة. لكن لا نرى أيّ دور لابنَي “قرنق”، وكل ما نعرفه أن أحدهما ضابط في جيش جنوب السودان، والآخر في منصب حكومي.
جوبا الساحرة.. تناقض بين ثراء الطبيعة وفقر الإنسان
تستخدم المخرجة كثيرا من الصور الفوتوغرافية التي توثق لبعض الأحداث وخصوصا من أرشيف العائلة، ومقاطع من مقابلات تليفزيونية قديمة، ومقطعا محددا للأب “جون قرنق” بين جنوده في الأحراش أثناء القتال، وهو يتحدث إليهم باللغة العربية، ويوجههم إلى ضرورة القضاء على العدو. وهي لقطات مصورة بصعوبة وبكاميرا مهتزة، لكنها ربما تكون الوثيقة الوحيدة التي حصلت عليها المخرجة.
كما تستعين أيضا بمشاهد تسجيلية وخرائط ومواد صوتية، وتنتقل بين مناظر البؤس والمعاناة الإنسانية، ومناظر بديعة للطبيعة في جوبا وخارجها، لكي تكشف ذلك التناقض بين ثراء الطبيعة، وفقر الإنسان وقلة حيلته.
وهناك أيضا مشاهد من مجلس الشعب في الجنوب، وأداء اليمين الدستورية أمام الرئيس، والكلمة التي تلقيها الأم في النواب، وغير ذلك من لقطات وصور توثق لتطور الأحداث، مع تكثيف مستمر لشعور المخرجة بالاغتراب، وبأنها بعد كل ما خبرته، وبعد الفترات الطويلة التي قضتها في بلدها، ما زالت عاجزة عن فهم معنى الوطن، بل إنها تشعر أنه ما زال بعيدا عنها، وهي بعيدة عن الإحساس به.
عمل سينمائي يفيض بالشعر، والاقتصاد في السرد، والاحتفال بالطبيعة، ويتضمن كثيرا من المشاهد الصامتة التي لا تفرض عليها المخرجة التعليق الصوتي. وقد اشتركت بنفسها في تصوير الفيلم مع المصورة “إيما نزيوكا”، وقد أنتج الفيلم بالتعاون بين جنوب السودان وكينيا وجنوب أفريقيا.