“1948.. نتذكر، لا نتذكر”.. صفحات سوداء يتمنى الاحتلال دفنها عن النكبة

ما زال كثير من الحقائق المتعلقة بأحداث “النكبة الكبرى” خفيا، مع أنها مر عليها 75 عاما، وبين حين وآخر تظهر أفلام من داخل إسرائيل نفسها، تبحث وتنقب وتكشف الستار عن كثير من الحقائق المخزية التي تدمغ الاحتلال الصهيوني، وما ارتكبه في حق الفلسطينيين من بشاعات ومجازر.

يهدف صناع هذا النوع من الأفلام لتحقيق هدفين، الأول فكرة أن من الضروري أن تواجه إسرائيل تاريخها بكل ما فيه من نقاط سوداء، فلن ينفعها أن تغلق الباب على وثائق الفترة التاريخية التي جرت فيها الأحداث الدامية التي نتجت عنها في النهاية، تلك المأساة التي كان وما زال يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني كله في الداخل والخارج، في غزة والضفة الغربية وداخل الخط الأخضر أيضا.

والهدف الثاني هو إبراز قدرة بعض السينمائيين الإسرائيليين الذين يعملون ضد ما يسمى “الموجة النقدية الإصلاحية” على البحث في الماضي، وكشف الكثير من الحقائق، استنادا إلى حركة البحث الحر التي بدأت في الثمانينيات الماضية مع ما عرف بـ”المؤرخين الجدد” في إسرائيل، أو تيار المراجعة التاريخية الذي يرمي إلى إعادة تأسيس الحقائق.

كما وقعت من خلال الوثائق التي كُشف عنها خدمة للتاريخ وللحقيقة، مع إتاحة مساحة جيدة للرواية الفلسطينية للأحداث، وقد تمثل هذا في عدد من الأفلام الوثائقية، أشهرها وأكثرها قوة وتأثيرا فيلم “الطنطورة” الذي تحدثنا له على هذا الموقع.

1948.. تاريخ أسود يود الاحتلال دفنه

يرى صناع هذه الأفلام ومن يشاركون فيها من المؤرخين والباحثين وأساتذة التاريخ، أن الكشف عن الحقائق يدعم الشعور الأخلاقي بالمسؤولية، ويساهم في التخلص من العُقد التاريخية المترسبة التي لا تواجه على الصعيد الرسمي، بسبب الانحياز إلى “ثقافة الإنكار”. وهذا النوع من الأفلام يقابل عادةً بالهجوم والشجب والتشهير والرفض والتشكيك، سواء من جانب السلطات الرسمية، أو من جانب الجماعات الصهيونية المتعصبة والأفراد داخل إسرائيل.

أحدث هذه الأفلام هو الفيلم الوثائقي الطويل “1948.. نتذكر أو لا نتذكر” (1948: Remember, Remember Not) الذي عُرض عرضه الأول في أغسطس/ آب 2023 قبل انفجار الأوضاع في غزة. وهو من إخراج المخرجة الشابة “نيتا شوشاني” التي أخرجت من قبل فيلمين من نفس الاتجاه هما “وُلد في دير ياسين” (Born in Deir Yassin) عام 2017، و”زيارة منزلية” (House Call) عام 2016.

هذا الفيلم ليس درسا في تاريخ الاحتلال، بل محاولة تبدو “محايدة” حينا، ورافضة للممارسات العنيفة التي وقعت على الفلسطينيين حينا آخر، دون أن نغفل نحن المشاهدين لحظة واحدة عن استمرار تلك الممارسات حتى وقتنا هذا. ومع ذلك تبقى جذور الصراع (أي قبل وبعد 1948) هي التاريخ الأسود الذي يريد المسؤولون الصهاينة دفنه.

 

“نتذكر”.. استعادة الذاكرة من رسائل عام 1947

ينقسم الفيلم إلى قسمين متباينين، لكنهما لا ينفصلان عن بعضهما، الأول بعنوان “نتذكر”، وهو كما يبين عنوانه يقوم على استعادة الذاكرة، لكن ليس بالحوارات الانطباعية، بل من خلال رسائل ووثائق ومقالات كانت تُنشر في الصحف عام 1947، وترصد تنامي الصراع، منذ أن بدأت الجماعات الصهيونية حملاتها على ممثلي حكومة الانتداب البريطاني، إلى حين صدور قرار التقسيم وما بعده، وصولا إلى عام 1948 وما وقع من تداعيات أدت إلى ضياع معظم أرض فلسطين ومأساة مئات الآلاف من اللاجئين.

من معالم الجزء الأول ما نشاهده أولا مع صدور قرار التقسيم، حين ذهب “بن غوريون” إلى تل أبيب ليخطب في حشود من شباب اليهود الذين استقبلوا الإعلان بالرقص في الشوارع بعد حصولهم على “وطن” بموجب القرار، لكن الفيلم يبحث أيضا في الجانب الآخر، أي في استقبال الفلسطينيين قرار التقسيم، وشعورهم بالصدمة من حرمانهم من أخصب الأراضي وأفضلها، ومن الأماكن التي تطل على البحر، ومن هنا بدأ النزاع المسلح.

ويثبت الفيلم أن عشرات الآلاف من الفلسطينيين قد هُجّروا، وأخرجوا من بلادهم قبل نشوب الحرب في مايو/ أيار عام 1948. وحتى الصورة التي نراها من خلال مذكرات ورسائل لأفراد من كلا الطرفين، بالإضافة إلى ما تقدمه المخرجة من معلومات موثقة، تنفي تماما الفكرة التي رسخها الإعلام الإسرائيلي حول التفوق الكاسح المزعوم في الجانب العربي على القوات الإسرائيلية في ذلك الوقت، ويثبت العكس.

“فرقة البحث عن المفقودين”.. بقايا جثث الجنود المشاركين في 1948

يركز الجزء الثاني من الفيلم على اتساع نطاق الأحداث، بعد دخول قوات خمس دول عربية، لتنشب أول حرب عربية إسرائيلية، ثم محاولات الأمم المتحدة التوسط بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، مع اتساع نطاق الهجمات الإسرائيلية والاستيلاء على القرى والبلدات الفلسطينية وتهجير السكان.

ثم يتطرق إلى دور مبعوث الأمم المتحدة السويدي الكونت “برنادوت” الذي اغتالته فيما بعد عصابة “ليحي” الصهيونية المتطرفة، بسبب تقريره الذي فضح فيه الانتهاكات الإسرائيلية لقرار التقسيم، والاعتداء على الأراضي المخصصة للطرف الفلسطيني، وفشله في إقناع “بن غوريون” بوقف تلك الاعتداءات، وهو ما تكشفه مذكراته التي نستمع إلى مقاطع منها في الفيلم، على خلفية لقطات وصور له خلال وجوده في فلسطين.

مفوض الأمم المتحدة للوساطة بين العرب واليهود الكونت برنادوت الذي اغتاله الصهاينة

وعبر الفيلم نشاهد بشكل متقطع ما تقوم به مجموعة من الأفراد من فرقة في الجيش الإسرائيلي تسمى “فرقة البحث عن المفقودين”، تسعى للعثور على رفات أو عظام أو بقايا جثث الجنود الذين شاركوا في حرب 1948.

الأمر الذي يدفع أحد الفلسطينيين -وهو خبير في التراث- للاعتراض والتصدي لهم بعد أن اقتحموا أرضه، ونراه وهو يوبخهم باللغة العبرية، ويردد أنهم جاؤوا وذهبوا مرات من قبل منذ 1967، ولكن من دون أن يعثروا على أي شيء.

“لا نتذكر”.. مذابح ينكرها الصهاينة ويثبتها الأرشيف

لعل من أهم ما يميز الجزء الثاني من الفيلم ويتسق مع عنوانه، أي “لا نتذكر”، (بمعنى إنكار التذكر) هو الجدل الذي يدور بين الباحثين والمؤرخين وخبراء الأرشيف الإسرائيلي الذين تعاقبوا عليه عبر سنوات، مع إبراز الموقف الرسمي المناهض للتغطية على الوثائق من جانب المؤرخين، ولا سيما ما يسمى “ملف شابيرا”، نسبة إلى “يعقوب شابيرا” الذي كان أول نائب عام في الفترة ما بين 1948-1950.

وضع “شابيرا” تقريرا تفصيليا عن المذابح التي ارتكبها جنود الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في حرب 1948، لكن هذا الملف أُبقي سريا، وحُظر الاطلاع عليه، بحجة أنه يضر بسمعة إسرائيل وصورتها في العالم، وهو ما تتحداه المخرجة في مشهد من أهم مشاهد الفيلم عندما تناقش وتحاور أحد المسؤولين.

في هذا الفيلم نشاهد سردا للأحداث من وجهتي النظر الإسرائيلية والعربية، من خلال وثائق محددة مثل المذكرات التي كُتبت بخط اليد، لكن يقرأها اليوم أشخاص لا نراهم، بل نسمع أصواتهم فقط، يتقمصون أدوار الشخصيات الحقيقية التي كتبت هذه المذكرات أو اليوميات أو الرسائل.

يتحدث الإسرائيليون العبرية، والعرب اللغة العربية. ولعل من مزايا الفيلم عثور فريق البحث على كثير من المذكرات، فتعود بها المخرجة إلى جذورها، وتضعها في سياق سردي يروي مراحل تطور الصراع، باستخدام كثير من صور الأرشيف.

“هداسا أفيغدوري”.. عنصرية بغيضة تجاه الفلسطيني

قبل أن ندخل في سياق الفيلم، نشاهد لقطات معظمها بالألوان لتدريبات واستعدادات جنود “الهاغاناه”، استعدادا للحرب القادمة مع العرب، وينزل على هذه الصور هذا المقطع المذهل من مذكرات فتاة تدعى “هداسا أفيغدوري” (20 سنة)، وكانت تعمل في الفريق الطبي لقوات النخبة “البالماخ”، وتتعاقب لقطات كثيرة لهذه الفرقة التي مارست أكثر الجرائم عنفا وبشاعة.

كثير من هذه اللقطات والصور التي نراها هنا ثم فيما بعد على مدار الفيلم، هي لقطات بالألوان، وتُعرض أول مرة في فيلم وثائقي، وسياق الفيلم يبدو متوافقا تماما مع مسار الأحداث وتطوراتها.

تقرأ الفتاة (بصوت التي تتقمص شخصيتها): الشباب يموتون كالذباب، وكالعادة فإن أكثرهم مهارة هو الذي يموت أولا، أحيانا أشعر أننا جميعا سنذهب تدريجيا، ولكن عزاؤنا الوحيد أن الأمر أسوأ في جانب العرب. تُرى هل يعرف بعضهم بعضا، وهل يكترثون إن قُتل أحدهم؟ أشك في أنهم يتأثرون كثيرا بموت أحدهم كما نتأثر نحن، فنحن قليلو العدد جدا، وكل واحد منا ثمين. لدي أمنية واحدة فقط، ألا يتقاعس أي شاب عن الانضمام للجيش، لكي يؤدي دوره عندما يحين الوقت، فينبغي على جميع الشباب التطوع للقتال.

بن غوريون يعلن قيام إسرائيل في مايو 1948

هذا المقطع يعبر بوضوح عن النظرة العنصرية البغيضة إلى الفلسطينيين، فهي تراهم أدنى من اليهود، فهم لا يشعرون بمشاعر إنسانية مماثلة عند مقتل أحدهم، كما تبدي شماتتها بوضوح فيما يقع لهم، عندما تقول إن العزاء الوحيد لمن يقتلون من اليهود، هو أن الأمر أسوأ على الجانب العربي. لكن الأكثر فظاظة وعنصرية سيأتي فيما بعد.

“إنه أعظم يوم في تاريخنا”

نشاهد مجيء “بن غوريون” إلى تل أبيب، ونراه وهو يلقي خطابا في جموع الشباب المحتشد، ويقول أحد المعلقين اليهود: إنه أعظم يوم في تاريخنا، مع أن آمالنا تقلصت بعد أن أصبحت 30 من مستوطناتنا في الأرض العربية، ووضعت القدس تحت إدارة دولية، والجبال التي منحت لنا قليلة للغاية، والحدود سيئة من الزاوية الأمنية والسياسية، ولكن لم تكن هناك إنجازات كبرى (للعرب)، فقد حصلنا على معظم الوديان ومعظم مصادر المياه في الشمال، ومعظم الأراضي الخالية، وعلى البحرين. (الميت والمتوسط).

هذا التعليق يأتي على خلفية صور ولقطات ملونة للأراضي الفلسطينية الخصبة والبحر، ومنها لقطات تظهر مزارعا فلسطينيا يتقدم صوب السيارة التي تلتقط الصور من داخلها، ومعظمها أيضا لقطات بالألوان، مع أن التصوير بالألوان لم يكن منتشرا في تلك الفترة، لكن الواضح أن اليهود كانوا يسجلون كل الأحداث بكاميرات السينما.

تستخدم المخرجة الخرائط الملونة التي ستتكرر عبر الفيلم للمناطق الفلسطينية واليهودية طبقا لقرار التقسيم، وتوضح تدريجيا كيف تتمدد المنطقة المخصصة لليهود، وتنكمش المنطقة المخصصة للعرب، مع اتساع عمليات الإرهاب الصهيونية ضد السكان الفلسطينيين والاستيلاء على قراهم وأراضيهم.

“يهوديت يهزكيلي”.. عجوز كتبت مذكراتها عام النكبة

نصل إلى شهادة أخرى من المذكرات المكتوبة، ونرى عجوزا تدعى “يهوديت يهزكيلي” (92 عاما) هي صاحبة المذكرات، تزورها المخرجة في منزلها، وتفتش في أوراقها القديمة التي دونتها عندما كانت في عامها الثامن عشر عام 1948، وكانت عضوا بعصابة “البالماخ” في حيفا. فماذا تقول في مذكراتها؟ هنا بعض المقاطع فقط لأن السردية طويلة:

في القرى العربية حول بلدة النسر، قتل العرب أمس 41 من عمالنا، يهود أبرياء يعملون في مصفاة تكرير، فقد هاجم العرب أصدقاءهم اليهود وذبحوهم، ومعظم القتلة كانوا من بلد الشيخ القريبة. هل نبقى صامتين؟ كلا.

اليهود يحتفلون بعد إعلان بن غوريون قيام إسرائيل

حديث العجوز اليهودية يتداعى على خلفية لقطات من الأرشيف للمصفاة ملتقطة من الجو، تعود إلى تلك الفترة، وطبقا لأسلوب السرد في الفيلم وقبل أن تكمل العجوز حكايتها، تنتقل المخرجة عبر المونتاج إلى الرواية العربية من خلال ما يرويه لنا خليل السكاكيني (70 سنة) وهو متخصص في اللغويات، إذ يقول: كان اليهود هم الذين بدؤوا بالعدوان، وقد ألقوا قنبلة على العمال العرب العزل، فقتلوا منهم ستة، فهاج العرب وهجموا على العمال اليهود بالحجارة والعصي، وقتلوا منهم 40 أو أكثر.

“إنهم يعتبروننا جميعا قتلة”

نعود مجددا الى رواية اليهودية العجوز على خلفية صور لليهود من أعضاء “البالماخ”، وهي تحكي لنا أنهم استيقظوا في صبيحة أحد الأيام من يناير/ كانون الثاني 1948 على أصوات إطلاق رصاص، وكان رجالنا يقومون عن حق بالواجب في القرى المجاورة، في حواسا وبلد الشيخ. وكان أخي “يوسك” من بين المهاجمين، مع الفرقة التي كان يقودها.

عندما تتحدث العجوز “يهوديت” عن “البالماخ” فإنها تصورها قوة نقية، وتصفها بأنها بنفس نقاء جيش الدفاع الإسرائيلي الذي تراه أكثر الجيوش نقاء في العالم، أي التزاما أخلاقيا بقوانين الحرب. ومع ذلك فهي تستطرد قائلة: وقعت تجاوزات سببت الأذى للآخرين، ولكن ليس من الصواب إدانة الجميع بسبب تجاوزات فردية.

وعندما تسألها المخرجة: وهل هذه التجاوزات مذكورة في المذكرات التي لا تريدين إطلاعي عليها؟ تجيبها: لا أعرف. ولكن ما علاقة الأمر بهذا الفيلم؟ لماذا تريدين الاطلاع عليها؟ ولماذا تريدين وضع الكلمات في فمي؟

فتجيبها المخرجة: أليس هذا من ضمن تاريخ الحرب أيضا؟ فيأتي الرد المفزع: ولكن ما يحدث الآن في غزة ضد حماس هو جزء من هذه الحرب أيضا. لكن العالم يفسرها بطريقة أخرى، إنهم يروننا جميعا قتلة.

وكأنها تتكلم عما يحدث في العدوان الحالي الذي بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فالسيناريو مستمر ومتكرر، وحديث المرأة الإسرائيلية سُجل في 2022.

خبر اغتيال الوسيط الدولي برنادوت

“زرعنا الرعب في قلوب العرب من السكان المحليين”

كانت الفلسطينية سامية مسعود ابنة 10 سنوات في وقت النكبة، لكنها دونت أن أباها أخبرها بأن المذبحة وقعت بالقرب من الحي الذي يقيمون فيه، فسألته: وهل ستحدث في منزلنا أيضا؟ فاستبعد ذلك تماما، وقال لا أحد يجرؤ على الاقتراب منا. ثم صمت قليلا، واستأنف: لدي قطعة سلاح، يمكنني حماية منزلنا بها. وبعد قليل أظهر لي بندقية إنجليزية مخبأة في خزانة، ووقف شعري عندما رأيتها.

وسنعرف فيما بعد أن هذه البندقية لم تنفع صاحبها، حين ننتقل إلى لقطات مذهلة للجنود الإسرائيليين، وهم يصطفون ويطلقون النار بغزارة، وكلها لقطات قديمة بالأبيض والأسود من الأرشيف اليهودي، وقد حصلت عليها المخرجة مع غيرها من الصور واللقطات التي لم تظهر قط في أي فيلم عن تلك الفترة.

وفوق هذه اللقطات تأتينا شهادة “أوريل أوفيك” الذي كان ابن 22 من عمره، وكان في الخدمات العسكرية الطبية. وهو يخبرنا في رسالة كتبها وقتئذ، أنه والمجموعة التي يتبعها بدؤوا العمل مباشرة بعد وصولهم (إلى البلدة).. فما هو هذا العمل؟

يقول “أوفيك”: زرعنا الرعب في قلوب العرب من السكان المحليين، وانتشرت أسطورتنا بين العرب، فأُخليت قرية بيت زكريا المجاورة، فاحتللناها.

إنه يخبرنا أن المجازر التي كانوا يرتكبونها، سرعان ما كانت أخبارها تنتشر إلى القرى الأخرى، فيفزع السكان ويتركونها، لكي يستولي عليها اليهود. أليس هذا ما حدث تحديدا بعد مذبحة دير ياسين الشهيرة، ثم غيرها من المذابح ضد المدنيين الأبرياء لغرض الاستيلاء على الأرض والبيوت، ثم أليس هذا نفسه ما يحدث اليوم؟

 

“إن تفجير منزل ليس كافيا”.. مذكرات قائد متعطش للدماء

الوثيقة الأخطر التي يكشف عنها الفيلم، هي ما كتبه “بن غوريون” نفسه في مذكراته في يناير/ كانون الثاني 1948، إذ يقول: إن تفجير منزل ليس كافيا، بل من الضروري الرد بوحشية وقوة.

ثم طالب باستهداف زوجات المقاتلين العرب وأطفالهم في سياق الهجمات الانتقامية. وتقول لنا المخرجة إنه في ذلك الوقت وضع الجيش الإسرائيلي خطة “داليت” التي تهدف إلى التهجير الممنهج للفلسطينيين.

يستمر مسلسل الشهادات المتعارضة، لكن التعارض الأكبر سيتجلى في الجزء الثاني من الفيلم، عندما نرى الصدام بين من يرون ضرورة مواجهة الحقائق، عن طريق إتاحة الاطلاع على الوثائق الموجودة في خزائن الأرشيف، بما في ذلك “ملف شابيرو”، وبين من يرفضون الكشف عن هذا الملف لكونه يختلف عن غيره.

فهو -كما يقول أحدهم- ليس رسالة جامعية ولا مذكرات، بل وثيقة رسمية صادرة عن مسؤول كبير في الحكومة الإسرائيلية في تلك الفترة. ومع أن محتويات الملف أُفصح عنها شفويا، فإننا نعلم في نهاية الفيلم أنه يظل مغلقا ومحظورا حتى اليوم، فإسرائيل تخشى أن تواجه جرائمها.

ومع ما يبدو ظاهريا من غلبة فكرة التوازن أو الموازنة بين شهادات الطرفين، لكي يصبح ممكنا تمرير الفيلم، فإن الصمت الإسرائيلي الرسمي إزاء الجرائم القديمة والحديثة وتبريرها، ورفض الكشف عن الوثائق التي تفضحها، يجعل الفيلم وثيقة إدانة مصورة قوية ضد الاحتلال.

وهذه الصور الحية التي تنتمي إلى 1948 تحديدا، هي التي تجعله من أقوى وأفضل الوثائقيات التي صنعت عن تلك الفترة، ولذلك فقد غضبت القوى اليمينية المتشددة على الفيلم، وطالبت بحظر عرضه داخل إسرائيل.


إعلان