“احكي يا عصفورة”.. نساء المقاومة الفلسطينية يكتبن التاريخ ويحلمن بالعودة

عاد الصغير من المدرسة إلى بيته غاضبا، سأل أمه “هل أنتِ سارقة؟” تعجبت الأم من كلام صغيرها، فسألته عما حدث فقال “أخبرتني المعلمات أنكِ خاطفة طائرات. أليس عيبا عليكِ!”.

ظن الصغير أن أمه سرقت ألعاب طائرات، لذلك فهو غاضب منها، ضحكت الأم عاليا وشرحت لصغيرها حقيقة الحكاية “هذه طائرات إسرائيلية، ألسنا نحارب إسرائيل؟”.

هز الصغير رأسه، لكن كلام أمه لم يمنعه من أن يسألها مجددا عن الطائرات: “أين هم؟”. فهو يريد أن يلعب بالطائرات التي خطفتها أمه، وما زال يحمل براءة ودهشة تجاه العالم، فهو لم يعرف أن أمه هي المقاتلة الفلسطينية ليلى خالد التي اختطفت طائرة إسرائيلية عام 1969 وأخرى عام 1970.

اختارت المخرجة عرب لطفي اسما رقيقا لفيلمها الوثائقي “احكي يا عصفورة”، حيث تحكي نساء المقاومة الفلسطينية ليلى خالد وتيريز هلسا وعائشة عودة ورشيدة عبيدة ورسمية عودة ووداد قمري وأمينة دحبور، حكاياتهن مع المقاومة، وحركة البطلات المغامرات اللواتي شاركن في عمليات مقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الستينيات والسبعينيات.

“فكرة العودة إلى فلسطين حية، وإذا ماتت هذه الفكرة أو اندثرت من جيل إلى جيل معناه مفيش إمكانية أساسا لفكرة العودة”

ليلى خالد

وقد التقت المخرجة بالمقاتلات بعد قرابة 20 عاما من أعمالهن البطولية، سنوات طوال تغيرت فيها حياتهن وأصبحت المقاومة صفحة من إنجازات الماضي. وعلى مدار ساعة ونصف حكين ما حدث، في مشاهد تستدعي مزيجا من الفخر والغصة، فخر المقاومة وغصة الوطن الجريح.

ما بعد هزيمة 67.. مقاوِمات يصنعن واقعا جديدا

يسرد الفيلم في خيط منتظم زمنيا حكايات المقاوِمات الفلسطينيات اللاتي شاركن في عمليات مقاومة خطيرة ضد الاحتلال، ويبدأ الخيط منذ الميلاد وحتى اللحظة الحالية، ومحطات الحكي هي الأحداث الفارقة في تاريخ المقاومة، كلحظة الميلاد، والتهجير، وهزيمة 67، والانضمام إلى المقاومة، وتنفيذ العمليات، والسجن، ثم السؤال الذي يتأرجح في العقل بقوة: لماذا المقاومة؟ ولماذا النساء؟

ليلى خالد.. بين جيل النضال بالسلاح والنضال بالكلمة

والإجابة على السؤال شائكة ومعقدة لكنها في الوقت نفسه بديهية، فالأمر ليس طيشا أو حماسة زائدة، بل هو عقيدة كبرى لأصحاب الأرض، ورد فعل طبيعي للطريقة التي ينظر بها الفلسطينيون لعدوهم ووطنهم، وهو حال كل مناضل في كل وطن.

في بداية الفيلم، لا تحكي ليلى خالد عن نفسها، بل عن المظاهرات التي شاركت فيها منذ طفولتها، دعما لمناضلي العالم أمثال جميلة بوحيرد وجميلة بو باشا و”باتريس لومومبا”. فالتضامن مع المقاومة، لا يحتاج أن تنتمي لها قوميا أو عرقيا، بل يكفي أن تعرف أن هناك مثلك من يدافع عن وطنه البعيد، وربما لن تراه ولن يراك، لكنه يفعل الشيء ذاته الذي تفعله: يقاوم.

نساء الحرب.. ضربة تعيد قضية فلسطين إلى الواجهة

ما أحدثته عمليات المقاومة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات أنها لفتت أنظار العالم لوجود المقاومة، والفعل في ذاته هو إثبات وجود وإثبات موقف. وتحكي أمينة دحبور أن العالم تفاجأ بما فعلناه، وانتبه إلى أن هناك شيئا اسمه فلسطين وقضية فلسطينية.

فقد اعتدنا أن نسمع من النساء حكاياتهن في صنع الخبز، وتربية الأبناء، والدعم الخفي للرجال في وقت الحرب، لكن بطلات الفيلم لم يكنّ في خلفية الأحداث الدرامية الكبرى، بل كنّ مؤثرات اخترن بكامل إرادتهن أن يصنعن فرقا، ويحققن نصرا ولو صغيرا، انتقاما من عدو قيل إنه لا يُقهر.

المناضلة تيريز هلسا وهي على سرير الشفاء بعد وقوعها في الأسر

وليس أمرا مستحدثا أن تشارك النساء في الحروب مع الرجال، ففي كتاب “ليس للحرب وجه أنثوي”، تؤرخ الكاتبة البيلاروسية “سفيتلانا أليكسييفيتش” مشاركة النساء في الحروب أول مرة في التاريخ في القرن الرابع قبل الميلاد في الجيش اليوناني بأثينا وإسبارطة، وبعدها غزوات الإسكندر المقدوني، وفي حصار القسطنطينية، وفي الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. فتقول “كان يحارب في الجيش السوفياتي نحو مليون امرأة، وكن يتقنَّ جميع الاختصاصات العسكرية”. لكننا على الأغلب لم نسمع كل حكايات نساء الحرب.

ولم تخض نساء المقاومة معارك كبرى، بل كانت أفعالهن مثل أفعال المقاومة الفلسطينية وقتها، محاولات فردية ومبعثرة للانتقام من المحتل.

العودة إلى حيفا.. حلم مزقته هزيمة العرب المدوية

لا تذكر ليلى خالد الكثير عن طفولتها في فلسطين، فما طبع في ذاكرتها هو مشهد تهجيرها هي وأسرتها من وطنها الكبير، لذا فقد تعلمت الدرس مبكرا؛ أن فلسطين أرضُها، وأن أي أرض أخرى لا تخصها ولا يحق لها حتى أن تقطف منها ثمار البرتقال. وهكذا تربى الأطفال الفلسطينيون على حلم الوطن والأمل في نصره.

ليلى خالد.. السلاح طريق التحرير

وتتذكر ليلى الأمل الذي حركها وحرك الملايين عند بدء حرب 1967، فكانت ليلى تطرز قطعة كانافا (مطرزة)، فاستعجلت في التطريز لتنتهي منها سريعا وتأخذها معها وتعود بها إلى حيفا بعد انتصار العرب في الحرب، فقد كان الأمل في قلبها كبيرا، لدرجة أنها باتت على يقين من العودة إلى بيتها ووطنها، لكن هزيمة الحرب كانت أسرع من تطريز الكانافا، وقد تهدم الحلم والأمل، وسريعا بُني مكانه يأس جديد.

وتتصاعد الرحلة الدرامية في الفيلم، وتبدأ كل بطلة خوض رحلتها من نفس النقطة تحديدا، وهي هزيمة 67 التي ظنوها نصرا، فاستحالت هزيمة نكراء حركت بداخلهن الرغبة في صناعة الحدث، فتحول العادي إلى بطل، والصامت إلى متكلم، والساكن إلى كتلة من الغضب، فهي تريد فقط أن تعبر عن وجودها المشتعل.

“ما من وضع مستقر هنا على أرض فلسطين”

وتسأل المخرجة عرب لطفي المقاتلة عائشة عودة هل تستطيع قتل شخص أمامها وجها لوجه؟ فهزت رأسها “لا أقدر” يأتي سؤالها واضحا وكاشفا الكثير عن نفسية هذه المقاتلة التي اعتُقلت وسجنت في سجون الاحتلال، فهي لا تقتل، لا تنتقم بوحشية، وإنما تحدث هزة على الأرض المستقرة، لتلفت الانتباه لقضيتها، ولتقول إنه ما من وضع مستقر هنا على أرض فلسطين المحتلة.

عائشة عودة.. فدائية ما زالت تكتب وتحلم بالحرية

ويسرد فيلم “احكي يا عصفورة” حكايات المقاومات الفلسطينيات بعيونهن، فيمنحهن صوتا يؤرخ سيرة مشاعرهن التي تحركت صوب الوطن. فعندما اهتزت الأخبار والصحف بعملياتهن الخطيرة، لم نعرف منهن الحكاية، ولم نسمع أصواتهن، بل غرق الجميع في الفرح لهن والخوف عليهن.

أما مونتاج الفيلم، فهو أداة أخرى لسرد الحكاية بنظم زمني متصل لا يفصل الحكايات المختلفة بل يكملها، فكل حكاية لكل مقاتلة هي حلقة متصلة من الحكاية الكبرى لمقاومة النساء، وتتبع الخطوات التي أدت بهن إلى ما حدث.

عمليات المقاومة.. أنين وطن يأبى أن يموت

يدفعنا الفيلم إلى التفكير في تأثير الحكي واستدعاء الذاكرة على قراءة المشهد الفلسطيني على امتداده منذ النكبة وحتى الآن، فهو سيناريو متصل لم يكتمل، والحكايات كثيرة، والأكيد فيها أننا لم نسمع منها سوى القليل. فهل نحكي لنغرق في مشاعر الماضي؟ أم نحكي لنقرأ الماضي ونأمل بمستقبل أفضل؟

المخرجة عرب لطفي

هكذا تلتقط السينما خيوط الحكايات، لتنظم حكاية جديدة وتمنح كل مشاهد مساحة داخلية خاصة يؤول بها مسارات اليأس أو الأمل، فلم تحرر عمليات المقاومة الوطن، ولم تردع العدو عن غشامته، لكنها ظلت تقول إن الوطن موجود، والرغبة في المقاومة تولد من جديد ولا تموت.

فكل مقاتلة هي صوت فردي في حكايتها، ولكن تناغم أصواتهن على امتداد الفيلم خلق لحنا مختلفا، كاشفا عن قوة امرأة رغبت يوما أن تكون مؤثرة، مهما كلفها من ثمن.

“فمهما تكن تلاوين القول، فإن الفلسطيني يعلم معنى البيت والإقامة الثابتة ووظيفة الحرب”

غسان كنفاني

أيام السجن.. ذكريات الصمود في وجه الاحتلال

تحمل أجساد المقاومات حكايات معلنة وأخرى سرية لم يكشفن عنها، بل يرفضن حتى التحليق حولها، فتحكي المناضلة رسمية عودة حكايتها مع التعذيب، وعن تلك المجندة الإسرائيلية التي ظنت أنها ستكون رحيمة بها، فوجدتها وحشا مفترسا أشد شراسة من الرجال، وتكتم رسمية الذكرى، لكنها تتذكر زيارة أمها وأختها لها بعد ثلاثة أسابيع من التعذيب، فلا تسألها أختها عن صحتها وعن حالها، بل “هل أخذوا شرفك؟”

هل هذا هو كل ما يهم في الحكاية المخفية؟ وهل للحرب أصلا أي شرف؟ وبصمود تجيبها رسمية أن شرفها هو وطنها، وهي لا تفرط في شرفها كما لا تفرط في وطنها.

والكثير من حكايات السجن والتعذيب لن تؤرخها كتب التاريخ، بل تحفظها الأجساد وغرف السجن المغلقة، وكل حكاية تأخذ طريقا مختلفا في الحكي، والكثير مما لا يُحكى كاشف لبشاعة ما حدث.

وهكذا، فقد خرجت المقاتلات من دائرة البطولة إلى دائرة السجن، ثم إلى الحرية، في رحلة ممتدة تصل بهن إلى حياة مستقرة نسبيا، لكنها بعيدة عن الوطن.

“فكرة العودة إلى فلسطين حية”.. إرث الأجيال

“فكرة العودة إلى فلسطين حية، وإذا ماتت هذه الفكرة أو اندثرت من جيل إلى جيل معناه مفيش إمكانية أساسا لفكرة العودة”. ليلى خالد

بعد كل الزوبعات والمقاومات والانفلات من قبضات المحتل، استقرت الأجساد في موقعها على الخريطة، واختلفت مصائر المقاومات، لكن صفحة الماضي ما زالت حاضرة بقوة في ذاكرتهن الحالية، فهي قوية لدرجة أنها تخلق مساراتهن المستقبلية، ولا تزال ترسم الطريق لحلمهن الكبير؛ حلم العودة.

فدائيات فلسطينيات يجمعهن الزمان في بيت إحداهن في لبنان

ويُختم الفيلم بالخيوط كلها، فتجتمع المقاتلات في بيت واحد، يجلسن على نفس الطاولة ويتبادلن أحاديث خاصة لا نسمعها، بينما الأطفال الصغار -أبناؤهن- يجرون حولهن في كل مكان، فيمتزج الجيلان والحلمان معا. وأما الموسيقى التي صاحبتنا على مدار الفيلم، فتضع كلمات النهاية وتخلق ختاما مثاليا شكَّل -بصريا وحسيا- عودة ما.


إعلان