“الهولوكوست المنسي”.. عالَم يحاكم قتلة المحرقة ويتجاهل الإبادة الفلسطينية

أحيانًا يمكن أن نسمع وصفًا أو تعليقا، فيصبح أدقَّ الكلمات التي يمكن الاعتماد عليها فيما بعد لوصف أشياء مختلفة؛ فمثلا جاء في كتاب “قصة تجاربي مع الحقيقة” الذي تناول السيرة الذاتية لـ”المهاتما غاندي”، تعليق يقول إن “الأجيال القادمة لن تصدق أن مثل هذا الرجل بشحمه ولحمه، قد مشى على هذه الأرض، أو أن ما حدث لبلده وقتها قد حدث على الأرض أساسًا”، فكان ذلك مثاليًا لوصف الحالة التي قابل بها الرجل كل العدوان غير المبرر الذي حدث معه ومع الهند من قبل الاستعمار البريطاني.

وربما يبدو الوصف ذاته مناسبا جدا لأحداث شبيهة أخرى، مثلما حدث أثناء حكم “أدولف هتلر” لألمانيا ضد اليهود في “الهولوكوست اليهودي”، أو حتى التي يفتعلها يهود صهاينة آخرين داخل فلسطين المحتلة في “الهولوكوست الفلسطيني” الذي نعيشه هذه الأيام، وربما يجعل النظرُ في تلك الأحداث أيضًا الأجيالَ القادمة لا تصدق أن مثل هذا قد حدث على الأرض، حتى إذا كنّا نراه أمام أعيننا، قد لا نصدق أن هؤلاء الرجال بشحمهم ولحمهم قد مشوا معنا على نفس الأرض واحتملوا كل ذلك أمام صمت العالم.

على سبيل المثال نشاهد أحداثا صادمة تماما، من خلال حكاية الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود بسبب “هتلر”، في هذا الفيلم الوثائقي “رجال عاديون.. الهولوكوست المنسي” (Ordinary Men: The Forgotten Holocaust) الذي نتناوله تحليليا في هذا المقال، وقد أخرجه “مانفيرد أولدنبيرج” و”أوليفر هامبورغ”، وهو مقتبس عن أحداث حقيقية، ويستند جزئيا إلى كتاب “الرجال العاديين: كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 والحل النهائي”، للمؤرخ “كريستوفر براونينغ”.

يتساءل الفيلم ما الذي أحدث تلك الإبادة، وكيف كان تأثيرها وخسائرها على اليهود آنذاك، وسط صمت وخوف عالمي، كما يحاول الفيلم إلقاء النظر على الهولوكوست بالإجابة على سؤال أكثر عمقا للقصة: كيف لآلاف من الأشخاص العاديين أن يشاركوا بإرادتهم في سلسلة من الإبادات الجماعية الممنهجة؟ وإلى أي مدى تحمّل اليهود آنذاك مساعي الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها؟

نسعى في هذا المقال لتحقيق هدفين متوازيين، سيأخذ القسم الأول الإشارة إلى الفيلم وفنياته معتمدا على الخطاب الذي يدين الألمان في المأساة التي تسببوا فيها، وفهم سياقاتها المختلفة، ثم نعيد التساؤل بشكل عكسي في حالة فلسطين اليوم، سنلقي نظرة على تاريخ الإبادة الجماعية التي تريدها إسرائيل لفلسطين، ونتساءل من خلالها أيضا عن الأهداف والنتائج.

نلجأ لذلك لأننا صرنا نرى كل شهر تقريبا -حتى بعد مرور عشرات السنوات- إنتاجا ثقافيا مكتوبا ومصورا لا يتوقف، يدرس مأساة الإبادة اليهودية، بينما يصل التعتيم العالمي المتعمّد للحديث عن فلسطين إلى جعلنا نعتمد قياسيا على أعمال فنية وقضايا مماثلة، يمكن الحديث من خلالها عن ما يحدث من مجازر يومية في فلسطين، تكاد تتجاوز ما تعرّض له اليهود.

الكتيبة 101.. أوامر بتصفية آلاف اليهود البولنديين

يعتمد فيلم “أناس عاديون” على عدد من المقابلات مع المتخصصين الذين يفسرون الوثائق التاريخية لتقديم خطاب مدروس بدقة وبشكل موضوعي، إذ يحاول في كل مشهد أن يورّط المشاهد في الشعور بالذنب الجماعي، لإدانة تلك الجرائم المتوحشة، بالاعتماد على اللقطات الأرشيفية والشهادات الشخصية التي تزيد تأثير الفيلم العاطفي.

ومع أن الفيلم في بعض الأحيان يبدو مزعجًا من شدة قسوته، فإنه يظل وثيقة لأقسى المنعطفات في تاريخ الإنسانية، ضمن الرؤية ما بعد الحداثية، كما يعد خطابه دعوة عاجلة إلى التفكير في مدى احتمالية أن يعيد التاريخ نفسه في نماذج أخرى، يبدو أنها تحققت في السياق الفلسطيني الحالي.

ويعتمد الفيلم على سردية تحليل طويلة لمحاكمة الكتيبة 101 في عهد “هتلر”، وكانت قد تلقت أوامر بالتخلص من آلاف اليهود البولنديين وقتها، وكان يمكن لرجال تلك الكتيبة رفض أوامر الإبادة، أولا لأنهم لم يكونوا عسكريين تماما، بل يعملون في مهن عادية، كما لم يكن رفضها يجعلهم تحت وطأة القانون، لكنهم مع ذلك قرر أغلبهم تنفيذ الإبادة.

مشهد تمثيلي لمجموعة من الجنود الذين يمثلون الكتيبة 101

فعندما يخبر قائد الكتيبة رجاله لأول مرة في يوليو 1942 أنهم سيقتلون اليهود العزّل، يقول: “إذا كان أي من الجنود لا يشعر بالقدرة على القيام بذلك، فليس عليه المشاركة”. يخرج رجل واحد، ثم بعد ذلك يحذو حذوه حوالي 12 شخصا فقط من كل الكتيبة، مما يعني أن هؤلاء فقط من كتيبة قوامها 400-500 رجل يرفضون الأمر بالقتل. لم يحدث أي شيء لأعضاء الكتيبة لاحقا، باستثناء تكليفهم بوظائف مثل تنظيف المراحيض وإخضاعهم للشتائم، مثل وصفهم بأنهم مخنثون وجبناء وعار على الجنس المنتصر.

سجلات الحرب.. أدلة أكبر قضية عقاب جماعي في التاريخ

ينقل أحد الخبراء عن إحدى الشهادات أمام المحكمة وقتها، أنه بحسب خطط الألمان تفرقت خطط التخلص من اليهود في كل بلد، ولم تتوقف على يهود بولندا الذي تعرض لهم الفيلم فقط، فقد “كان يجب أن يموت 30 مليون سوفياتي من أجل توفير مساحة للعيش، إلى جانب غيرهم. إن نسب ضحايا الهولوكوست الألماني على اليهود عموما تصل إلى ثلاثة ملايين تخلصوا منهم في المعسكرات، حوالي مليون منهم ماتوا من ظروف العيش السيئة، ومليونان آخران قتلوهم رميا بالرصاص”.

وبالرجوع إلى السجلات العسكرية الألمانية بعد الحرب، وتجميع حوالي مليون ضحية يقرر المحامي “بنيامين فيرنش” -الذي يعتمد الفيلم عليه بشكل كبير- إثبات تلك الجرائم على كل من شارك في تلك الإبادة، لتصبح هذه هي أول قضية له في المحاماة، وأكبر قضية عقاب جماعي في التاريخ لمحاكمة قتل مليون شخص.

فبعد الحرب يريد الألمان أن ينسوا تورط 60 ألف شرطي في إطلاق نار جماعي، ويحقق القضاء مع 172 ألف فرد عادي، بسبب التورط في تلك الجرائم.

“قتلتُ الأطفال لأنهم سيصبحون خطرا على ألمانيا”

تظهر بعض المشاهد القاسية في الفيلم مقترحات بضرب الأطفال بجذوع الشجر حتى الموت توفيرا للرصاص، فالأغلبية في ذلك الوقت “لم يروا أن اليهود بشر أساسا”. يقول بعضهم أثناء المحاكمة: “قتلتُ الأطفال لأنهم سيصبحون خطرا على ألمانيا في المستقبل”. لذلك كانت الملاحظة الأولى في تعمد قتل الأطفال الذين يمثلون خطرا كبيرا على البلاد فيما بعد.

كان الفيلم على المستوى البصري يحتاج إلى زيادة المادة المصّورة التي ظهرت فقيرة نوعا ما، لتتناسب مع اعتماده على تسجيلات أرشيفية، اضطر إلى حجب بعضها عن المشاهد بسبب قسوتها، ليستبدلها بالحديث عنها كلاميا، كما أنه لم يهتم كثيرا بشريط الصوت الذي بات غير ملفت للنظر على الإطلاق.

بعض من الجنود الذين رفضوا قتل اليهود وباتوا يطبخون ويغسلون للبقية

أما النقطة الأكثر ذكاء في الفيلم، فقد تجسدت في تحليل الخطاب المزعوم لبعض من شاركوا في الإبادة، بوصفهم ضحايا مزدوجة، وأنهم تلقوا الأوامر ونفذوها دون إرادة، وقد سعى الفيلم لدحض تلك الفكرة الحمقاء التي تجعل البشر ترسا لا يملكون أي قرار تجاه مأساة بشرية قاسية، وربما تلك النقطة تحديدا هي التي تدفع إلى استمرار الحديث عن الهولوكوست للتذكير بعدم تكراره، وهي مرحلة التحول التي تجعلنا ننتقل لنتحدث عن السياق الحديث للمأساة ذاتها في حالة فلسطين.

انتقام اليهود.. مظلومية تُمسح بدماء الأبرياء بدعم غربي

في دراسة “إعادة إنتاج المظلومية” التي كتبها “زغمونت باومان”، وترجمها ياسين الحاج صالح، يقول الكاتب: يمكن لوارث المظلومية أن يوجه النقمة على ظلم قديم لإيقاع ظلم جديد، يُرتكَب هذه المرة من أجل محو ضعف موروث، إنها لحقيقة مبتذلة أن العنف يولّد العنف، ولأنها لا تقال كفاية فإنها أقل ابتذالا من الحقيقة القائلة بأن المظلومية تولّد المظلومية، وأنه ليس مضمونا أن يكون الضحايا أرفع أخلاقيا من الظالمين، وهم قلما يخرجون ما وقع عليهم من ظلم بأخلاقية أرفع.

وربما يصلح ذلك التحليل للواقع الذي بات عليه كثير من يهود العالم، بعد ما حدث لهم، وربما لا تخطئه العين في الحالة الفلسطينية التي أعادوا عليها إنتاج مظلوميتهم من المأساة التي أصابتهم.

بعد سنوات من محاولة تعويض اليهود عن ما فعلته أوروبا في عهد “هتلر” تحديدا، ربما كانت الهدية التي ساعدت في تقديمها لهم، هي إضفاء الشرعية غير المستحقة، بتوجيههم إلى فلسطين، وتقديمها وطنا مزعوما، تعويضا عن الشتات والتعذيب الذي لاقاه هؤلاء، بينما استغل البعض ذلك في محاولة السيطرة والإبادة للشعب الفلسطيني، التي استمرت هذا المرة أكثر من 75 عاما حتى الآن.

في كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” للباحث “إيلان بابيه” وترجمة أحمد خليفة، يقول الكاتب إن الإبادة تعد سياسة محددة جدا لمجموعة من الأشخاص، تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى من أراض معينة، على أساس ديني أو عرقي أو قومي، وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالبا ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، وتنفذ بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان والمجتمع الدولي.

قائد الكتيبة 101 أثناء تلقي أوامر التخلص من اليهود في منطقته

ويتحدث عن أهداف المجازر قائلا إن ذلك يحدث في سياق إضفاء شرعية على أعمال المعاقبة والانتقام، مثلما كانت الخطة الإسرائيلية “دالِت” في 1948، ومنه كان القرار أن يتحول البلد إلى طرد جماعة من الناس وتحويلهم إلى لاجئين، وهدم بيوتهم التي أجلوا عنها، فلا بد من ارتكاب مجازر لتسريع تلك العملية، وهو تحديدا ما حدث وقت النكبة الأولى في فلسطين.

جرائم الحرب.. تهمة يعاقب مرتكبوها إلا في فلسطين

تعد الإبادة التي حدثت خلال النكبة جريمة ضد الإنسانية، وفق التصنيف في المعاهدة التي قامت على أساسها المحكمة الجنائية الدولية، وسواء كانت مزعومة أم كان معترفا بها، فإنها يتحاكم إليها، كما حدث في لاهاي حول مجرمي الحرب في يوغوسلافيا، وحدث في حالة رواندا أيضا، فقد وُضعت محكمة لمحاسبة مجرمي الحرب، وحتى مع ألمانيا وما فعلوه في اليهود، كما يتناول فيلم أناس عاديون وعشرات الأفلام غيره، لكنه لم يحدث قط فيما يخص فلسطين، بإدانة يهود إسرائيل.

على سبيل المثال، فإن الصهيوني “شمعون أفيدان” أباد عشرات المدن والقرى داخل فلسطين، حتى أن مساعده “يتسحاق بونداك” تحدث إلى صحيفة “هآرتس” في عام 2004 قائلا: في الجبهة الفلسطينية أشياء أزيلت من الوجود، كان لا بد من تدميرها، وإلّا لكان بقي لدينا هنا في الجزء الجنوبي من فلسطين عرب مثلما يوجد في الجليل، مما يعني وجود مليون فلسطيني آخر.

هذه تصريحات معترف بها وفق الباحث الإسرائيلي، ولا يدان عليها أحد، بل يكرم من أشرف على تلك الأعمال وغيرها، فمثلا “إيسر هرئيل” الذي صار أول رئيس للموساد فيما بعد، لم يتجاهل الجميع محاكمته فقط، بل أُعطي أوسمة وتكريمات من أجل ما فعله من مجازر.

صورة أرشيفية لإحدى عمليات الإعدام الجماعي التي تمت للقضاء على اليهود

برزت الصهيونيةُ في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر حركةَ إحياء للضغط على اليهود، إما الاندماج معهم أو استمرار تعرضهم للاضطهاد، وكان الصهاينة يرون فلسطين أرض ميعاد خالية من البشر، وكان الفلسطينيون بالنسبة لهم كائنات غير مرئية، بينما كان الهولوكوست اليهودي هو الذي أخلى الأجواء لليهود، ونزع يد بريطانيا ووصايتها عنها، لأنها ربما لم تكن تهتم أو مستعدة للتصدي إلى ثورة اليهود المتوقعة.

دعوات الإبادة.. أحاديث علنية عن التطهير العرقي

بدأت دعوات الإبادة الجماعية مع دعوة بعض الأحزاب الإسرائيلية في الداخل، إلى مشكلة الميزان الديمغرافي، إما بالتخلي عن مناطق تسيطر عليها إسرائيل بشكل غير شرعي، وإما بتقليص المجموعة السكانية، وكانت المجموعة السكانية العقبة الأكبر، لذلك كانت الفكرة في طرد الفقراء بشكل غير ملحوظ، وتوفير أعمال لهم في دول أخرى بعيدا عن فلسطين.

وكان الجميع يقر أنه لن تكون هناك دولة يهودية مستقرة، إلا إذا تخطت الأغلبية اليهودية في الداخل نسبة 60%، وقد أدى ذلك إلى إنقاص الفلسطينيين إلى نسبة 20% في الداخل، وفيما بعد جاء “بنيامين نتنياهو” ليقول بشكل أكثر صرامة، إذا صار العرب موجودين بنسبة 40%، فإن هذه نهاية الدولة اليهودية، لكن نسبة 20% أيضا هي مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهم إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء إلى إجراءات متطرفة.

والآن باتت إسرائيل تتحدث بوضوح عن إبادة عرقية لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، بينما الأقطار الغربية والعربية تنخرط في مؤامرة الصمت المخزي.

في الفيلم الوثائقي، يقول المدعي العام للجيش الأمريكي في محاكمات جرائم الحرب، عن أحد المتهمين الألمان، إنه “نفذ ما كان يرى أنه في مصلحة بلاده، لكن هذه ليست حجة مفادها أنه ينبغي السماح للإنسان العادي بأن يصبح حرا، لذلك علينا معاقبته”. وربما بات على العالم أن يحاكم اليهود الذين قتلوا الفلسطينيون دون حق، كما استغل قوته لمحاكمة من شاركوا في محاكمة من قتل اليهود دون حق أيضا.