مملكة هوليود السينمائية.. دولة اليهود العظمى في أرض الأحلام
تزامنت بدايات ظهور السينما في العالم مع حركة الهجرة الموسعة للجماعات اليهودية إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان من الطبيعي أن تلتحق أعداد كبيرة من اليهود بصناعة السينما الأمريكية منذ ظهورها في الولايات المتحدة، أولا نتيجة أن الحالة الاجتماعية لليهود المهاجرين لم تكن تسمح لهم بممارسة مهن رفيعة تتطلب استثمارات مالية ضخمة، إلى جانب الخلفية الاجتماعية المناسبة.
فقد كان معظمهم من الفقراء الذين حملوا أمتعتهم القليلة، مع بعض المدخرات المحدودة التي تسمح لهم بالإنفاق على أسرهم المتعددة الأفراد التي هاجرت بكامل عددها، كما لم تكن تتوفر لديهم أي خبرة في مجال الزراعة بسبب عزلتهم التاريخية عن الأرض، وحياتهم عقودا طويلة في “الغيتو” على هامش حياة المدينة.
والعامل الثاني هو اعتياد اليهود على التعامل بالمال السائل مباشرة، بعيدا عن القيود التي تفرضها عمليات الاستثمار الطويل الأجل، وما تتطلبه من أرقام مالية كبيرة لم تكن متوفرة في أيدي اليهود في ذلك الوقت، إلى جانب أن هذا النوع من المشروعات سوف يفرض عليهم التعامل مع أناس غرباء من “الأغيار”، لا علاقة لهم بتقاليد الحياة في “الغيتو” القديم، ولا يمكن لليهود أن يثقوا بهم.
ويتمثل العامل الثالث في الرغبة الشديدة لدى اليهود في إثبات نجاحهم وانتمائهم للمجتمع الجديد الذي لا يستوعب سوى الناجحين، بالمفهوم التجاري السلعي السائد، وهو ما دفع كثيرين منهم إلى اقتحام عالم صناعة السينما الوليدة، والبدء من أسهل الطرق وأكثرها بعدا عن المغامرة، حين كانت هذه الصناعة “بكرا” لم يلتحق بها كثير من “الأغيار” (أي غير اليهود) بعد.
شركات هوليود الكبرى.. مجال بكر يفيض بالذهب
منذ البداية إذن، امتلأت هوليود باليهود الراغبين في الانتماء إلى المجتمع الجديد، وإلى اختراعه التجاري السحري الذي ثبت أنه يدر ذهبا. ولا غرو في أن تكون أهم الأسماء في مجال الإنتاج السينمائي وإدارة الأستوديوهات من اليهود، وهناك قائمة طويلة من هؤلاء، مثل “ديفيد سلزنيك” و”صمويل غولدوين” و”نيكولاس شنيك” و”لويس ب. ماير” و”إرفنغ ثالبرغ” و”هاري كوهين” و”كارل لامل” و”جيسي لاسكي” و”وليام فوكس” و”بد شولبرغ” و”جاك وارنر”.
وكان هؤلاء هم الذين أسسوا شركات هوليود الكبرى، وفي المجال الفني -التمثيل والاستعراض- أقبل اليهود أكثر من غيرهم على الفن الجديد، لأسباب تعود إلى نشاطهم القديم في “الغيتو”، وفي المسرح اليديشي بوجه خاص، إلى جانب أن العمل في السينما لم يكن يتطلب أكثر من الموهبة البسيطة، دون حاجة لشهادات ومؤهلات، فتلك لم تكن متوفرة عند اليهود من أبناء المهاجرين وقتها.
وقد برزت من البداية في مجال التمثيل والاستعراض أسماء مثل “آل جولسون” و”الأخوان ماركس” و”إيدي كانتور” و”صوفي تاكر” و”إرفنغ برلين” و”فاني برايس” و”بن بلو” و”جاك بني” و”جورج سيدني” و”ميلتون بيرل” و”تيد لويس” و”بيني فيلدز” وكثيرون غيرهم.
تغيير الأسماء والديانة.. خطة الذوبان في المجتمع الأمريكي
كان اليهود يرغبون بالاندماج في طريقة الحياة بالمجتمع الجديد في الولايات المتحدة، لذا كان من الطبيعي أن يغير كثير منهم أسماءهم، وأحيانا ديانتهم، لكي يتخلصوا من “أجنبيتهم”، ويتجنبوا إثارة انتباه الآخرين إلى هوياتهم التي جرت لهم الأذى والاضطهاد من قبل، كذلك كانت فائدة الأسماء الجديدة أن تجعلهم أكثر قابلية لدى الجمهور الأمريكي العام (المسيحي في معظمه).
ولا شك أن اتساع نطاق الوجود اليهودي في هوليود منذ بداياتها، لعب دورا كبيرا في ظهور أفلام كثيرة عن الشخصيات اليهودية، أو عن الأساطير اليهودية، وقد اعتمد بعض هذه الأفلام على قصص “التوراة”، وفي الفترة ما بين 1900-1929 فقط ظهر 230 فيلما تُصوّر شخصيات يهودية بشكل واضح، وهو عدد يفوق عدد الأفلام التي ظهرت عن أي أقلية أخرى.
ولم تكن النماذج اليهودية التي ظهرت في هذه الأفلام تقتصر على الشخصيات الثانوية أو الأدوار الفرعية، فقد أنتجت هوليود خلال سنواتها الأولى ثلاثة أفلام عن شخصية واحدة هي شخصية “دزرائيلي”، وهو المؤسس الحقيقي لحزب المحافظين البريطاني الحديث، وكان أبوه قد اعتنق المسيحية، ثم عمده في الكنيسة عام 1817، وهو ما أتاح له الفرصة لكي ينتخب عضوا في البرلمان عام 1837، ثم رئيسا للوزراء فيما بعد، وإن كان “دزرائيلي” قد ظل مخلصا ليهوديته طوال حياته.
“مصنع الأحلام”.. سياسة تهتم بأرقام الحسابات المصرفية
في عصر السينما الصامتة، أنتجت هوليود أفلاما عدة عن قصص التوراة، من بينها “بن حور” (Ben Hur) الذي أخرجه “ف. و. روس” عام 1907، ثم أعيد إنتاجه عام 1927 من إخراج “ف. نيبلو”، و”سفينة نوح” (Noah’s Ark) الذي أخرجه “مايكل كورتيز” عام 1928، و”ملكة سبأ” (Queen of Sheba) الذي أخرجه “ج. إدواردز” عام 1921، و”الوصايا العشر” (The Ten Commandments) الذي أخرجه “سيسل ب. دي ميل” عام 1923.
أما أهمها فهو الفيلم الذي أخرجه رائد السينما الأمريكية “ديفيد وارك غريفيث” عام 1913 بعنوان “جوديث من بيتوليا” (Judith of Bethulia)، وهو يروي قصة اليهودية الحسناء “جوديث” التي أنقذت اليهود من الموت أو الاستسلام للقائد الآشوري “هولفيرون” الذي أرسله “نبوخذ نصر” لإخضاع “بيتوليا” معقل اليهود، بعد أن أغوته ثم ذبحته. لكن الهدف من هذه الأفلام لم يكن دينيا أو تاريخيا، بل كان ينحصر في تقديم مشاهد الفرجة المبهرة ومناظر الإغواء المثيرة.
كانت تلك الأفلام تخضع أساسا لسياسة “مصنع الأحلام” الهوليودي، أكثر من خضوعها لأي فكرة سياسية أو موقف أيديولوجي، فقد كان اهتمام اليهود من صناع السينما في ذلك الوقت يتركز أساسا على أرقام حساباتهم في البنوك.
والملاحظ أن الأفلام عن اليهود والشخصيات اليهودية انحسرت كثيرا في هوليود خلال الثلاثينيات، مع أنهم كانت لديهم سيطرة كاملة تقريبا على شركات هوليود، بل وصل الأمر إلى درجة رفض مديري شركات الإنتاج اليهود تشغيل الممثلين اليهود، فقد كانت الرغبة في الاندماج قوية لدى هؤلاء، لدرجة إنكار الهوية الأصلية أو التنكر لها.
“العداء للسامية”.. خشية من كساد السوق الألماني
تعود أسباب حذر هوليود تجاه اليهود في تلك الفترة إلى تصاعد نبرة الحديث عن نقاء العنصر في الدعاية النازية، وتردي الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة والعالم، بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى التي كانت قد بدأت في عام 1929، وما قد ينتج عنها من ردود فعل عدائية من جانب الأمريكيين تجاه الأقليات، وفي مقدمتها الأقلية اليهودية، بسبب بروز حجم احتكاراتها المالية، ولا سيما في هوليود.
كان منتجو الأفلام اليهود في هوليود يخشون أيضا ردود فعل الألمان، في حالة تناول أفلامهم للشخصيات اليهودية أو لموضوع “العداء للسامية”، فقد كانت السوق الألمانية في تلك الفترة (أي بعد ازدهار الفيلم الناطق) من أهم أسواق الأفلام الأمريكية.
ولعل مما يؤيد هذا التصور فيلم “حياة إميل زولا” (The Life of Emile Zola) الذي أخرجه “وليم ديتريل” عام 1937، فهذا الفيلم لم تذكر فيه كلمة يهودي ولا مرة واحدة، وهو يتناول موقف “زولا” مما عرف في فرنسا بـ”قضية دريفوس” اليهودي الذي حوكم بتهمة العمالة للألمان في أواخر القرن التاسع عشر، ودافع عنه “زولا” في مقاله الشهير بعنوان “إني أتهم”.
إثبات الولاء.. أولويات العقود الأولى ليهود السينما
كان منتجو السينما اليهود في هوليود يهمهم أولا وقبل كل شيء في تلك الفترة إثبات أنهم مخلصون في انتمائهم للمجتمع الأمريكي، بعد أن أتاح لهم الفرصة للمرة الأولى في تاريخهم للصعود الاجتماعي، بعيدا عن أي قيود تتعلق بالديانة والأصول الاجتماعية.
وكان اليهود في تلك الحالة جزءا من نسيج البنية السياسية والاقتصادية الرأسمالية لمجتمع الولايات المتحدة. وكانوا يبذلون جهدا كبيرا لاحتواء التناقضات الاجتماعية التي نشأت من احتكاكهم التجاري مع احتكارات “الأغيار”.
وسوف يظل الوضع في معظمه على هذا النحو إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز الصهيونية السياسية بمشروعها البديل لإنشاء كيان لها على أرض فلسطين، وسوف يؤدي هذا إلى بروز مشكلة ازدواجية الولاء السياسي والروحي التي لا تزال تلقي بظلالها القوية حتى يومنا هذا، ليس فقط على علاقة يهود أمريكا عموما ويهود هوليود بوجه خاص، بالكيان الصهيوني في إسرائيل، بل على وضع الأقليات اليهودية في مختلف أنحاء العالم.
اقتحام معارك أوروبا.. دعاية حرب “الأمة الأمريكية”
تعرض يهود السينما في هوليود خلال تاريخهم كله لثلاثة اختبارات كبيرة، كانت تدور دائما حول محور الولاء للمجتمع الذي فتح أبوابه أمامهم، وكفل لهم سبل الصعود إلى قمة السلم الاجتماعي.
وقد لجأ هؤلاء إلى “الاندماج” في المجتمع الأمريكي، سواء عن طريق تغيير أسمائهم- كما ذكرنا آنفا- أو الابتعاد عن أشكال وأنماط الحياة اليهودية القديمة في مجتمعاتهم الأصلية، وربما أيضا نبذ العقيدة الدينية اليهودية، أو على الأقل عدم التمسك كثيرا بشعائرها.
كان يهود هوليود يترددون كثيرا في البداية، في إبداء تعاطفهم مع القوى والمنظمات المناهضة للفاشية والنازية، حتى لا يتهموا بمحاولة الزج بالولايات المتحدة في الحرب ضد الألمان في أوروبا، وكانت هناك جبهة قوية في ذلك الوقت تحذر من مغبة انغماس أمريكا في حرب تخص الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية في أوروبا.
لكن حتى بعد إعلان أمريكا الحرب على جيوش المحور، ظل التوجه العام السائد في الأفلام التسجيلية والدعائية وغيرها من الأفلام التي خرجت من هوليود، أن الحرب هي حرب “الأمة الأمريكية” مجتمعة، تذوب فيها الأقليات والعناصر والأجناس كلها، وليست حربا لمواجهة ما يُسمى بـ”العداء للسامية” في أوروبا.
عصر المكارثية.. اختبار صعب يواجه الجيل الجديد
جاء الاختبار الثاني الذي واجهه اليهود بعد الإعلان عن تشكيل ما عرف بـ”لجنة النشاط غير الأمريكي” أو النشاط المعادي، وبدء المحاكمات الشهيرة لأعداد كبيرة من النشطاء اليساريين والشيوعيين، وقد استمرت من عام 1947 إلى عام 1953.
وقد عرفت تلك الفترة بـ”المكارثية”، نسبة إلى عضو مجلس النواب “جوزيف مكارثي” الذي قاد تلك الحملة، وترأس اللجنة التي شكلها الكونغرس للتحقيق مع كل من يشتبه في ميولهم اليسارية، وكان كثير من أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي في الثلاثينيات والأربعينيات من اليهود، بنسبة لا تقل عن 50%.
وكان عدد كبير من الكتّاب والسينمائيين اليهود المناهضين للفاشية قد هاجروا من النمسا وألمانيا وإيطاليا إلى هوليود، وكان معظم هؤلاء من الأجيال الجديدة نسبيا، بينما الملاحظ أن اليهود من جيل المؤسسين لصناعة السينما في هوليود كانوا يميلون بحكم انتماءاتهم ومصالحهم الاقتصادية إلى اليمين.
“الإبادة الجماعية”.. بداية الدعاية للوطن القومي لليهود
بدأت الدعاية الصهيونية تنشط في أوساط هوليود أثناء الحرب، لكنها ركزت في البداية على جمع الأموال والتبرعات من أثرياء اليهود من رجال صناعة السينما، وربطت بين مقاومة النازية ومساعدة يهود أوروبا في النجاة مما أطلقت عليه “الإبادة الجماعية” من ناحية، والمساعدة في تأسيس “الوطن القومي” لليهود في فلسطين من ناحية أخرى.
ومع استمرار الحرب وتصاعد الدعاية الصهيونية واستقطاب أنظار وأسماع الرأي العام في الولايات المتحدة حول موضوع واحد طوال الوقت، وهو ما حدث لليهود داخل معسكرات الاعتقال النازية؛ بدأت نظرة يهود هوليود الكبار تتغير، وبدأت شعارات “الوطن القومي” التي رفعتها المنظمات الصهيونية تدغدغ حواسهم وتثير مشاعرهم.
وأنشأ عدد من اليهود في هوليود فرعا من “لجنة الفنون الأمريكية لفلسطين”، ودشن الكاتب اليهودي “بن هشت” حملة لجمع التبرعات لإسرائيل، وقام حاخام هوليود “ماكس نوسباوم” بزيارة إلى فلسطين في عام 1948، وعاد لكي يدعو لدعم الصهيونية.
وقد قطع قيام إسرائيل عام 1948 كل تردد أمام يهود أمريكا ويهود هوليود، وإن كان قد وضعهم أمام اختبار من نوع آخر هو الاختبار الثالث والأخير.
اللوبي الصهيوني.. فرض سياسات الولاية الـ51 في أمريكا
الآن تأسس الكيان السياسي الصهيوني على أرض فلسطين العربية، وتحققت الفكرة التي عمل الصهاينة طويلا من أجلها، وأصبح مطلوبا من التجمعات اليهودية في الولايات المتحدة، أن تتخذ موقفا محددا من ذلك الكيان، فهل يغادرون الآن أمريكا التي كانت قد أصبحت منذ عصر تدفق الهجرات الأولى “أرض السمن والعسل” الحقيقية بالنسبة لهم، ويهاجرون إلى “أرض الميعاد” كما يزعمون؟ أم يواصلون حياتهم الهانئة في أمريكا، ويتخلون بذلك عن “الوطن القومي”؟
حسم اليهود أمرهم في النهاية، وقرروا البقاء في الولايات المتحدة، مع تبني طموحات وسياسة إسرائيل، ووضعها طوال الوقت فوق مصلحة الولايات المتحدة نفسها، فقد أصبحت إسرائيل رمزا تتضاءل أمامه كل قيمة أخرى.
وقد فرض ظهور إسرائيل واقعا جديدا بين الجماعات اليهودية الأمريكية، فانجذبت الغالبية العظمى منهم للجانب المؤيد إلى حد التعصب والهوس أحيانا، لبقاء إسرائيل دولةَ عدوان وقمع وإرهاب بالقوة العسكرية في الشرق الأوسط، بما في ذلك اليهود الذين كانوا لا يميلون كثيرا في الماضي إلى العنف.
ولعبت الدعاية الصهيونية في الإعلام الأمريكي دورا كبيرا ومستمرا في تبرير موقف يهود أمريكا أمام الرأي العام الأمريكي، كما كان “اللوبي” الصهيوني حاضرا دائما في أعلى مراكز صنع القرار السياسي، وكان يواصل ضغوطه من أجل أن تظل إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة الولاية الحادية والخمسين، والتأكيد الدائم على أهمية ربط المصالح الأمريكية الرئيسية بمصلحة إسرائيل.