“أطفال شاتيلا”.. مجزرة صبرا وشاتيلا بعيون الأطفال الشهود
يتحدث وثائقي “أطفال شاتيلا” للمخرجة الفلسطينية مي المصري عن مخيم شاتيلا، وهو فيلم يستحق الثناء، لا لكونه من الأفلام القليلة التي وثقت أحوال سكان المخيم بعد المجزرة التي تعرضوا لها خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فحسب، بل لأنه يعود إليهم ليرى من خلال عيون أطفالهم الواقع الذي يعيشونه في مساحة يكاد العالم أن ينساها.
لكن أحلام الأطفال بعيش مستقبل أفضل، هو ما يبقي جذوة الأمل مشتعلة في داخلهم، لا يطفئها بؤس عيشهم ولا تعطلها آثار المجزرة الرهيبة التي ما زالت تنغص حياتهم وحياة أهلهم، حتى بعد مرور سنوات على حدوثها.
استنطاق الذاكرة.. طفل شاهد على مجزرة شاتيلا
تدخل كاميرا الوثائقي إلى مخيم شاتيلا، وتأخذ لقطات طويلة من داخله، مصحوبة بصوت الطفل الفلسطيني عيسى وهو يحكي عن المجزرة التي تعرّض لها المخيم، مرفقة بتسجيلات فيلمية (فيديو) قديمة تعزز مصداقية كلامه.
يخبر عيسى المُشاهد بصوت خافت وبإيقاع بطيء متلعثم تفاصيل ما وقع، قبل أن يتحدث عن السبب الذي يُصعب عليه الكلام بشكل طبيعي، ومن خلال حديثه تتشكل بعض تفاصيل مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها ميليشيات لبنانية يمينية موالية لإسرائيل في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 1982، وتحت غطاء من قواتها دخلت تلك الميليشيات إلى المخيم، وذبحت مئات المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
بعد تلك اللقطات الممهدة لفهم ما جرى في المخيم يظهر الطفل عيسى وهو يلعب مع أقرانه بين جدران البيوت التي هدمها الطيران الإسرائيلي، وفي اللحظة التي يكون فيها منفردا يحكي عن حياته التي يعيشها مع جده الذي يرعاه بعد موت والديه، وعن ما تعرض له خلال الاجتياح، يوم كان طفلا يسير في أحد أزقة المخيم، وفجأة خرجت من بينها سيارة مسرعة تعمدت دهسه، وأحدثت كسورا في ساقيه وجمجمته أدت إلى تعطيل جانب من دماغه، لهذا فهو يعاني اليوم من ضعف في التركيز وصعوبة في الكلام.
فرح وعيسى.. طفلان يشتركان في توثيق واقع المخيم
يذهب عيسى في أول أيام العيد مع بعض أقرانه من طلاب المدارس ودور رعاية الأطفال اليتامى، لوضع باقة من الورود على أضرحة الشهداء في مقابر المخيم، وبعدها تنظم لهم إدارة المدرسة فعاليات ترفيهية يستعيدون من خلالها موروثهم الشعبي الفلسطيني.
تلك المَشاهد تصور بعضَها الطفلةُ فرح التي تشكل مع عيسى ثنائيا يرتكز عليه مسار الوثائقي، ومن خلالهما يقترب كثيرا من عالم أطفال المخيم، وبمنح المخرجة كاميرا التصوير لهما، يصبح الطفلان شريكين في عملية توثيق الواقع، ومن خلال مقابلاتهم التي تأخذ شكل تقرير صحفي مع أقرانهم وأهاليهم، يتعرف المُشاهد على واقع المخيم من وجهة نظر سُكانه.
بين آمال الأطفال وذكريات الكبار.. أسئلة المصورين
أول ما يخطر على بال “المصورين” هو الذهاب لمقابلة أطفال المخيم والسؤال عن أمنياتهم، وماذا يريدون أن يصبحوا في المستقبل.
أكثريتهم يريدون إنهاء دراستهم والدخول إلى جامعات ومعاهد، تؤهلهم ليصبحوا أطباء ومهندسين وحرفيين مهرة، يساعدون بعملهم عوائلهم الفقيرة، ويُحسنون مستوى عيشهم البائس في المخيم، أما الأسئلة التي يطرحونها على كبار السن من سكان المخيم، فيدور أكثرها عن الماضي وعن ذكرياتهم في وطنهم، قبل أن يجبرهم المحتل على الخروج منه.
يحكون أمام كاميرا الأطفال عما عانوه خلال هجرتهم الإجبارية، وكيف وصولوا إلى لبنان على أمل الإقامة المؤقتة فيها، ثم العودة إلى الديار التي لم ينسوها يوما، وها هم يتذكرون كل شيء فيها، ويطلبون من الأطفال أن لا ينسوا جذورهم الفلسطينية، وأن يبقى حلم العودة لفلسطين أمانة في أعناقهم، مهما طالت إقامتهم بعيدا عنها.
أعمال المصابين.. بيئة إيجابية تفيض بالتضامن والكفاح
يعتني الوثائقي بالطفلين، ويمضي في كتابة يومياتهما في المخيم، فهما -مثل كل الأطفال- يمضيان وقتهما في الدراسة واللعب بعد انتهائها، لكن عيسى على حداثة سنه يعمل لمساعدة جده في دكانه، وأحيانا في أعمال أخرى.
أما فرح فلا تضطر للعمل لوجود والديها على قيد الحياة، لكنها تشعر بالحزن كلما رأت طفلا صغيرا يخرج إلى العمل، بدلا من الذهاب إلى المدرسة.
حاول عيسى عدة مرات الثبات في عمله، غير أن إصابته وضعف قدرته على التركيز كانا دائما يمنعانه من الاستمرار بأعماله، لكنه بدأ يشعر في عمله الجديد في أحد مراكز التأهيل المهني بالتحسن، لتعاطف الشباب العاملين فيه معه، فجُل العاملين والمتدربين فيه هم من المصابين بجروح والعاجزين عن الحركة.
هذا يفتح مجازا للوثائقي للتعرف على بعض قصص هؤلاء الشباب، فهي توضح جانبا من تجربة معاشة لمجزرة صبرا وشاتيلا وما تلاها، فهم مع شدة العجز لا يتركون الإحباط يلامس دواخلهم، وما مساعدتهم وتشجيعهم لعيسى الذي لا تترك الكوابيس منامه، إلا جانبا من التعبير عن تعاطفهم مع الآخرين، ولا سيما اليتامى وأبناء الشهداء.
سكّان المخيم.. تهميش يطال كل فقراء لبنان
يشعر الباقون على قيد الحياة في المخيم أن وجودهم فيه مؤقت، لأنهم يتطلعون للعودة يوما منه إلى وطنهم فلسطين، لكنهم في الوقت ذاته يُصرّون على تحسين أحوال عيشهم فيه إلى حين تحقيق تلك الأمنية، هذا ما يظهر من خلال دخول الوثائقي إلى بيت عائلة فرح، فوالدها الذي يعمل شغيلا بسيطا في منظمة “الأنروا” لا يخجل من عمله، لكنه يتطلع للأحسن من خلال تطوير قدراته للعمل في حقل الحواسيب الإلكترونية، وفتحه محلا صغيرا خاصا به يُحسّن بمدخوله أحوال عائلته.
لا يتردد الأب في وصف التمييز الذي يشعر به سكان المخيم، فقد أضحى مأوى لا للفلسطينيين فحسب، بل لكل فقراء لبنان من أبناء البلد وغيرهم، ولتأكيد تلك الحقيقة يشير إلى حرمان هؤلاء من الحصول على وظائف بعينها، وأن الباقين في مخيم شاتيلا يتحملون ظلما أخطاء قادتهم الذين تركوهم وحدهم بعد الاجتياح، فباتوا يعيشون بين المطرقة والسندان، يُعانون من تمييز بعض الجهات الحكومية التي تعامل المخيم وسكانه وكأنهم غرباء لا علاقة لهم أبدا بالمجتمع اللبناني.
نساء فلسطين.. بحث عن العمل وتربية استثنائية للأجيال
تجربة والدة فرح تؤشر على رغبة المرأة الفلسطينية للخروج للعمل ومساعدة عائلتها، فمن خلال عملها في روضة للأطفال استطاعت الحصول على دورة تخصصية لدراسة التربية الروضية، وبعد تخرجها منها حصلت على فرصة للعمل مربية في إحدى الروضات.
ينقل الوثائقي جانبا من عملها مع الأطفال، كما ينقل جانبا من تعاطف ابنتها فرح مع عيسى، فقد تطوعت لمساعدته في دراسته بعد انتهاء دوامها المدرسي. ويكشف حديثها ولباقتها عن حسن تربيتها، وعلى تشجيع والديها لها على فعل الخير، كما تكشف أسئلتها لمن تقابلهم وتوثق حديثهم بالكاميرا عن رغبتها في معرفة كل ما يخص تاريخ بلدها فلسطين، أما أسئلة عيسى لجده، فهي تكشف عن رغبة جامحة لمعرفة تاريخ أهله في يافا.
ومع قسوة واقعهما، فإنهما لا يتخليان عن طفولتهما، ويظهر ذلك من خلال فرحتهما العظيمة لحضور عروض فرقة ترفيهية فرنسية جاءت إلى المعسكر لتقديم وصلات مسلية، وقد شعر الأطفال عند إبلاغهم بقرب رحيلها بالحزن، لأن رغبتهم في الإمساك بأي لحظة فرح لا يمكن وصفها، فهم مثل كل الأطفال يحبون اللعب وعيش طفولتهم كما يعيشها بقية أطفال العالم.
التقاط الفرحة.. لحظات ممتعة في انتظار الحلم الكبير
يعرض الوثائقي مشهدا يظهر تمسك الأطفال بالحياة وبحثهم عن الفرح، فنراهم وهم يركبون عربة لقرين لهم ينقل بها الحصى والرمل، وخلال مسيرته في الشوارع نحو وجهته النهائية لتوصيل الطلبات يأخذ الأطفال معه في جولات يشعرون عبرها بالفرح والسعادة، ومع ذلك لا تنفك أسئلة المستقبل عن الحضور إلى أذهانهم.
في المشهد الختامي يسأل الأطفال بعضهم عما يرغبون بتحقيقه مستقبلا، وأكثرهم يريدون العودة إلى وطنهم فلسطين، ليعيشوا بين أهلهم وفي بيوتهم، بعد أن ملّوا عيش المخيمات التي ذاقوا فيها الفقر والبؤس، ومثلهم ذاقت عوائلهم فيها العذاب والموت.
ومع كل هذا الواقع البئيس، وبانتظار يوم عودتهم إلى ديارهم، يتمسك فيلم “أطفال شاتيلا” (1998) بنقل أحلامهم وطموحاتهم بعيش حياة سوية على الشاشة، باشتغال سينمائي بارع يجعله واحدا من أهم الأفلام التي تناولت مجزرة صبرا وشاتيلا من منظور مختلف، فالأطفال هم أبطاله، خلف الكاميرا وأمامها.