“وقال الملك: يا لها من آلة رائعة”.. سردية سينمائية تستعرض تاريخ الكاميرا

يسرد لنا التاريخ أن الملك “إدوارد السابع” شهد عرضا سينمائيا لحفل تنصيبه ملكا على بريطانيا عام 1902، من تنفيذ المخرج الفرنسي “جورج ميليس” مؤسس الحيل السينمائية، وقد أصيب بحالة من الذهول والدهشة، فقد احتوى الفيلم الذي بلغت مدة عرضه ست دقائق، على مشاهد واقعية وخيالية لوقائع الحفل، حينها لم يُصدق الملك ما رآه، وهتف قائلا “يا لها من آلة رائعة”.

تلك العبارة استعارها المخرجان السويديان “أكسيل دانييلسون” و”ماكسمليان فان أرتيك” عنوانا لفيلمهما الوثائقي السويدي الدنماركي الجديد “وقال الملك: يا لها من آلة رائعة” أو (And the King Said, What a Fantastic Machine)، وهو فيلم من إنتاج عام 2023، وقد عُرض في مهرجان برلين السينمائي بألمانيا، ومهرجان “صاندانس” بالولايات المتحدة خلال هذا العام، وحصد جائزة لجنة التحكيم الكبرى خلال هذا المهرجان.
في هذا الفيلم يستكمل المُخرجان مشروعهما الذي يقتحم عالم الصورة، وتأثير هذه المادة على الفرد، وتداعياتها التي تتماس مع البيئة والواقع المُحيط، فقد قدما معا بضعة أفلام، أهمها “لأن العالم لن يتوقف أبدا” (Because the World Never Stops) الذي أُنتج عام 2016، و”الأعمال الجديدة قيد التنفيذ” (New Works-in-Progress) إنتاج عام 2022، وكلاهما يطرق مُعضلة فن الصورة دون مواربة، مما يُثبت أن لديهما همّا ما وأفكارا يرغبان في التعبير عنها والبوح بها.
أما في فيلمنا هذا، فزاوية الرؤية تبدو أكثر اتساعا وشمولا، فالمضمون العام للفيلم مهموم بثنائية الصورة والكاميرا، الصورة بوصفها عنصرا حيويا للإدراك والمعرفة، فلم يتناول ماهية الصورة ذاتها فحسب، بل انطلق لما هو أعمق، وصولا لما وراء هذه المادة، وكيف تحولت من كونها مُعادلا معرفيا وتوثيقيا، إلى سلعة لها مُريدوها، في مقابل عنصر أكثر إثارة للجدل، وهو الكاميرا ومراحل تطورها تاريخيا، من أداة لتوثيق اللحظة واقتناص الذكرى، إلى سوط تحكم وسيطرة.
أسلوب عمل الكاميرا.. إبهار ثورة التصوير الفوتوغرافي
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه مقطعا مصورا بكاميرا الهاتف المحمول، يبدو فيه انعكاس السيارات المُتحركة في الشارع على حائط غرفة نوم صاحبة الفيديو، ثم يأتينا صوتها مُندهشة من الكيفية التي عُرضت بها الصور، فقد بدت في وضع معكوس وكأن أعيننا في الأسفل، بينما تقبع الموجودات في الأعلى.
ويستكمل السرد تأكيد الفكرة ذاتها في المشاهد التالية التي تعرض بعض الأفراد في أحد الأسواق التجارية، ويُشاهدون أسلوب عمل كاميرا التصوير الفوتوغرافية داخل صندوق أسود، يكشف آلية التصوير، وكيف يُجرى تصحيح وضعها المعكوس بفعل العقل البشري.

وهكذا اختار الفيلم أن يبدأ مُباشرة في صلب الموضوع وجوهره، ألا وهو الكاميرا ومدى قوة تأثيرها، ولإثبات وجهة نظر الفيلم، فقد اعتمد البناء على عدد لا حصر له من اللقطات المصورة والمُقتطعة من الإنترنت مُباشرة، ومن وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك من الأرشيف العالمي من الصور واللقاءات النادرة.
كل هذه الصور والمقاطع هي ذات هوية ومعنى خاص بها، إذا جرى توليفها بجوار بعضها، فأصبحت ذات دلالة معرفية وإشارة لا يُمكن إغفالها، وهذا ما جنح إليه الفيلم، حيث اللجوء للتعبير البصري في المقام الأول، والاستعانة بالتعليق الصوتي، الذي قام أدّاه المخرج “ماكسيميليان فان أرتيك” عند الحاجة والضرورة، وبذلك بدا الفيلم في تكوينه مُغايرا عن المألوف، فقد اعتمد الأسلوب على الوسيط ذاته محل العرض والدراسة، وهنا يكمن جزء كبير من قوة الفيلم وجاذبيته.

لكن هذه اللقطات في تواليها وتعاقبها وراء بعضها، تحمل أفكار عدة، تُمثل محاور قراءة الفيلم، فالمحور الأول يتعلق بالناحية التاريخية لفن الصورة، وكيف تطور مع مرور الزمن، والشق الآخر الذي يتعرض له الفيلم هو قوة الصورة على الفرد والمجتمع، وإمكانية التأثير من خلال هذه الوسيلة الحديثة نسبيا على المُحيط العام، سواء عبر منصات الإعلام أو في زمننا الآني بالتفاعل على سائل التواصل الاجتماعي.
“وصول القطار إلى المحطة”.. أول عرض جماهيري
بعد هذه المُقدمة الموجزة، يُدخلنا الفيلم إلى محوره الأول، عبر رحلة تاريخية لاستعراض فن التصوير وبدايات نشأته، حيث يعود بالزمن للعام 1828، تاريخ ظهور أول صورة فوتوغرافية في التاريخ، للعالم الفرنسي “جوزيف نيسيه”.
يستمر الفيلم في سرد المحاولات اللاحقة لاكتشاف هذا العلم الجديد، فقد توالت التجارب ما بين بريطانيا والولايات المتحدة، التي سعى عالِمها ذو الأصول الأوروبية “إدوارد موبيريدج” لاقتناص أول صورة مُتحركة أثناء إحدى سباقات الخيول، ومنها استُلهمت بدايات الفن السينمائي.

بدأ هذا الفن مع الأخويين “لوميير” في فرنسا خلال عام 1895، مع أول عرض جماهيري لفيلمهما الشهير “وصول القطار إلى المحطة” (The Arrival of a Train)، ولا يتوقف الفيلم عند هذه المرحلة فحسب، لكنه ينتقل لكشف تفاصيل أكثر سخاء.
يُخبرنا الفيلم مُستعينا باللقطات النادرة، عن التجارب اللاحقة لهذا العرض التاريخي، ففي بريطانيا صُوّر خروج العمال من أحد المصانع، وفي نفس الآن صُور فيلم آخر تدور أحداثه عن الغرب الأمريكي، أما القصة الأكثر طرافة، فهي استعانة فريق “مانشستر يونايتد” لكرة القدم لتصوير مقاطع من مبارياته لأغراض الدعاية.
“للحفاظ على الوهم، ينبغي إخفاء بعض العناصر”
وهكذا يواصل الحكي سرد المراحل المُتعاقبة لتطور فن الصورة، وصولا للمخرج الفرنسي “جورج ميليس” الذي سعى لتوظيف الحيل السينمائية في عروضه، ومع أن هذه المُقدمة قد تبدو طويلة نسبيا، فإنها تحمل تأسيسا لما سيأتي من أفكار فيما بعد، فإذا كان كل ما سبق يسعى لتناول تأثير الصورة في الماضي، فإن الحاضر يحوي في جعبته ما هو أكثر إثارة للجدل.
ثم ينقلنا السرد للعام 2010، حين زلزال هايتي. ففي تلك الأجواء، تسابقت وكالات الأنباء لتصوير توابع ما جرى، لكن من بين كل الحُطام والفوضى وأعداد الموتى التي تتكاثر دون توقف، صعدت إلى الأفق صورة الفتاة المُلقاة جثتها بجوار الصخور، أما الجانب المُعاكس من الصورة الذي يعرضه الفيلم، فتظهر فيه حشود المصورين وكل منهم يتسابق مع زميله للوصول للزاوية المُثلى للتصوير.
وهنا يأتينا التعليق الصوتي قائلا “للحفاظ على الوهم، ينبغي إخفاء بعض العناصر”، وهذا ما لجأ إليه صناع السياسة في البلاد الغربية فيما بعد، لبث علامات مُبطنة موحية بالقوة الزائفة.
خداع زوايا التصوير.. صناعة القوة وتزييف التاريخ
تتعاقب الصور ومقاطع الفيديو المصورة للزعماء والرؤساء، تُظهرهم بزاويا مُحددة، يُمكن من خلالها قراءة مدلولها المقصود تماما، فالصور في هذه الكيفية تُعطي انطباعا ما بالعظمة والقوة، وهو ما يُناقض الواقع بالتأكيد، وفي هذا الإطار يعود بنا الفيلم للوراء قليلا في ثلاثينيات القرن الماضي، أثناء صعود المدّ النازي.

ويرصد عبر لقاء مع المُخرجة الألمانية “ليني ريفنستال” التي اشتهرت بتصوير الأفلام الدعائية للنظام الألماني خلال هذه الفترة التاريخية، إذ تقول في معرض حديثها عن قوة الصورة وفعالية تأثيرها، إن التوجه السياسي لا يعني شيئا في العملية الفنية التي تُقدمها، فما تفعله هو تقديم خُطبة ما لـ”هتلر” في خمس دقائق بدلا من ساعتين، فالمقدمة والنهاية لا خلاف عليهما، لكن السر مكنون داخل رسائل الترهيب في باطن الفيديو.
وعند هذه النقطة تلتقط الكاميرا حشود الجيش الألماني من زاوية علوية تُظهر قوته المُفرطة، حتى وإن بدت الصورة الحقيقية مُخالفة لما نراه، فالكاميرا بحركتها المحسوبة بدقة، قدمت رؤية ما ظلت عالقة بالأذهان، وهنا تتضح قوة الصورة بجلاء ووضوح لا يُمكن إنكارهما.
يستطرد الفيلم في الحديث عن قوة الصورة، ويعرض لقاءا نادرا من الأرشيف مع المنتج البريطاني “سيدني لويس برنشتاين” مؤسس شبكة غرناطة الإخبارية، ويصف فيه بنزاهة تصوير خروج الأسرى من المُعتقلات النازية، وتعليماته المُشددة للجنود ومسؤولي الفيديو بأن يصوروا كل ما يعترض طريقهم، حتى وإن كان بلا أهمية تُذكر، وعند سؤاله عن حُجة تنفيذ هذه الأوامر، أجاب بأن على الألمان أن يُدركوا ثمن فعلتهم، بل العالم أجمع.

ومع قليل من التَبصر، يُمكن التشكيك في صور الحرب العالمية الثانية وما تبعها من أحداث، وهنا يُباغتنا الفيلم بإشارة مُستترة، قوامها شيء واحد، ألا وهو ضرورة إعمال العقل، والتفكير والتدبر، لا في الصورة المُسلطة باتجاه أعيننا فحسب، لكن بمحاذاة النصف الآخر غير المرئي، فالحقيقة تقبع بين السطور المحجوبة.
تغير السلوكيات اليومية للمجتمع.. سطوة الإعلام
بحلول منتصف خمسينيات القرن الماضي، ثم عقد الستينيات، اتجهت بلدان كثيرة نحو مواكبة التطور التلفزيوني، وعلى إثر هذه المُتغيرات المُتلاحقة، بدأت سلوكيات الأفراد في التبدل، فقد أُضيفت إليها عادات جديدة، واستُبعدت طقوس معتادة، وهكذا في ديمومة مُتدفقة.
وهذا ما يكشف عنه الفيلم، إذ يأتينا مقطع قديم من لقاء لإحدى شبكات التلفزيون الأمريكي، نرى فيه أسرة اقتنت أحد أجهزة البث التليفزيوني، يقول الزوج خلال اللقاء إنه بعد يوم عمل شاق ومُجهد، لا شيء أفضل من الجلوس أمام شاشة التليفزيون ومُتابعة ما يجري.

وفي المقابل يُطالعنا الفيديو الافتتاحي لمحطة التلفزيون الأيرلندية، وفيها يكشف الرئيس آنذاك “إيمون دي فاليرا” عن تقديره للدور المعرفي الذي يلعبه هذا الجهاز من الناحية المعلوماتية، لكنه يُزيح الستار عن مخاوفه قائلا: هذه التكنولوجيا الحديثة أقرب للطاقة النووية، إذ يُمكن استخدامها في الخير، لكنها تملك ضررا لا يُمكن إصلاحه.
هكذا يضعنا الفيلم أمام معضلة هذا الجهاز وجها لوجه، فهو يبدو طرفي مقص، يحوي هذا الجانب وذاك، وما على الفرد إلا الاختيار، وهذا ما يرغب الفيلم في قوله، وذلك عبر تمرير حزمة من الصور والفيديوهات التي تُزيح اللثام عن الوجه الآخر للتلفزيون.
تلاعب الإعلام.. فن توجيه الجماهير إلى الأهداف
يبثُ الفيلم رسالة تضمينية هدفها التحذير من سيطرة وسائل الإعلام في الغرب على حياة الأفراد، سواء عبر بث المواد الإخبارية أو الترفيهية من ناحية، وما يقابلها من مواد إعلانية، تعمل على إثارة عقلية وغريزة المتفرج الحالي، أو ما سيصبح عليه في القريب، بوصفه مشتريا مُحتملا من ناحية أخرى.
فالصورة لديها تلك القوة الموحية التي تدفع المُتلقي للاقتداء بها ومُحاكاتها، ومن ثم يبدو أسلوب عمل وسائل الإعلام الأجنبية مُدركا لهذا التأثير المُتنامي للسلعة الإعلامية، فيكشف الفيلم عما يدور خلف كواليس المحطات التلفزيونية الغربية والأمريكية -على وجه التحديد- من تقنيات وأساليب، ويعمل على تقديم الصورة الصحفية وفق صياغات ليست بالبريئة، مما يُساهم في دفع الوعي الجماهيري لاتجاه ما، بينما تقبع الحقيقة مُستترة في الخفاء.

ومع تدفق السرد يستمر الفيلم بكشف المزيد من التوجهات العجيبة لوسائل الإعلام الغربية، وما يوازي هذه التقنيات من تطوير مُتصاعد على مستوى الوسيط الذي اختلف تدريجيا مع مرور الزمن وتواليه، فإذا كان التأثير في الماضي يعتمد على ما يُنشر في الصحف والإعلام الموجه مباشرة للجماهير، فإن الوضع في الحاضر قد تبلور وفق أشكال أكثر حداثة، تتناسب مع تقنيات العصر، فلكل زمن تراكيبه ومرادفاته التي تتواءم معه.
وسائل التواصل الاجتماعي.. إعلام ما بعد الحداثة المرعب
يذكرُ التعليق الصوتي أنه “بداية من الألفية الجديدة انطلقت الثورة الرقمية، حينها بزغت للوجود تقنيات حديثة، أتاحت لأي شخص نشر ومُشاركة الصور، لذا فإن التكنولوجيا لم تُغير نظرتنا ومُشاركتنا للعالم، بل غيرت أسلوب استخدامنا للكاميرا”.
وعند هذه النقطة تتدفق على الشاشة عدة مشاهد لركاب مترو أنفاق في إحدى البلاد الأوروبية، وجميعهم مُمسكون بهواتفهم المحمولة، وعيونهم مُحدقة على اتساعها نحو الشاشات المُضيئة، وهي استعارة مكنية يؤكد بها الفكرة التي يرغب في التعبير عنها، في تناسق وتفاهم واضح بين الاتجاهات السردية والعناصر البصرية المُشكلة لنسيج الفيلم.

وهنا يطرق الفيلم فكرة جديدة وإشكالية، تتعلق بانعكاس الاستخدام المُفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، ومساهمتها في ارتفاع شأن الصورة، واتخاذها مكانة مُتباينة، من عنصر توثيقي إلى عنصر إثارة، بحثا عن جذب الأنظار، فالواقع أن مُعدلات نشر الصور ومقاطع الفيديو على الشبكة الدولية، يتضخم بنسب تبعث على التأمل، ومن ثم يُمكن الكشف عن عناصر هذه المُعادلة بنظرة تأملية، فكلما ازداد نشر الصور ازدادت درجة الوحدة الفردية في المُجتمع، في تناسب طردي بينهما، بحثا عن شيء واحد، ألا وهو الاهتمام والعناية.
وهكذا يتواصل الفيلم ولا يتوقف عن إدهاشنا بكمّ المعلومات التي يُقدمها بسلاسة ملحوظة، إذا يُخبرنا بأن ما يُنشر من فيديوهات على الإنترنت يُقدر بنحو مليار ساعة يوميا، وهو رقم مثير للدهشة والخوف في نفس الآن، ولا يعود السبب في ذلك لاتساع رقعة المستخدمين، بقدر تعبيره عن تفاقم قوة الكاميرا وسيلةً لممارسة الحياة، وكأن الاستمرار في العيش لا يستقيم بدونها، وهو هوس مُتزايد بتأثير الصورة والتفاعل تجاهها.
يسعى الفيلم للوصول لما وراء الصورة، وتأثيرها على المتلقي، فقد تبدو في جانب منها ذات بُعد طريف، بينما هي تملك اتجاها آخر لا يخلو من الحزن، وهذا ما يرغب الفيلم بالتعبير عنه، بحسب قول المُخرجين في إحدى الحوارات الصحفية “محو الأمية الفوتوغرافية”، ولتقديم هذا المحتوى التحذيري، عمل المُخرجان على مادة الفيلم حوالي 5 سنوات، لجمع ودمج هذه اللقطات معا في وحدة عضوية واحدة.
ولا شك بأن الشكل العام للفيلم بدا ساحرا مُبهرا، فمع أن البناء العام للسرد ما هو إلا عبارة عن عدد غير محدود من اللقطات الأرشيفية، فإنها ذات سياق واحد متصل ببعضه، والفضل في هذا يعود إلى المونتاج ذي الإيقاع المتدفق، أما من ناحية المضمون، فنحن أمام سردية جريئة لتاريخ الصورة، تبعث على التأمل والتفكير، وتفتح بابا مواربا للسؤال عن واقعنا المعاش في ظلال سيطرة الصورة، وهل يُمكننا العيش بعيدا عن بؤرة الاهتمام؟ أم أن الجميع سقط في المصيدة؟