“الختيار- البدايات”.. إعادة الحماسة الثورية وصدام مع دول الجوار
“الختيار”، سلسلة وثائقية أخرجها للجزيرة الوثائقية محمد بلحاج، وجعلها في ثلاث حلقات، هي “البدايات” و”التقلبات” و”التسوية”. وكلمة ختيار، مفردة تركية الأصل تعني الشيخ (الحكيم)، وتأخذ في بلاد الشام معنى عميد القرية أو عمدتها، أما في الفيلم فقد جمعت المعنيين معا.
وتفاعلا مع السياق السياسي والعسكري الحالي الذي يواجه فيه الفلسطينيون العزّل الإجرام الإسرائيلي والتواطؤ الدولي، سنتبسط في قراءتها بالبحث في مادة الفيلم من جهة ما تعرض من الأفكار والمواقف أكثر من بحثنا في الوظيفة الجمالية لخطابها السينمائي. ففي مثل هذه السياقات يتراجع الجمالي إلى الخلف رغم أنه يبقى موجّها من موجهات الفهم والتأويل.
“السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ”.. أيام مصر
يأخذنا الفيلم سريعا إلى عرفات الشاب الذي يغادر القدس نحو القاهرة، وفي البال أن تكون محطة عبور إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة. ولكنه يجد نفسه منخرطا مع المصريين في قتال القوات البريطانية في 1951-1952 ثم في العدوان الثلاثي 1952.
ولا يشرح لنا خلفيات هذا التحوّل الجوهري في أهداف الشاب أو أسبابه، ولكن يبدو أنّ الهم الوطني والقومي وإيمانه بوحدة المصير العربي قد همس إليه بقول أبي تمام:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
ثم انصرف بعدها إلى القضية الفلسطينية المترنحة، فمنحها كثيرا من الحماسة والأحلام الكبيرة، وتكشف حوارات أجريت معه في هذه الفترة ما كان عليه من الاندفاع، ومن الإيمان بأن قدر الفلسطيني أن يعول على نفسه وأن يبادر، فيطلق حركة تحرير وطنية عبر الكفاح الجماهيري المسلح.
كما يبدو جليا اقتناعه بأن هذا الهدف لن يتحقّق إلا بوجود هيكل قادر على استقطاب الجماهير ووضعها أمام مسؤوليتها، وهذا ما جسّده عمليّا، فقد التقى -بعد حصوله على شهادة الهندسة وانتقاله إلى العمل في الكويت- بشبان فلسطينيين يقاسمونه الأحلام بتحرير الوطن، فعمل معهم على تأسيس هذا الهيكل الثوري.
تأسيس حركة “فتح”.. ميلاد التاريخ الجديد للنضال الفلسطيني
تعدّ سنة 1957 تاريخ التأسيس الفعلي للهيكل التنظيمي الثوري الذي أُسس في سبيل القضية، وكان ذلك إثر اجتماع ضمّ ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان ويوسف عميرة وتوفيق شديد. وقد اختير له اسم “فتح” اختزالا للحروف الأولى -بعد تعديلها- من التسمية الأصلية “حركة تحرير فلسطين” (حتف).
أراد مؤسسو “فتح” أن تكون حركة غير فكرية، مع أنّ بعض منتسبيها كانوا منتمين أصلا إلى الإخوان المسلمين، مثل محمد يوسف النجار وكمال عدوان، وعرفات نفسه الذي كان مقربا منهم دون أن ينخرط معهم. وقد رفعت “فتح” شعار فلسطين للفلسطينيين جميعا، وأرادوا لها أن تبقى بمنأى عن الصراع الفكري في زمن غلبت عليه الصراعات الفكرية.
ثم انضم إليها التيار الوطني العام، فكان لهذه الحركة دور مهم في الإعداد للكفاح المسلّح، سواء بتدريب الشباب الفلسطيني، أو بتوفير السلاح وجمع الأموال، أو بإعادة القضية إلى قلب النقاشات العالمية. ويذكر المناضل في الحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة أنه عرف ياسر عرفات لمّا كان يخطب في المؤتمر اتحاد الطلاب العالمي ببراغ، ولاحظ لديه كثيرا من حماسة جمال عبد الناصر وروحه في خطابه.
“نفق عيلبون”.. عملية خارج الخطة العربية
عبر ياسر عرفات بالحركة إلى العمل الميداني، فشكل القيادة العامة لقوات العاصفة، وكان يؤمن بأن الصدام مع المحتل سيكون الشرارة التي تشعل لهيب المشاعر الوطنية والقومية، وكانت البداية أشبه بحرب العصابات في العملية المعروفة باسم عملية “نفق عيلبون” التي استهدفت تفجير شبكة مياه، ثم أخذت عملياتها تتصاعد منذ العام 1965، وهو تاريخ الإعلان الرسمي لتأسيسها، فمثلت هذه العمليات تمردا على عقلية الاستسلام الذي غلب على القيادات العربية الوطنية حينها.
لم تكن هذه العمليات الميدانية محل إجماع، فلم تجد ترحيبا في الوسط السياسي الفلسطيني، فقد تحفظت عليها القيادة العربية الموحدة، ورأت أنّ التوقيت غير ملائم، وأن التصعيد المبكر مضرّ باستعدادات المواجهة العربية.
ولهذه الأسباب، صنفت حركة فتح “خارج الخطة العربية”، فطُرد أعضاؤها من مختلف الدول العربية، وكانت محل توجّس في مصر، خوفا من صلات محتملة بحركة الإخوان المسلمين التي تصادمت مع النظام الناصري، وربّما كان للماضي الإخواني لبعض قياداتها دور في ذلك، فقد تعرض من كان منهم في الأردن للاعتقال، كما عُمّم منشور لإلقاء القبض على ياسر عرفات.
معركة الكرامة.. تجسيد صورة المكافح والقائد الصلب
دافعت حركة “فتح” عن نفسها بأنّ مخططاتها في الميدانين العسكري والسياسي لا تتعارض مع المخطط الفلسطيني والعربي الرسميين. وانتقد عرفات روح الاستسلام التي تحكم العمل الفلسطيني متسائلا: لماذا يستسلم الفلسطينيون من دون بقية الشعوب؟
وبعد 1967، تمركز فدائيو فتح في الأردن، واستطاعوا تحويل المقاومة من عمل مجموعات صغيرة تعتمد أساليب العصابات إلى حركة تحرر وطني لها صيت على الصعيد العالمي، وهناك في الأردن دارت معركة الكرامة 1968 التي قادها ياسر عرفات بنفسه في أغوار الأردن، وقد وقعت في بلدة الكرامة بين الفدائيين الفلسطينيين والقوات المسلحة الأردنية من جهة، وجيش الاحتلال الإسرائيلي من الجهة الأخرى، وكان ذلك في 21 مارس/ آذار 1968 أثناء حرب الاستنزاف.
منحت هذه المعركة حركة التحرّر الفلسطيني تقديرا عربيا وإشعاعا دوليا، فقد جعلت الفلسطينيين يأخذون زمام المبادرة بأنفسهم، بدل انتظار الدعم العربي الذي دأب عليه الفلسطينيون منذ ما قبل النكبة دون أن يتجسّم فعليا.
كما أظهرت عرفات في صورة القائد الصلب الذي يعبّر عن إيمانه بأن الهزيمة ليست عيبا، لكن العيب في الاستسلام، فأضحى الزعيم الفلسطيني الأبرز، وفُتحت له سبل التفاهم مع جمال عبد الناصر، وأتاحت له الحضن المصري الذي كان يرفضه.
رمز النضال.. آفاق العمل السياسي ضد المشروع الاستعماري
من العوامل التي جعلت ياسر عرفات زعيما عالميا، وصله بين العمل الثوري والعمل السياسي، فقد انضمت فتح إلى منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1968، وفي مؤتمرها المنعقد بالقاهرة سنة 1969، انتُخب عرفات رئيسا للمنظمة، فتبنى خطابا يجمع بين تأكيد العمل المسلح والبحث عن أفق ما لحل القضية الفلسطينية.
وقد مثّلت فكرة تحرير البلاد من الهيمنة الصهيونية والتعايش بين مختلف الأديان عنصرا ثابتا في خطابه، ومن ضمنيات هذا الخطاب القبول بالوضع الديمغرافي القائم، والتسليم بوجود اليهود القادمين من مختلف أصقاع العالم على أرض فلسطين، ضمن دولة ديمقراطية تكفل حقوق الجميع، لكن هذه الفكرة كانت مرفوضة إسرائيليا دائما.
ومع أنه كان ذا خلفية محافظة، فقد أكّد باستمرار أن إسرائيل مشروع صهيوني إمبريالي استعماري عالمي، ما كان له أن يصمد أو يستمر لولا المؤامرات التي تتعرض لها الفلسطينيون من الدّاخل الوطني أو العربي، ومن الخارج الأوروبي والأمريكي خاصّة.
وقد مثلت هذه النقطة الجوهرية عنصر التقائه مع الفكر الماركسي، فانفتح على اليسار الأوروبي، ووجد تعاطفا من اليهود الماركسيين، وبات رمزا من رموز النضال من أجل التحرّر الوطني في العالم بأسره.
“السلطة كل السلطة للمقاومة”.. صراع ضد الملك
بعد هزيمة 1967، نقل الفدائيون الفلسطينيون قواعدهم من الضفة الغربية إلى الأردن، وصعَّدوا هجماتهم على الأراضي المحتلة، لا سيما بعد أن حازوا على الدعم العربي، ونظرا لتصاعد قوة منظمة التحرير، ولكون أكثر من نصف سكان الأردن من الفلسطينيين المهجرين، أصبح عرفات يطمح إلى أن يكون صاحب القرار هناك، وأصبحت منظمة التحرير في الأردن تتصرف في سلوكها السياسي والميداني وكأنها دولة داخل الدولة.
وقد صادفت هذه التحولات ظهور اتجاه عند اليساريين، يتبنى فكرة إسقاط النظام الأردني، تحت شعار “السلطة كل السلطة للمقاومة”. وقد شجّع هذا بعض الفدائيين على تجاهل القوانين واللوائح المحلية، وحاولوا اغتيال الملك حسين، ثم بدأت المطالبة بالإطاحة بالملكية الهاشمية تظهر علنا بحلول عام 1970.
وفي تلك الأثناء، كان الجيش الأردني يضغط على الملك، ويقول إنه لن يستطيع أن يتعايش مع قوات مسلحة غيره على الأرض، ومن البديهي أن يفضي ذلك إلى صدام عنيف بين القوتين، فبدأت ملامحه تظهر منذ يونيو/حزيران 1970، ثم ما لبث أن تحوّل إلى صراع دام في الفترة الممتدّة بين 16-27 أيلول/سبتمبر 1970، وعرف بـ”أيلول الأسود”.
“أيلول الأسود”.. نهاية الوجود الفلسطيني في الأردن
هاجمت القوات الأردنية المدن التي توجد فيها عناصر منظمة التحرير مثل عمان وإربد، وكثفت قصف الفدائيين في مخيمات اللاجئين بالمدفعية الثقيلة والدبابات، واصطدمت بقوة سورية داعمة للفلسطينيين فألحقت بها خسائر فادحة.
وبعد 12 يوما، توقف القتال إثر تدخل البلدان العربية، لعقد اتفاق مع ياسر عرفات، يقضي بإعادة انتشار الفدائيين وتنظيم وجودهم على الأراضي الأردنية. ولكن في يناير/ كانون الثاني 1971، عاودت القوات الأردنية الهجوم، لتطردهم من الأراضي الأردنية، ولينتقلوا إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
وقد اتهم عرفات السلطة الأردنية بعدم الاكتراث بالشأن الفلسطيني، وكثف حربه الإعلامية عليها، ولكنه في النهاية خضع للأمر الواقع، وحاول التقرب من الأردن، قائلا إنه لن يخوض معركة ضد الجيش الأردني، حرصا على الشعب الفلسطيني في عمان. ومن المفارقات أن هذا التبرير تكرر في لبنان، حين أرغم على تركها في 1982.
وكانت المعضلة التي واجهت ياسر عرفات والملك حسين استحالة الانسجام بين مكونات سلطة ذات رأسين وفكرين على أرض واحدة، واستحالة التعايش بين فكر الدولة الذي يتطلّب السلوك المنضبط تجاه الآخر في ظل نظام دولي يمنح أمن إسرائيل الأولوية القصوى، وفكر الثورة الذي يعني التمرّد على كل الأعراف والمواثيق المفروضة لتأبيد الوضع القائم.
“يا سارية الجبل”.. حط الرحال في فسيفساء لبنان المعقدة
بعد أن أُغلقت الأراضي الأردنية أمامهم، قرر الفدائيون نقل أعمالهم إلى لبنان، وأعطى عرفات لهذا الحدث زخما دينيا وهو يردد في خطابات وتصريحاته لنحتمِ بالجبل، تلميحا إلى ما ينسب في التراث الإسلامي إلى حادثة “يا سارية الجبل، الجبل”. فقد كان سارية بن زنيم يقود جيشا للمسلمين في بلاد فارس، فسمع نداء الخليفة عمر بن الخطاب لهُ من المدينة قائلا: “يا سارية الجبل.. الجبل”، فانحاز إلى جبل فكان لهم الانتصار على الجيش الفارسي.
ومع أن الفلسطينيين في البداية لقوا ترحابا شعبيا في لبنان، فقد برزت سريعا التباينات التي ظهرت في الأردن، فوجود قوة مسلحة خارجة عن سلطة الدولة اللبنانية سيخوّل لفلسطينيي المخيمات توسيع مخيماتهم، ضمن ما يقتضيه التمدد الطبيعي لكل تجمع سكني، وسيكون على حساب ممتلكات الأهالي طبعا.
وفضلا عن ذلك، لم يكن سلوك الفصائل المسلحة منضبطا دائما، لا سيما بعد توسيع قواعدهم بالجنوب، ولكن الوضع في لبنان غير الوضع في الأردن، فقد كان البلد يعاني تعسرا في التعايش بين الفسيفساء الطائفية المعقدة، وجاء الفلسطينيون بقواتهم ومشاكلهم فمثلوا عبئا مضاعفا، خصوصا أنهم جميعا من المسلمين السنّة.
وفي ذات الوقت، كان الزعيم الدرزي كمال جنبلاط يضيق بمنظومة الحكم اللبنانية التي يهيمن عليها المارونيون، ويبحث عن سبل للتخلص منها، فعمل على إنشاء تحالف مع القوى الفلسطينية الوافدة، وهكذا وجد الفلسطينيون أنفسهم في عمق الصراع اللبناني، وستحسب الحرب الأهلية التي تلوح في الأفق عليهم، وسيتحوّل الصراع اللبناني الداخلي إلى صراع لبناني فلسطيني، وسيقع عرفات في الأخطاء نفسها التي انجر إليها في الأردن.